في مسلسل "العندليب"، الذي يروي قصة حياة عبد الحليم حافظ، كان هناك مشهد توقفت عنده طويلاً. في المشهد، يقف عبد الحليم حافظ ليغني وهو في بدايات مسيرته الفنية، أمام جمهور كبير في الإسكندرية. وعندما بدأ في أغنيته، أخذ الجمهور يرميه بالطماطم والبيض الفاسد، وهو يطلب منه أغاني لعبد العزيز محمود وغيره من مطربي تلك الفترة، لكن عبد الحليم يرفض الانصياع لرغباتهم، وهو الذي كان ينتظر هذه الفرصة بفارغ الصبر. وبعد فترة زمنية ليست طويلة، عاد عبد الحليم للغناء على المسرح نفسه وفي المكان نفسه، وشدا ذات الأغاني، فإذا الأكف تلتهب بالتصفيق، فما الذي جرى: ذات المغني، وذات الجمهور، وذات المكان، وذات الأغاني؟، هل تغيرت أذواق الناس خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة؟ لاأظن ذلك، فتغير الذوق يحتاج إلى مدة أطول من ذلك بكثير، لكن القضية يمكن حصرها في سيكولوجية الجماهير وموقف المغني في هذه الحالة. فسلوك الجماهير تحكمه دوافع ونوازع ومحرضات متعددة ليس منها الموضوعية والعقلانية بأي حال من الأحوال. العادة، والتقليد، والعاطفة، والتعصب، والخوف من المجهول، والحماسة المشبوبة، كل هذه تشكل جزءا من باقة تلك الدوافع التي تقف وراء السلوك الجماهيري، والتي استخدمها بعضاً للوصول إلى زعامة سريعة، وشعبوية قادرة على تحريك هذه الجماهير في الاتجاه المراد لها أن تسير فيه. وعلى الطرف الآخر من المعادلة، هنالك المغني الذي رفض أن يخضع لإرادة الجماهير، فرمته بالبيض والطماطم، ثم عادت لتصفق له وتردد أغانيه الممجوجة سابقاً. فلو أن المغني المعني هنا، خضع لتلك الإرادة، لاكتسب شعبية سريعة، لكنه سوف يكون مضللاً لنفسه، ولن يكسب نفسه ، وهذا هو الأمر الذي لم يفعله عبد الحليم حافظ ، ضارباً بالشعبية الآنية السريعة عرض الحائط، وكان هو الكاسب في النهاية. حقيقة ليس الهدف هنا هو الحديث عن مسلسل أو مسيرة حياة عبد الحليم حافظ، بقدر ما أن الموقف المتَحدَّث عنه في المسلسل، أثار أفكاراً في الذهن عن علاقة القائد بالجماهير، وعلاقة المثقف بالجماهير، من حيث طرح تساؤلات جوهرية، خصوصاً في الحالة العربية المعاصرة: مَن التابع ومَن المتبوع؟ مَن المؤثر ومَن المؤثر فيه؟ مَن يجب أن يكون تابعاً ومَن يجب أن يكون متبوعاً؟، وغير ذلك من أسئلة تبدو وكأنها نظرية بحتة، لا علاقة لها بفعل أو عمل، بينما هي في واقع أمرها تمس صميم واقعنا السياسي والاجتماعي المعاش.فعندما يُدمر بلد بأكمله، ويشرّد مَن يشرد، ويُقتل مَن يقتل، ويُنسف في أيام معدودات كل ما تم إنجازه في سنوات، ومع ذلك تخرج إلينا زعامات تدّعي النصر وتدغدغ عواطف الجماهير بشعارات دينية وقومية وغير ذلك، ثم يأتي مثقفون ينظرون لمثل هذا الوضع، ويبررون أي شيء وكل شيء، تارة باسم المقاومة، وتارة باسم الدفاع عن شرف الأمة، وتارة أخرى باسم الحفاظ على الكرامة، فإن في الأمر خطأ ما، إن لم يكن خطيئة جسيمة. فهل من الشرف أو الكرامة أن يُدمر لبنان مثلاً نتيجة مقامرة، ولا أقول مغامرة، غير محسوبة العواقب، ثم يبدأ البلد في استجداء المساعدات للعودة إلى حالة ما قبل الدمار؟، وهل من المقاومة أن يُشرد ويُقتل الألوف من أجل عمل أُريد من ورائه شعبية سريعة، أو القيام بمهام الآخرين بعيداً عن أرضهم، أو مجرد مغامرة لم يحسب حسابها؟، نعم للمقاومة، لكن للمقاومة أشكالا متعددة، والعدو أيضا له صور أشكال متعددة ايضا، فالتضليل بالأوهام عدو، والخطاب المضلل عدو، واللعب بمصائر الشعوب عدو. المقاومة، كما الجهاد، ليست شكلاً واحداً لا شكل غيره، فهي تبدأ بالنفس ولا تنتهي بالصدام. والمشكلة في نهاية الأمر لا تتعلق بالحدث، فقد حدث وانتهى أمره، لكن المشكلة في طريقة التعامل مع الحدث، وفي الخطاب الذي من خلاله يُنظر للحدث، سواء كان هذا الحدث هو ما حدث في لبنان مؤخراً، أو ما حدث قبل ذلك، وما سيحدث بعد ذلك، إذا بقي الخطاب التليد، خطاب الشعارات والشرف والكرامة والمقاومة، هو السائد، رغم كل النكسات ورغم كل النكبات. لقد هُزمت اليابان شرّ هزيمة، وقبعت القواعد الأميركية على صدور الكوريين، وأُرغمت ألمانيا على توقيع معاهدات مرّغت أنفها في التراب، وعانت الهند من ذلّ الاستعمار طويلاً، وكادت الصين أن تصبح مجتمعاً من المدمنين، لكنهم جميعاً لم يستسلموا، بل قاوموا وصارعوا، لكن لم يكن العنف أحد الخيارات، ولم تكن المغامرات غير محسوبة النتائج أحد البدائل. قاوموا حضارياً، فكانت نهضة اليابان وألمانيا، وكانت منافسة الصين وكوريا الجنوبية، فيما شقيقتها الشمالية تبذر الموارد على قوة وهمية وسيادة هي قهر للإنسان في نهاية المطاف. كل هؤلاء غيّروا من خطابهم وأساليب تعاملهم مع الأمور، حين تبين أن الخطاب التليد قادهم إلى الدمار، فغيروا الخطاب وغيروا الأسلوب، فكانت الكرامة وكان الشرف وكانت المقاومة الحقة. أما في دنيا العرب، فما زال خطاب الثأر هو السائد، وما جنينا من الثأر إلاّ الثبور وعظائم الأمور. أين يقع اللوم في كل ذلك؟ مَن هو المسؤول عن كل هذه المآسي والأوهام الضارة ؟! فالجماهير تُقاد ولا تقود، لكن الأمر مختلف في دنيا العرب. نعم كل الجماهير تُقاد ولا تقود، لكن في دنيا الآخرين هناك استفادة من التجارب والكوارث والنكسات، حيث يعود القادة والزعماء والمثقفون إلى وعيهم، فيكونون كذبابة سقراط: توقظ ولا تنيم، تلسع ولا تخدر. أما في عالم العرب، فالكل، إلا من رحم ربك، يُراهن على الجماهير، ويدغدغ عواطف الجماهير، وينساق وراء الجماهير، وذلك على حساب الجماهير. فالجماهير تحتاج إلى مَن يقودها لا إلى مَن يسير خلفها، ومَن ينيرها لا إلى مَن يضللها، لكن قادة الرأي والقرار فينا، ولا أعمّ هنا، لا يرددون إلاّ أغاني عبد العزيز محمود، ولا يحاولون سماع عبد الحليم حافظ، حتى وهم يعلمون أن صوته جميل، لكنه الخوف من الجمهور، أو هو تملق له من أجل أهداف لا علاقة لها بالحقيقة ولا حتى بمصلحة ذات الجمهور. وفي النهاية، سوف تفرض الحقيقة نفسها، لكن بعد فوات الأوان وضياع الفرصة، وساعتها لا نملك إلاّ أن نقول: "الصيف ضيعت اللبن". [c1]مفكر وأكاديمي سعودي [/c]
|
فكر
وللمقاومة أشكال أخرى
أخبار متعلقة