في هذه المساحة، ونحن نسمع عن ضجيج الديمقراطية والانتخابات، ومفرزاتها في كل مكان ـ تقريبا ـ من العالم العربي والإسلامي، من انتخاب نواب برلمان إلى أعضاء مجلس بلدي إلى رئيس جمهورية، أو حكومة، إلى عمداء كليات، وإلى أعضاء نقابات...في كل هذا الضجيج، الذي بلا طحن، إلا الطحين الضار، يحسن بنا أن نتوقف مع معضلة الديمقراطية نفسها في عالمنا العربي الحزين.ربما تكون آراء الباحث والصحافي الأمريكي فريد زكريا حول الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، مستفزة وغير مريحة لدعاة الديمقراطية. فهو يرى ـ من الآخر ـ أن ما تحتاجه منطقة المسلمين والعرب: «ليس قدرا اكبر من الديمقراطية، وإنما قدرا أقل». على عكس العبارة الشهيرة التي يرددها المؤمنون بالشكل الديمقراطي على علاته، وهي: «علاج مشكلات الديمقراطية بالمزيد من الديمقراطية»، وأذكر أن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح استخدم هذه العبارة تعليقا على إحدى أزمات البلد. فريد زكريا باحث جاد، يصعب اتهامه بكراهية المسلمين، فهو من أصل هندي مسلم، تفكر طويلا في سبب استعصاء العالم الإسلامي على الديمقراطية الحقيقية، حتى بعد أن اجتاحت الموجة الديمقراطية جل بلدان العالم عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، كما تساءل في كتابه: «مستقبل الحرية» وأصله مقالة نشرت في مجلة «فورين افيرز» الأمريكية في 1997، طورها إلى كتاب صدرت ترجمته العربية العام الماضي في القاهرة عن «مركز الأهرام للترجمة والنشر». الأطروحة الأساسية في الكتاب هي أنه ليس صحيحا أنه بمجرد اعتماد الديمقراطية آلية في الحكم لدى العالم الإسلامي سيصلح الحال وتتجه هذه المجتمعات إلى القيم التي قامت عليها فكرة الديمقراطية، أو أنها ستتحول بشكل آلي، حتى ولو لم يكن سريعا، إلى مجتمعات محكومة ببنية دستورية واضحة المعالم في اعتماد الأساس المتين الذي قامت عليه «آلية» الديمقراطية، وعنده، كما في المراجعة المستقصية في جريدة «الشرق الأوسط » لكتابه: «ان الديمقراطية بالنسبة للشعوب الغربية ديمقراطية ليبرالية (دستورية)، حيث أنها نظام سياسي لا يتميز بالانتخابات الحرة والنزيهة فحسب، وإنما أيضا بسيادة القانون، والفصل بين السلطات، وحماية الحريات الأساسية للتعبير والتجمع والديانة والتملك».فهل هذه الصورة الشاملة القائمة على هذه الأسس المتينة والضمانات الحاسمة، هي صورة التطبيقات الديمقراطية الحاصلة في العالم العربي والإسلامي، أو أغلبه على الأقل حتى نتخلص من مناقشة الحالة التركية؟ وخلاصة أخرى، خطيرة، ينتهي إليها زكريا، هي أن الليبرالية هي رحم الديمقراطية، وأنه لا ديمقراطية طبيعية، إلا ويجب أن تكون مولودة من رحم الليبرالية السياسية والفكرية... والاقتصادية طبعا.ويعتقد زكريا أنه يجب على أمريكا ألا تضغط على الدول ذات المنهج الديكتاتوري من أجل التطبيق الفوري للديمقراطية لأن هذا الضغط سيأتي بأناس أكثر تشددا وكفرا بالديمقراطية، وهم الأصوليون الإسلاميون.وبرأ فريد زكريا، الدين الإسلامي من تبعة هذا التحجر والنزوع للحكم الاستبدادي الديني، معتبرا أن الإسلام بحد ذاته يحمل مسحة الحرية والثورة ضد الظلم والاستبداد، ولكن القراءات السائدة الآن هي التي تقدم هذا النمط من الإسلام المنغلق.حسنا، هل يعني هذا الكلام أنه لا فائدة ترجى من الكفاح المدني في العالم العربي والإسلامي، وانه مكتوب علينا الاختيار بين حاكم ديكتاتوري أو أصولي... ديكتاتوري هو الآخر ولكن بشكل أقسى، و...«أقدس»!؟سؤال صعب حقا.. ويخفي خلفه شعورا عاليا بالكرامة والإنسانية والأنفة من هذه «القدرية» البغيضة في ديمومة التخلف على العرب والمسلمين.هذا السؤال الكبير، جوابه بعدة أجوبة، منها الجواب التنموي، أي أن الرخاء الاقتصادي والنمو هو الكفيل بإذابة حجر التخلف، وخلق المناخ الملائم لنشوء الليبرالية السياسية والفكرية والاجتماعية، وأن الليبرالية الاقتصادية هي التي ستوجد شقيقاتها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية.وأن ذلك هو ما جرى في ألمانيا ـ حسب زكريا ـ حيث أن الديمقراطية هي التي أنتجت هتلر النازي، ولكن لم تكن الديمقراطية البحتة هي التي أنهضت ألمانيا عقب هزيمة الحرب، بل ـ إضافة لعوامل الثقافة طبعا والتدخل الخارجي الأمريكي تحديدا ـ بل الإقلاع الاقتصادي الألماني هو الذي وضع ألمانيا على طريق المجتمعات الغربية الليبرالية. وعليه فيجب التركيز على إطلاق قوة الاقتصاد، وسيتكفل الاقتصاد بالباقي.يؤخذ على هذا الجواب، كما أشار هاشم صالح، إنه يحمل نزعة «ماركسية» بشكل مقلوب، من حيث التعويل «الوحيد» على العامل الاقتصادي في حركة المجتمعات والتاريخ. جواب آخر، وهو جواب ثوري، يقول إنه يجب على العرب والمسلمين، ومن يشجعهم في الغرب من دعاة المجتمع المدني، الكف على هذا الحلم، فما جرى في أوروبا وأمريكا، بالذات، أمر صعب التكرار، وهو وليد ظروف معقدة جدا، ربما تصل إلى حد الصدفة الداروينية ، كما يذكر الصادق النيهوم حول النموذج الأمريكي، وانه يجب بالتالي التفكير في نموذج عدل وحرية آخر، وانه يجب الإقرار أيضا بتفاوت سلم القيم بين الشرق والغرب.هناك جواب أكثر ثورية في الاتجاه الآخر، وهو جواب من يرى أنه: لماذا يتم التخويف بالإسلاميين والأصوليين؟! هم لم يأخذوا فرصتهم بالحكم، والحكومات المستبدة هي التي تخوف بهم من اجل إطالة فترة حكمها، وأن الإسلاميين هنا يصبحون «فزاعة» للغرب ودعاة المجتمع المدني، على حد توصيف المفكر المصري سعد الدين ابراهيم. وقد مالت إدارة بوش في فترة ما إلى هذا التصور بدعم من الوزيرة رايس، ولكن تم التراجع عن هذا المسار بعدما وصلت القوى الإخوانية، بقوة، إلى البرلمان المصري، وأخذت حماس السلطة في فلسطين والآن تحكم «غزة ستان». هذا الجواب الداعي لإتاحة الفرصة للإسلاميين واتهام الحكومات باختراع فزاعتهم، لم يغضب السلطات الحاكمة فقط، وهذا مفهوم، ولكنه أثار غضب بعض «الزملاء العلمانيين» كما يقول سعد الدين إبراهيم في مقاله المهم الذي كتبه في جريدة «المصري اليوم» في(30 يونيو 2007) تعليقا على انقلاب حماس على فتح واختطاف غزة، حيث عنون مقاله: «هل فشل الإسلاميون في السلطة؟»، وبين فيه انه لا يوجد احد يمكن أن يزايد عليه في الحماس لإتاحة الفرصة للإسلاميين في الحكم، وانه اختلف مع الرئيس المصري شخصيا على هذا الموضوع، الأمر الذي أغضب عليه السلطات في مصر. ولكنه حينما رأى ما فعلته حماس بعد الوصول للسلطة بدأ يتساءل جديا: هل الأصولية والإسلاميين يقدرون ممارسة الديمقراطية حقا؟هذه بعض الأجوبة على معضلة الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، وهي تشير إلى أن هناك ربما حالة «استثناء إسلامي» سلبي طبعا، يمنع من الاندارج في العصر، وأخذ الديمقراطية في سطوحها وأعماقها، ما دامت هي أرقى نظام سياسي وصلت إليه البشرية حتى الآن، رغم كل يمكن ذكره عن مساوئها.في تقديري الشخصي أن مشكلة الاستثناء الإسلامي مركبة من: إخفاق تنموي واضح أدى إلى انجرار الناس للطروحات العدمية التي تقدمها الأصولية الصدامية، وأيضا علل عميقة في بنية الثقافة تقف مثل الجدار العازل أمام القيم الإنسانية العالية والحديثة، ولا ينفع في إزاحة هذا الجدار التعويل على النهضة الاقتصادية فقط، ولدينا نموذج النهضة الاقتصادية الخليجية وانعكاساتها على النهضة الاجتماعية والسياسية والفكرية... فلا حتمية إذن في ترابط هذا بهذا. وفوق كل هذه العلل، هناك علة الحكم الرشيد، وعدم وجود برنامج إصلاح حقيقي، ومستمر، في العالم العربي والإسلامي، تتولاه بعض النخب الحاكمة للوصول إلى لحظة الانعتاق والحرية وتوفير التربة الصالحة والري الدائم لشجيرة الديمقراطية.بغير هذا، ستمارس الحكومات الاعيب الكر والفر مع الدعوات الديمقراطية الأمريكية، وستمارس الحركات الأصولية والشمولية دور المؤمن العتيد بقيم المجتمع المدني والمتعدد والحر، حتى تحين لحظة قطافهم.هذا، إلا إذا جاء قدر من السماء... أو الأرض، يعدل حركة التاريخ العربي، المحفوظة إلى عن ظهر قلب.[c1]عن/ صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية[/c]
ديمقراطية من نوع آخر
أخبار متعلقة