نانسي عجرم
اكرام عبدي لنا اليوم أن «نبتهج»، ونمضي أمام الكل بهامات مرفوعة، ونتسامق بعنفوان لنثقب غشاء أوزون هذا العالم المادي الحسي الخاضع لعولمة مستوحشة، المكبل بأغلال حداثة زائفة، المهووس حد الافتتان بـ «حضارة الصورة». لقد اختارت مجلة نيوزويك الأميركيةالمعروفة بجدية مواضيعها، نانسي عجرم «فاتنة الشاشة» و«أيقونة الفن والجمال» في وطننا العربي، من بين 43 شخصية اعتبرتها المجلة من بين «الشخصيات المؤثرة في المجتمع العربي». وأميركا لم تخطئ الاختيار كعادتها طبعا، فتأثير نانسي عجرم باد للعيان، فلو أنها دعت إلى قمة عربية طارئة لاجتمع القادة العرب على وجه السرعة، وبدون أدنى تفكير أواختلاف أو تأخر، ولوقع الاتفاق بالإجماع على قرارات وتوصيات القمة التي تهم قضايانا العربية العالقة، كما أن منطق التفكير الأميركي لا يختلف عن المنطق «العجرمي»، فقد تُخاصم أميركا العرب «آه»، وتعاقبهم «نعم»، لكنها لن «تسيبهم» ولن تتخلى عن نفطهم المغري والمحرك لنزعة التسلط والهيمنة والسطوة لديها. لا مجال الآن للحديث عن مثقف لسان عصره ومرآتها، ولا عن «شاعر نبي عصره»، فنانسي عجرم اليوم «مرآة عصرها» وقطته المدللة، مرآة هذا المجتمع الاستهلاكي أو «مجتمع الفرجة»، الغارق حتى النخاع في السطحية والإبهار والإغراء والبريق والبهرجة والاستعراض، أو «صنمية الصورة» حسب بودريار، على حساب ثقافة الجوهر والعمق، مجتمع يسيئ للإنسان ويحط من كرامته، ويحوله إلى «آلات راغبة» تقبل على التلقي والاستهلاك في حالة خدر، وبنهم وشراهة، وفي غياب أية قدرة على النقد أو التفكير. كل شيء أصبح خاضعا لمنطق السوق، ولقانون العرض والطلب، ويشترط فيه التجدد والطراوة، فكما تخضع الأزياء والماكياج والمواد الغذائية لهذا المنطق، فكذلك أصبح الشعر اليوم، كما الكتابة والغناء، يخضع لهذا المنطق، فغدونا أمام « قصيدة اليوم » و«قصيدة إلكترونية» وظواهر غنائية تسطع في سماء الفن فجأة، لكن سرعان ما يخفت بريقها، وخصوصا إذا ما انخفضت نسبة مبيعات شرائطها، وأحيانا يعلن عن موت المغني على غرار «موت المؤلف» وتبقى الأغنية يتيمة تلوكها الألسن في حالة يأس ـ وذلك من حسن حظ صاحبها ـ لنفاجأ في كل مرة بوجه فني جديد، يخلو من حمرة الخجل أو الحياء، اللهم ماكياج مبهر وعمليات تجميل متكررة، وجوه تطل علينا بأغان أو بالأحرى بسلع مستنسخة مكررة، تحمل كل معاني الإسفاف والابتذال والتفاهة والتلميحات الجنسية والشبق والإغواء والإغراء، تخلو من كل إبداع أو جمالية، أغان أفقدتنا القدرة على الاستمتاع بكل ما هو أصيل وعميق فينا، تشوش على لحظات نستجديها وبصعوبة من يوم متعب، بارد، بما هي لحظات تأمل وعزلة واختلاء بذواتنا. نجد الشباب العربي وهو المستهدف، جيل «الفيديو كليب» والماكدونالدز والأديداس والنايك.. يحطم، في هذه القرية الصغيرة بواسطة جهاز في قبضة اليد، كل الحواجز اللغوية والثقافية، ليصل إلى كل الأصقاع بيسر بالغ، فتضيع كل الحدود الممكنة ويجول العالم في وقت وجيز، في حالة فرار وهروب يومي، بين قنوات فضائية تتناسل كالفطر، بحثا عن سلعة مغرية تشبع نهمه وشراهته الاستهلاكية، وقلما تجده يكمل برنامجا من أوله حتى آخره، وهو في رحلته المكوكية هذه، يحاول قتل ملل ورتابة تلف خطابات رسمية، تندلق يوميا من آفواه المنابر بدبلوماسية، وبابتسامات عريضة، توحي بالثقة وبالقدرة على التغيير، وحل كل المشاكل العالقة، فالكل يرقص بطريقته، ولا فرق بينهم سوى أن هناك من يرقص للإغراء والتحريض على الانحلال، وهناك من يرقص للتضليل والتمويه والكذب على الذقون، فصناعة النجوم وإشاعة فن مبتذل سياسة تسنها بعض المؤسسات والحكومات لتقويض كل ما هو نبيل وإنساني وراق في حياتنا، وكل ما يجدد أنفاسنا ويطهرها من أدران اليومي والمستهلك، وكل ما يمنحنا القدرة على التأمل والإبداع والنقد والتخييل، والنفاذ إلى جوهر الأشياء وعمقها. للأسف، فالإعلام العربي يرزح وبشكل مستلب تحت وطأة الإعلام الغربي، والانفلات من شرنقته يبدو أمرا صعبا بل مستحيلا في ظل «الكونية» التي نعيشها، فهو إعلام يتجه صوب كل ما هو استهلاكي وكل ما يثير الإبهار والإغراء، وله قدرة خارقة على تضليل عقول البشر على حد قول باولو فربر. إعلام تخديري توهيمي، يستولي على المشاهد في حال من الأمان الكاذب، إعلام يكرس للمشاهد المستهلك مبدأ اللذة عوضا عن مبدأ الواقع الذي نادى به علم النفس الفرويدي، بل الأدهى من ذلك أن الإعلام العربي هو كذلك مستهلك نهِم للثقافة الغربية الأميركية والأوروبية، ويتم التركيز بالأساس على قيمها الشاذة، وخاصة نموذج العنف الذي تبثه الأفلام أو نموذج الجنس الذي تبثه الأغاني . لا ريب في ان ما يتم عرضه في القنوات الفضائية العربية، وفي أغلبه، هو استنساخ لما تعرضه قنوات أجنبية، والضحية طبعا هم شبابنا، وفي ظل هذا الغزو الهولاكي لتدمير قيمنا وهويتنا، نصطدم بخطابات من قبيل «تحسين صورة المرآة في الإعلام العربي»، المرآة الطرف الأساس في هذا المخطط الإعلامي العالمي التي تم استغلالها أبشع استغلال، فغدت وسيلة رخيصة للدعاية والإعلان، بل زجت بنفسها وبكامل إرادتها في هذه الآلة الاستهلاكية. فقد ترسخت في لا وعيها تلك النظرة التبخيسية لذاتها، نظرة ساهم الإعلام بشكل كبير في خلقها بداخلها، فهو حين يتوجه إليها، يخاطبها كجسد في حاجة إلى تجميل، كشعر في حاجة إلى صبغات، كشفاه في حاجة إلى طلاء، وكجلد في حاجة إلى كريمات، فترسخ لدى الفتاة الناشئة إحساسا بأن جمالها وأنوثتها يغنيانها عن العلم والمعرفة، وعن أدوار أخرى تحقق عبرها ذاتها، وانصاعت بسهولة لخطة التبضيع والتسطيح التي صوبت نحوها، وغدت سلعة رخيصة، و«فترينات» تؤثث قنواتنا الفضائية، ففقدت كرامتها وإنسانيتها التي خصها بها الله. هل من رقيب على قنواتنا؟ هل من غيرة على قيمنا وإنسانيتنا؟ هل من حصانة لأبنائنا ضد كل أشكال الانحلال والإسفاف؟ هل من يتصدى لهذا النزيف الاستهلاكي المدمر لقيمنا وهويتنا؟ للأسف، فكثير من رجال الدين منشغلون بإصدار فتاوى لمنع كتاب أو تطليق كاتب أو كاتبة من زوجها، والمثقف العربي، ببذلته الرسمية، في «عزلته الذهنية» على حد تعبير المفكر السعودي تركي الحمد في كتابه (( الثقافة العربية في عصر العولمة )) ، منشغل بأبحاثه وتنظيراته، يتنقل من مؤتمر لآخر، ليوزع الشعارات ويقيم كرنفال الخطابات، ولا يشعر بأي قلق على وضعنا أو على مستقبلنا العربي. عجبا، نانسي عجرم، على العكس، قلقة وتشعر بالمسؤولية تجاهنا، حسب ما تصرح به، وفي كل فرصة تتاح لها، تقول كلمتها و«نص».