فيما كان الجدال صاخباً وعنيفاً بين العلمانيين والقوميين والإسلاميين حول الانتخابات التركية والدلالات الظاهرة والخفية للانتصار الساحق الذي حققه «حزب العدالة والتنمية» ومدى تأثير ذلك في مستقبل المنطقة، سجّل هاري بوتر انتصاراً أكثر إثارة في رأيي، ففي يوم واحد اشترى مليون ومائتا ألف شخص الرواية الخيالية للبطل المتدرب على السحر وحدث ذلك في زمن قيل إنّه زمن تراجع الإقبال على القراءة وضمور الاهتمام بالمكتوب. ومن المرجّح أنّ عشّاق هاري بوتر يشعرون بسعادة أكثر في الدنيا، ولو اهتموا بالانتخابات التركية والفلسطينية وغيرها لعكّروا صفو حياتهم، ومن كانت القراءة شغله الرئيسي وفرضت عليه ظروف الحياة أن يقضي أيامه بين نصوص الفلسفة والأيديولوجيا والتاريخ والسياسة فلا بأس أن يجرّب قضاء يوم في قراءة رواية خيالية تخرجه من النصوص الجافة والمواقف المتعصبة وتدخله في عالم الخيال بضع ساعات.روايات بوتر، شأن كلّ روايات البطولة الخيالية، مواجهة بين الشر والخير، بين الباطل والحقّ، لكنها لا تعقّد أمامك عمليّة الاختيار فالأخيار دائماً هم الأكثر جمالاً وجاذبية تنساق إليهم النفوس مطواعة ومن دون تفكير كبير ومن دون أن تكره نفسك على حبهم والتعاطف معهم. وأنت تتنبّأ بالنتيجة منذ البداية لكنك تستمتع بأن لا شيء ينحلّ بيسر وإلا لانتهت الرواية منذ الصفحات الأولى. ولا يزعجك أن تطول المعركة بين الخير والشرّ بل تتمنى أن تطول أكثر ليزيد استمتاعك، ولعلك تتمنى أن لا تنتهي القصة عند حدّ. وتعاطفك مع البطل يجعلك تتمنى له أن يقع في الورطة بعد الأخرى كي تتسلى بمتابعة مغامراته فعلى رغم كرهك الأشرار فإنّك تعلم أن الرواية لا تقوم من دونهم ولو انقرضوا جميعاً وبسرعة لانقطعت لذة القراءة.اعتذر لقلة الجديّة. وأدرك أنّ أيديولوجيينا منهمكون في حزم بالغ بتحليل قضية الانتخابات التركية والأمر عندهم جلل وخطر. الأصوليون يرون ما حدث في تركيا دليلاً باهراً على أن الشعوب لو ترك لها الاختيار لأقبلت على الأحزاب التي تنهل من المخزون النفسي للجماهير، وأن هذه الأحزاب لو تركت لها فرصة الحكم لحصلت على نتائج اقتصادية واجتماعية من نوع الذي حققه «حزب العدالة والتنمية». والعلمانيون يرون ما حدث في تركيا دليلاً باهراً على أن الأصولية تتقدّم بخطى حثيثة وهو ما كانوا حذروا منه منذ عقود وإذا لم يُسمع لهم مجدّداً ولم يتم الإسراع بالمقاومة والتصدّي فسيتأخر الوقت وتكثر الخروقات.جالت في خاطري بعض الأسئلة منها: لماذا لا يعترف الأصوليون بأن الانتصار الذي يتحدثون عنه لم يكن ممكناً إلاّ في بلد علماني، لم يتحقق مثله في الجزائر ولا فلسطين ولا اليمن ولا الأردن، نجح فقط في بلاد كمال أتارتورك، هل هي صدفة؟ تصورت لحظة أن يدرج الإسلاميون والقوميون في الدورة القادمة لمؤتمر الحوار القومي - الإسلامي هذه القضية على جدول الأعمال ويجعلوا من توصيات المؤتمر الالتزام بالدفاع عن العلمانية والدعوة إلى إحلالها في كل المجتمعات العربية حتى نشهد تداولاً في السلطة على نمط ما رأينا في تركيا. لكن أخشى أن هذا التصور هو إحدى النتائج غير المرغوبة لقراءة القصص الخيالية. خطر لي أن انخرط بجدية في الجدال السائد لكن خشيت أن أحشر بين العلمانيين التقليديين الذين كتب بعضهم قبل أربع سنوات أن تركيا ستنفجر أو تصبح تحت قبضة الملالي وتصوروها جزائرية أو «حماسية» (نسبة إلى انقلاب حركة حماس) أو خمينية وظنوا أنهم فطنوا لما غاب عن ملايين الناخبين الأتراك. ماذا يقول هؤلاء لو عرضت عليهم مقالاتهم من جديد؟كان ثمة خيار آخر: أن ندعو إلى تفكير أكثر عمقاً في قضية العلاقة بين العلمانية والديموقراطية والمجتمعات العربية لكن هذا الخيار يبدو موغلاً في الخيال وأكثر بعداً من الواقع من شخصية هاري بوتر فلن يهتم أحد بمثل هذه الدعوات وكلٌ يرى أنه صاحب الحقيقة.وربما لم يكن ليزعجني لو كنت تركياً أن يتولى الحكم «حزب العدالة والتنمية» لكني لا أريد لأي بلد عربي أن يقع في براثن الأحزاب العربية المدعوة بالإسلامية لأن مسارها مختلف وبرامجها لا علاقة لها بالحزب التركي، والفارق هو أنه لا يوجد حزبي إسلامي عربي إلا وهو مهيأ لممارسة العنف ويعتبر الجهاد (ضد أعدائه السياسيين) جزءاً من العقيدة. أما حزب السيد أردوغان فهو حزب سياسي عادي ليست وراءه تنظيمات سرية أو مسلحة وليس في برنامجه تطبيق الشريعة ولا إحياء الخلافة وهو يعترف بإسرائيل ويسعى جاهداً إلى انضمام تركيا إلى المجموعة الأوروبية، وزعماؤه من التلامذة النجباء لاقتصادات السوق ينفذون برامج البنك الدولي الذي أشاد بسياستهم الاقتصادية.وفي النهاية لا أرى سبباً للاعتذار لضعف الجدية في هذا المقال لأن أيديولوجيينا الجديين هم أيضاً في ورطة في تحليل هذا الحدث ومن محاسن الروايات الخيالية أنها تسمح للذهن بالاسترخاء الموقت ولذلك فوائد جمة بخاصة في فصل الصيف وروايات بوتر تحديداً تذكر بأن المسارات دائماً طويلة ومعقدة والمفاجآت واردة. ومن الفضائل الأخرى للإقبال على الروايات الخيالية أنها تخفّف من حدّة التعصب لما يراه كل منا الحقيقة.[c1]* كاتب عراقي[/c]
|
فكر
هاري بوتر خرج أيضا منتصرا...
أخبار متعلقة