قراءات
عرض / وليد خالد أحمد حسن تأليف / يوسف الشويريثمة شعور طاغ اليوم في الأوساط العلمية العربية وحتى الغربية، بأنه ماتزال هنالك حاجة ماسة لدراسة شاملة عن القومية العربية بوصفها حركة تاريخية وعقيدة، إذ لم يتناول أي عمل أكاديمي القومية العربية إلى الآن في تاريخها الكلي الذي يمتد عبر أكثر من قرن. وفضلاً عن ذلك، فإن استمرار الجدل العلمي بشأن تاريخ أصولها الدقيقة، وطبيعتها السياسية وأهميتها الفكرية، يتطلب إلقاء نظرة جديدة على الموضوع.والكتاب الذي نحن بصدد عرضه هنا، يتوق إلى رواية قصة جهد سياسي مهم، سعى منذ القرن التاسع عشر إلى إعادة هيكلة الوطن العربي، أو توحيده بوسائل عدة ووفقاً لطرائق مختلفة. ولعل نطاق الكتاب اتسم بطموح بعض الشيء بسبب التفاصيل التي ينبغي الخوض فيها لعرض خلفية تاريخية معينة، أو مجاراة سير الأحداث وهي تتسارع بلا هوادة.لقد توخى الكتاب تقديم عرض تحليلي تاريخي للمحطات الرئيسية للفكر القومي العربي من نهاية القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، ويهدف عزل هذه المحطات الرئيسية والتركيز عليها إلى اكتشاف التطور التدريجي أو الانقطاع الفجائي في سلسلة المفاهيم والمصطلحات والخلفيات النظرية التي حكمت الإطار الفكري العام، والذي تحركت ضمنه هذه المحطات، وانطوى عليها الخطاب القومي العربي.وقد ظل الكاتب مشدوداً في مختلف الأحوال إلى التنبه الدائم للسياق التاريخي، وأهمية العوامل الاقتصادية - الاجتماعية، إضافة إلى موازين القوى العسكرية والسياسية، إقليمياً ومحلياً، وعلاقة هذه وتلك بصعود نمط نظري ما واختفاء نمط آخر.ولم يتوخ الكاتب إصدار أحكام نهائية على البنى الفكرية والمناهج التاريخية التي انطوت عليها هذه المساهمات، بل تعمد في المقام الأول متابعة السيرورة المتواصلة التي انسابت في حناياها مدارس الفكر القومي العربي، كما مثلتها فئات اجتماعية معينة وفي سياق ظروف محددة.ولذلك حاول الكاتب تجنب الخوض المباشر في الصراعات الداخلية لهذه المدارس قدر المستطاع، رامياً إلى استكشاف التيارات العريضة التي كانت تتوزعها في معظم الأحيان، وفي آن معاً، أحزاب ومنظمات وتكتلات مختلفة.إن المسألة الأهم التي شغلت الفكر القومي قرابة نصف وقرن واستغرقت جهود أبرز ممثلي الحركة القومية العربية، كانت مسألة البحث عن النظرية التي تمنح هذه الحركة شخصيتها المميزة وتضمن تقدمها المطرد نحو تحقيق الغايات الكبرى، أي أن هذا البحث عن النظرية ظل الشغل الشاغل من عام 1938م حتى أواسط الثمانينات من القرن العشرين.مؤلف الكتاب قام بالتتبع النقدي، وفي سياق التتابع الزمني المتلاصق لهذه الجهود، محاولاً إبراز العناصر الجديدة التي انطوت عليها كل محاولة من هذه المحاولات.. ومن البديهي القول، من وجهة نظر المؤلف، إن هذا البحث عن النظرية الخاصة بالقومية العربية كان يتمدد في بعض الأحيان ليعالج مسألتين تتفرعان عنه أو تسيران في محاذاته، وهما الوحدة وكيفية تحقيقها، والديمقراطية وأهمية توافرها كمبدأ أساسي من مبادئ النهضة العربية الحديثة.ووفقاً لذلك فإن الكتاب عالج هاتين المسألتين انطلاقاً من مقاربة تظل دائماً مشدودة إلى الباعث الأساسي وراءها: عزل المستجد أو الجديد، ومن ثم الإشارة إلى مساهمته في إحداث نقلة نوعية في صميم بناء الفكر القومي.المؤلف في أحد فصول كتابه أشار إلى أن القومية العربية نشأت كحدث تاريخي نتيجة تلاحم عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية في حوالي نهاية القرن التاسع عشر. بيد أنه توجد مؤشرات على أن انهيار الإمبراطورية العثمانية بحلول نهاية الحرب العالمية الأولى كان الحدث الرئيس الذي مهد الطريق أمام ظهور حركة قومية تسعى لتحقيق الوحدة العربية. ومع ذلك شهد القرن التاسع عشر نشوء نوع معين من الممهدات أو اليقظة الحضارية العربية.وأعقب انهيار الإمبراطورية العثمانية إخفاق حركات عربية محلية مختلفة في نيل الاستقلال التام، أو تحقيق نمو اقتصادي متماسك. وفي عقد واحد سحقت تماماً ثورة عربية تلو أخرى، أو لم تحقق سوى نجاح جزئي أو مؤقت. وكان هذا هو الحال في سوريا والعراق ومصر والسودان وتونس والمغرب. وقدمت هذه السلسة من الإحباطات بيئة ملائمة لظهور عقيدة أكثر راديكالية.مثلت القومية العربية حركة طمحت إلى معالجة حالة جديدة أصبح فيها الوطن العربي كله هدف اختراق استعماري أوروبي. وحدث ذلك في وقت لم يعد يمكن الاعتماد على الدول الأجنبية جميعاً، أو أنها أصبحت دولاً حليفة على نحو فاتر. وترك العرب وحدهم تقريباً للدفاع عن أنفسهم وإيجاد إستراتيجية جديدة قادرة على كبح تعزيز الهيمنة الأوروبية. وهكذا نشأ التصور بأن المحاولات السابقة التي سعت إلى نيل استقلال دول عربية معينة، افتقرت إلى تصور شامل وإطار تنظيمي مناسب يتجاوز الحدود المحلية والإقليمية.وبدعم من جيل طموح من مثقفي الطبقة الوسطى والنخب المهنية أصبحت فكرة الوحدة العربية خلال عقدين من الزمن سلاحاً قوياً هدد المصالح الراسخة للوجهاء من الطراز القديم والتجار الكبار والإقطاعيين. ووصلت القومية العربية إلى ذروتها في عقدي الخمسينيات والستينيات، وغيرت في أثناء ذلك نظرة جيل عربي برمته.إن المؤلف في كتابه، افترض مقدماً عند دراسته القومية هيكلة الظروف والتحولات التاريخية التي جعلت نشوءها ممكناً. وعليه، تصور المؤلف أن التطورات الثقافية والاقتصادية والسياسية في القرن التاسع عشر تمثل بداية مهمة في خلق القومية العربية. وينبغي إيرادها في رسم حدود دينامية هذه الحركة. وإزاء هذه الخلفية، قسم المؤلف كتابه إلى ثلاث مراحل مستقلة : المرحلة الثقافية، المرحلة السياسية، والمرحلة الاجتماعية، وقد توزعت في ثمانية فصول :يقدم الفصل الأول القومية عن طريق تحليل نظرياتها الغربية، في حين يقدم الفصل الثاني عرضاً للتاريخ العربي كما يراه بعض المؤرخين العرب الذين حاولوا للمرة الأولى تغطية التاريخ الكامل للأمة العربية.بينما انصب الفصل الثالث على تناول مرحلتين : الأولى الممتدة من حوالي عام 1800 إلى عام 1900م التي شهدت إعادة اكتشاف الحضارة العربية بوصفها عصراً ذهبياً مجيداً. وبناءً على ذلك، صيغت لغة عربية أدبية جديدة لتمثيل هوية ثقافية مستقلة ضمن العالم الإسلامي بعامة والإمبراطورية العثمانية بخاصة. وبدأ في القرن التاسع عشر أيضاً نشر مفهوم الوطن بوصفه كياناً إقليمياً محدداً تحديداً واضحاً. وكان ذلك جهداً واعياً وعقلانياً لخلق شكل جديد من التنظيم البشري.وارتدت المرحلة الثانية الممتدة بين عامي 1900م و 1945م طابعاً سياسياً بارزاًُ.وفي هذه المرحلة ارتبط مفهوم الوطن بتقرير المصير والاستقلال والمشاركة النشطة للنخب المحلية في تقرير رفاهيته العامة.ويرسم الفصلان الرابع والخامس حدود الإرهاصات النظرية لجيل جديد من الناشطين العرب وأهل الفكر. وبذلك عاد المؤلف إلى النظريات الغربية وأخضعها للاختبار بعد مناقشتها في الفصل الأول، وذلك بهدف تحديد المساهمات العربية في فهم الحركات القومية.اكتسبت القومية العربية في مرحلتها الثالثة 1945م - 1973م دعماً شعبياً واسع النطاق ونجحت بتبني برنامجها الراديكالي.وارتبطت القومية العربية حينذاك بالاشتراكية وحكم الحزب الواحد والكفاح من أجل تحرير فلسطين. وأكدت بذلك كونها حركة ظافرة غطت على جميع الأيديولوجيات الأخرى في كل أرجاء الوطن العربي. وهذا هو موضوع الفصل السادس.أما الفصل السابع فقد تناول آليات القومية ونظريات الإنسان الاجتماعي. ويمكن القول أن البحث عن النظرية ظل شاغلاً رئيسياً لأدبيات القومية العربية، وذلك في فترة الخمسينيات، ثم تضاعف الاهتمام وشهد صعوداً ملحوظاً في الستينيات. ولما يزل البحث عن النظرية مستمراً حتى اليوم، على حد طرح المؤلف.ويطرح الفصل الثامن رأياً يقول بأن الوطن العربي يقف على عتبة مرحلة رابعة عادت فيها القومية والديمقراطية إلى الظهور في سياق انبعاث أفكار إسلامية جديدة حول الأمة الدولة، علاوة على اندفاع موجة جديدة من العولمة.إن دراسة القومية العربية ترتبط بتطور الوطن العربي الحديث والمعاصر وبتركيز الأنظار على السعي من أجل الوحدة العربية، والإصلاح الاجتماعي والنمو الاقتصادي، فيستطيع المرء قياس سرعة التحول في المجتمعات العربية من جهة، وتقويم مضامينها التي تنطوي عليها بالنسبة إلى المستقبل من الجهة الأخرى. إلى جانب ذلك، يهدف الكتاب وعبر تتبع تاريخ التيارات العربية المختلفة، إلى اكتشاف قدرة هذه التيارات على البقاء والنجاح في وطن عربي مؤلف من دول مستقلة.إن القومية ليست انبثاقاً لجوهر ثابت أو لماهية لا تعرف سوى اجترار ذاتيتها في عملية نرجسية، غافلة عن سير الأحداث والمفاهيم، فتحاول في عبثية رومانسية الانعزال عن التاريخ العالمي في تصاعده وتحولاته واتجاهه الثابت نحو المستقبل.وإذا كانت القومية تعبيراً عن حركة تاريخية ثقافية وسياسية واقتصادية، فهي تختصر معالم الحياة الحديثة في انتقالها من طور عرفته المجتمعات البشرية كحضارة القرون الوسطى إلى طور جديد هو نفسه عالمنا كما نعرفه اليوم.وكتابنا هذا يضع القومية العربية في السياق نفسه، فتابع تطورها في خصوصيتها المحلية وعموميتها كتعبير عن مرحلة جديدة من تاريخ الإنسانية.[c1]عن مجلة المستقبل العربي [/c]