بعد 60 عاماً على النكبة
ستون عاماً مضت على إقامة (إسرائيل ) وأكثر من مائة عام على الصراع بين الحركة الصهيونية والحركة الوطنية الفلسطينية وخلال هذه العقود تمكنت إسرائيل من تحقيق العديد من الانجازات النوعية فقد أستطاعت احتلال باقي أراضي فلسطين وتطوير إمكاناتها السياسية والعسكرية والاقتصادية وأنتقلت من دور الإداة والشريك الهامشي في المشروع إلى دور الشريك الرئيسي لزعيمة الامبريالية في مرحلة العولمة كما تمكنت من تحقيق أختراقات نوعية في جبهة النضال والتصدي لمشروعها الامبريالي الاجلائي الاستيطاني العنصري بخروج أكبر قوة عربية من دائرة الصراع متمثلة بمصر وتوقيع اتفاق كامب ديفيد عام 1979م والاعتراف المصري بها وتطبيع العلاقات معها ليتلو هذا الاختراق وتوقيع اتفاق أوسلو بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية المتنفذة واسرائيل فوادي عربة بين الاردن وأسرائيل وأخيراً الاستعداد العربي الجماعي عبر المبادرة العربية للاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها وعلى مستوى المواجهة الاستراتيجية فقد انخفض سقف المطالب الفلسطينية من التحرير الشامل للاراض من النهر وحتى البحر والهبوط إلى قبول الدولة الفلسطينية على أقل من 22% من مساحة فلسطين التاريخية مع الاستعداد المقايضة اجزاء ومنها تصل الى 3% وتعادل مساحة ما سمى بالكتل الاستيطانية الكبرى مضافاً لكل ذلك القبول الفلسطيني بالصيغة الواردة في المبادرة العربية حول حق العودة التي تجعل من التوافق الإسرائيلي - الفلسطيني أساساً لتفسير نصوصه وتطبيق ما يتفق عليه الامر الذي يضع علامات أستفهام حقيقة حول جدية تمسك الطرف الفلسطيني المتنفذ بحق العودة واعتباره خطاً أحمر لأيمكن تجاوزه أو القفز عليه ومما يعزز هذه الهواجس أو المخاوف الموقف الرسمي الملتبس مما سمي بوثيقة جنيف التي طرحت كل الخيارات لحل مشكلة اللاجئين باستثناء حق العودة إلى الديار التي شردوا وطردوا منها وبالمقابل فقد عجزت اسرائيل عن تبرير اسباب بقائها خارج منطق عامل القوة واسدل الستار عن اكذوبة تعبير الصهيونية عن اهداف وتطلعات اليهود في الانعتاق او تجسيدها لحركة تحرر قومي لليهود في العالم وفشلت في توفير مناخات التطور القومي الحر والانساني للمستوطنين اليهود في فلسطين فالطابع الكولنيالي الاستيطاني للفكر الصهيوني سلب اليهود أنسانيتهم وحولهم إلى أداة لحرب أمبريالية تخدم الشركات الاحتكارية فوق القومية التي لا مصلحة لهم بها من قريب او بعيد وأنعشت مستنبت القهر القومي العنصري للعرب الفلسطينين وثقافة التمييز العنصري وكل أشكال القهر الطبقي لليهود وغير اليهود فالظاهرة التي يتناقض مضمونها وما تمثله من أهداف مع مجرى التطور التاريخي ومضمونه الانساني التقدمي تعجز عن تحقيق ذلك بل تعمل على تكريس وتعميق عبوديتهم (ليس حراً شعب يستعبد شعباً أخر) وتأسيساً على ماسبق فأن إسرائيل كظاهرة استيطانية امبريالية بوظيفتها الامبريالية العامة والشريك الرئيسي لامريكا في مشروع الشرق الاوسط الكبير لاحتواء المنطقة وبسط سيطرتها الشاملة عليه لاتستطيع أن تنتج سوى ثقافة التمييز العنصري والقهر والاضطهاد وإدامة الكراهية بين سكان فلسطين يهوداً وعرباً اولاً وثانياً بينها وبين شعوب المنطقة العربية والاقليم فاستمرار وجودها لازال مرتبطاً بمشاريع السيطرة والقهر والنهب الامبريالية وبهذا التوصيف الموضوعي لجواهر سياستها ولدت عاجزة عن إيقاف الحرب وانتاج ثقافة السلام والتعايش الحضاري السلمي على المستوى الاجتماعي داخل كيانها بين العرب الفلسطينيين أولاً وبين الطوائف اليهودية المتنوعة الأعراق مع ان التنوع الحضاري والثقافي الانساني في الوقت الذي يشكل سبباً موضوعياً لصراع مفتوح متعدد الوجوه فانه وفي الوقت نفسه يشكل عاملاً أساسياً لازدهار الأمم والشعوب والمجتمعات وانتاج ثقافة غنية بغنى تنوع مصادر مكوناتها الثقافية ومفتاح تحديد الاتجاه هو النظام السياسي الذي تتفاعل فيه الثقافات وعمق مضمونة الديمقراطي الانساني التي تفرض التعايش بين الجميع والإخاء والمساواة واحترام الأخر ونبذ ثقافة التمييز والقهر بكل أنواعه وصنوفه بيد ان إسرائيل كتجسيد مادي للفكر الصهيوني الذي لم يكن وجوده ونشأته مرتبطاً بولادة طبيعية لسياق تطور إنساني ليهود العالم واقترن تاريخياً مع تحول رأسمالية المنافسة الحرة إلى الرأسمالية الاحتكارية الدولية الامبريالية ولعب دوراً تخريبياً داخل الحركة الثورية الديمقراطية والاشتراكية العالمية وخاصة في أوروبا الشرقية التي كانت شعوبها تعيش مخاض التحول الديمقراطي بأفق اشتراكية إنسانية وحملته الحركة الصهيونية وجيشت من خلالها يهود العالم لاحتلال فلسطين وفق فرضيتهم أرض بلا شعب ومارست التطهير العرقي بحق سكانها الاصليين لتحويل هذه الفرضية إلى واقع هذا الكيان لايملك مقومات القدرة على نزع فتيل الصراع وصهر مكوناته وإعادة إنتاج ثقافة جديدة ترتكز على عرافة وعناصر قوة مكوناته الحضارية والثقافية وامتلاك مصادر القوة والقدرة على البقاء فمصادر قوة إسرائيل ترتكز على تفوق الامبريالية ونظامها الدولي والتي تضاعفت في مرحله العولمة الامبريالية الجديدة وبعبارات مكثفة فأن الوجود الاستيطاني الصهيوني في فلسطين لا يختلف بخصائصه الموضوعية على الظواهر الاستيطانية الامبريالية التي أنتجت دول وحكومة الاقليات البيضاء العنصرية في جنوب افريقيا وفي زمبابوي وناميبيا وسيؤول الى نفس المصير فالغلاف الديني الذي ميزها عن هذه الظواهر لايلغي التقاطع حول نفس الجواهر بيد ان الخصائص الموضوعية التي تعطي إسرائيل هويتها ووظيفتها الامبريالية ليست هي الأساس او المقرر الرئيسي لنهاية هذا المشروع فالوجود الاستيطاني الصهيوني لم ينشأ في الفراغ أو في ارض بلا شعب كما روج لذلك بل نشأت متصادمة مع الوطنية الفلسطينية التي كانت تعشق طريقها مع بدايات تبلور المشروع القومي العربي التحرري بأبعاده الحضارية والانسانية التقدمية صحيح ان امكاناتها الذاتية وعمقها العربي لم تمكنها من التصدي للهجمة الصهيونية ودحرها لكنها مع ذلك بقيت في حالة مواجهة وصدام دائم مع الظاهرة حتى في جزئها الاضعف المجرد من أية مقومات لقوة جماهير شعبنا ممن رفضوا الهجرة وتشبثوا بأرضهم والذين لم تستطع كل عمليات التهجير القسري أو التطهير العرقي أو المذابح أو الحكم العسكري أو القوانين الاستثنائية العنصرية التي تمس بشكل مباشر حقوقهم بالمواطنة، كل هذه الإجراءات لم تمنع من استمرار تشبت جماهيرنا في هذا الجزء من الوطن بهويتهم الوطنية وبلورتها في ظل حالة تصادم يومية وما يقال عن جماهير شعبنا في الجزء المحتل من فلسطين عام 1948م انطبق على تجمعات شعبنا كافة، حيث عاشت في حالة اشتباك دائمة مع مكونات الواقع الذي عاشته بعد تهجيرها في مواجهات محاولات طمس وتبديد هويتها الوطنية وشكلت ركناً هاماً في مكونات الحركة القومية الصاعدة والحركات الوطنية في الأقطار العربية وهذا التواصل مهد وأوجد مقومات انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة التي شهدت أوج انتعاشها وعنفوانها بعد حالة الإنكفاء العربي اثر هزيمة 1967م،وانتزعت بقيادة “م ـ ت ـ ف” اعترافاً عربياً ودوليا تكرس بالقرار 3236، وقبولها عضواً مراقباً في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتكرس هذا الاتجاز في الانتفاضة الشعبية الأولى عام 1987م ليصبح أحد مركبات أزمة الصراع في المنطقة يفرض حضوره بقوة ويصعب تجاوزه أو القفز عنه، وجاءت الانتفاضة الثانية عام 2000م التي جاءت كرد على اخفاق المسار التفاوضي على أساس اتفاق اوسلو ومرجعياته ليعمق مضمون حق المصير لشعبنا ويفرض على طاولة البحث حقنا في إقامة دولتنا المستقلة التي وجدت تعبيرها في القرار الدولي الصادر عن مجلس الأمن عام 2002م والذي يحمل الرقم 1397، وينص صراحة على حقنا في إقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة وبالإجمال وبمعزل عن التوظيف السيء من قبل قيادة منظمة التحرير وفيما بعد السلطة الفلسطينية لإنجازات وتراكمات نضال شعبنا ومقاومته المتنوعة والتي انعكست في اتفاق أوسلو ومشتقاته هذا الاتفاق الذي جاء في نصوصه ومرجعياته وتطبيقاته اللاحقة غامضاً لايفتح آفاقاً واضحة لتطور سلطة الحكم الذاتي كثمرة مباشرة له إلى دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة غير منقوصة وتحقيق الثوابت الوطنية، أو فيما بعد في محاولة نفس القيادة على توظيف انجازات الانتفاضة الثانية في مشروع خاطرة الطريق التي جاء سقفها أكثر انخفاضاً من سقف اتفاق اوسلو مع تثبيت المدخل الأمني في تناول الموضوع الفلسطيني ووضع ما سمي بإحتياجات إسرائيل الآمنة مرجعية حاسمة ومقررة لمسار المفاوضات ونتائجها فيها بعد بمعزل عن هذا التوظيف القاصر لتضحيات شعبنا ومقاومته الباسلة فقد استطاع شعبنا بصموده ومقاومته ان يفرض واقع تكسر الاحلام الصهيونية التوسعية وحدود دولة اسرائيل التوارثية فقد أصبح لدى القيادة الصهيونية استعداداً لقبول حدود أقل من حدود فلسطين التاريخية ( لدولتها اليهودية ) وأجبرت على الجلاء القسري العسكري والاستيطاني من القطاع الذي كانت مستوطناته حسب تعبير الاب الروحي والعملي للاستيطان الصهيوني في فلسطين تساوي بمكانتها تل أبيب وأضاف هذا الانجاز الفلسطيني عاملا جديداً لازمة المشروع الصهيوني النابعة من مكوناته الداخلية الكامنة إن هذه الحقيقة تجعل من اسرائيل وما تمثله من مصالح وارتباطاته بالمشروع الامبريالي الأمريكي في المنطقة قوة غير مؤهله لتحقيق السلام وتطرح أكثر من علامة سؤال من جدوى استمرار مفاوضات قيادة السلطة والمنظمة مع إسرائيل ؟ فلم تعد المفاوضات خياراً يحمل في طياته اجتهادات متباينة قد يحمل بعضها تفاؤلا فقد جرب هذا المسار على مدار أكثر من سبعة عشر عاماً منذ انطلاقتها في مدريد 1991م وحتى اليوم والنتائج التي حصدها شعبنا تكاد تكون صفراً أو أقل اذا اعتبرنا ان المراوحة تعني عملياً عودة إلى الوراء .... فيما استطاعت إسرائيل ان تحدث أختراقات اسقطت لدى البعض ثوابت القضية التاريخية وعومت ماتبقى من ثوابت وطنية تترجم ما كان يسمى بالهدف المرحلي للنضال الوطني الفلسطيني واصبحت اليوم سقفاً للطموح تحت عنوان مايسمى بالاتفاقات بالحل النهائي أو الدائم اضافة الى العديد من المؤشرات التي تشكك بتمسك الشريحة المتنفذة في الفريق المفاوض بحق العودة في الوقت التي استخدمت إسرائيل المفاوضات كمظلة لتكريس حقائق مشروعها الاستيطاني على الأرض وفرض الأمر الواقع على شعبنا والمجتمع الدولي في رسم التسوية أو الحل النهائي للصراع الفلسطيني الصهيوني بحيث تضمنت اكبر مساحة من الأرض باقل عدد من الفلسطينيين وحصر الطموح الفلسطيني بالاستقلال في اطار كيان سياسي ليس أكثر من محمية إسرائيلية مجرد من كل عناصر القابلية للحياة يمكن أطلاق تسمية الدولة أو الأمبراطورية عليها مادام مضمونها لا شيء بذلك كما قابلت كل تنازل فلسطيني برفع سقف مطالبها فالاعتراف بها في أطار حدود أمنة اصبح اليوم أكثر تحديدا ويتوجب الاعتراف بها كدولة يهودية بكل ما يترتب على هذه المسالة من حقائق سياسية .[c1]* الامين العام للجبهة الشعبية[/c]