يشهد الخليج مظاهر ازدهار تجاري قد لا يكون مسبوقا حتى قياسا بما شهده بعد طفرة أسعار النفط في حرب أكتوبر ،1973 كما يعاني وفي مفارقة مقلقة على صعيد آخر حالة "انكشاف استراتيجي" من الناحية الأمنية والدفاعية لم يشهدها منذ فترة طويلة. وهذا ما يجعل سباق الاسهم ببورصات الخليج المتأرجحة صعودا ونزولا مغامرة غير اقتصادية في الأساس أدت الى خسارة عدد غير قليل من مضاربي الاسهم، حيث يندهش المرء لهذا التعطش الى الربح السريع المبالغ فيه والتهالك عليه في مجتمعات يفترض ان تكون غنية وتزداد غنى بحكم فوائضها البترولية المتزايدة، الأمر الذي يطرح التساؤل ان كان الثراء والخير قد عما الجميع، أم أنهما خلقا طمعا لا حدود له ويهدد أهله. ومن يتابع ما جرى ويجري لبعض المضاربين الذين انجذبوا ل "حفلة" الأسهم، وباعوا حتى بيوتهم، من أجل احلام الكسب الوفير، فتبخرت الاحلام وأصبحوا على "الحديدة" كما يقال في الخليج رغم تدخل الحكومات بين وقت وآخر لنجدة الخاسرين فلم يجدوا حرجا بعد ان خسروا عقولهم مع أموالهم ان يتعروا أمام المارة في الشوارع وهي حالة ان كانت نادرة اجتماعيا فهي معبرة استراتيجيا عن واقع منطقة ان كانت تتباهى بإنجازاتها، فعليها ان تعرف كيف تحميها.ذلك ان التأرجح المتفاوت في أسعار الأسهم لا يتعلق فقط بسيكولوجية السباق من أجل الربح غير المعقول، وإنما يعكس ايضا حالة القلق الاستراتيجي أو بالأحرى الانكشاف الاستراتيجي، التي تمر بها المنطقة، وتعيش دولها وشعوبها تحت هواجس عواقبها.والواقع ان حالة القلق الاستراتيجي هذه كانت الى وقت غير بعيد أشد وطأة على الحالة النفسية والواقعية لأطراف المنطقة غير أنها خفتت نسبيا بعد المبادرات السعودية، تحديدا، التي قادها الملك عبدالله بن عبدالعزيز سواء من ناحية ترميم الجسور مع حلفاء الأمس، أو إقامة جسور جديدة مع القوى الكبرى الصاعدة في شرق آسيا. بالإضافة الى اتخاذ مواقف اكثر تحديدا بشأن الوضع في العراق وهو وضع صار ينعكس على استقرار الخليج وأمنه ومستقبله ولا يجوز اخفاء الرؤوس تحت الرمال بشأن مضاعفاته المتسارعة.وفي هذه اللحظة من الانعطاف، حيث ادركت القوى الدولية المعنية، ان اسقاط الدور العربي في العراق من أخطر اسباب الكارثة التي تشمل الجميع، فإن استعادة هذا الدور منطقيا وموضوعيا، دون اسقاط الأدوار الاقليمية الاخرى لايران وتركيا في الحدود المشروعة لكل دور، هو الذي ينبغي السعي اليه بجرأة الدبلوماسية وابداعها ورؤاها البعيدة، وان لم يجد الجهد الدبلوماسي، فلا بد من تحرك فعلي دفاعا عن النفس والثوابت.وكما ألمحنا في معالجات سابقة فإن أمن الخليج ظل قائما عبر عقود طويلة على "التضاد"، أعني تواجه القوى في شيء من توازن الرعب: بريطانيا والغرب ضد الاتحاد السوفييتي، العرب وايران على طرفي نقيض سواء في عهد الشاه أو عهد الثورة، أنظمة الخليج المحافظة ضد الأنظمة العربية الراديكالية وهكذا.ويسجل تاريخنا للأنظمة الخليجية المحافظة انها امتصت واحتوت الكثير من الحركات المهددة لها، من طموحات الملك غازي واندفاعاته في العراق الهاشمي، الى المد الشعبي الناصري الكاسح من بعده، فثورة عدن الماركسية، فثورة ايران الخمينية، فالمغامرات الصدامية، محققة لمجتمعاتها، أهم المطالب المعيشية التي طالبت بها تلك الحركات للجماهير من اسكان وتعليم وتوظيف، وذلك بفضل فوائضها النفطية التي مازالت تستخدم كترضية سياسية لقوى المجتمع، فضلا عن سياساتها الحذرة والمتأنية التي تميزت بها والتي يجب عدم اغفال أثرها في تجاوز الكثير من المشكلات، وان كان علينا ان نرى مدى مفعولها في الأوضاع الراهنة. ذلك ان مناخ الاصلاح السياسي وضغطه المرتفع اليوم في العالم لن يسمح باستمرار مثل هذه الترضيات السياسية الى ما لا نهاية.وفي ما يتعلق بمهارة امتصاص صدمات المد الراديكالي، هل نعتبر ملف الحركة الأصولية وأعمال الارهاب الجارية منتهيا مثل الحركات السابقة؟ أم يتطلب الأمر من الآن فصاعدا احتواء من نوع آخر للآتي المختلف عما سبقه؟ "مختلف" بمعنى ان منطق العالم أصبح لا يتقبل الا المعادلات القائمة على الحسابات الصحيحة وان كان السلوك السياسي لبعض القوى في المنطقة يميل الى التحايل عليها بشكل أو بآخر.. وان يكن لبعض الوقت.الحسابات الصحيحة" في حوض الخليج إذا اخذناه بامتداده الاستراتيجي الأوسع تعتبر رياضيات شديدة التعقيد ولكن كمبيوتر المستقبل الخليجي لن يعمل في النهاية إلا على أساسها، إذا أريد الانتقال من حالة التضاد الى حالة التشارك، التي تعني بالتأكيد تبادل المصالح وبناء جسور الثقة.يقتضي منطق العالم المعاصر والنهج السياسي المتحضر ان تجلس اطراف "المثلث" في حوض الخليج، وهي المملكة العربية السعودية مع منظومة مجلس التعاون، وجمهورية ايران الاسلامية، وجمهورية العراق عندما تستقر أوضاعها، ان تجلس جنبا الى جنب، كما هو قدرها في الجوار المصيري والجغرافي، وان تدعو اليها بلا تحرج وبواقعية وحنكة سياسية كل الاطراف الدولية المعنية بمنطقة الخليج من الولايات المتحدة، الى الاتحاد الاوروبي الى الجامعة العربية، الى روسيا الاتحادية وصولا الى قوى الشرق الآسيوي من هند وصين ويابان، ليضع الجميع مبادئ الأمن والتعاون في حوض الخليج لعام 2010 وما بعد.لقد اتضح ان منطق (إما وإما) حبله قصير. اما أمريكا واما العراق أو ايران؟ وذلك بانتظار مواجهة أخرى.. وربما حرب رابعة أو خامسة.لماذا لا تبنى أسس التعاون الاقليمي بمشاركة كافة القوى المعنية كما حدث في منظومة الأمن والتعاون الاقليمي الاوروبي بالأمس، وكما يحدث في منظومات الأمن والتعاون الآسيوي اليوم؟منذ عام ،1993 وفي ندوة استراتيجية بمركز "الخليج" للدراسات الاستراتيجية في ابوظبي برعاية الشيخ محمد بن زايد ولمناقشة كتاب "مقاتل من الصحراء" للأمير خالد بن سلطان، دعا كاتب هذه السطور الى مثل هذا التفاهم الاستراتيجي الواسع بلا استثناء او استبعاد لأي طرف صاحب مصلحة في الخليج او صاحب قدرة على تفجير أوضاعه! وللأمانة فإن أصل هذه الفكرة كانت تتوارد في رؤى فرنسية بشأن أمن الخليج، الأمر الذي يدل على ان مثل هذا التوجه وارد في التفكير الغربي العملي والواقعي وليس مجرد حلم من أحلام اليقظة الخليجية حيث ألمح المستعرب الفرنسي، الصديق للعرب، إريك رولو الى افكار مشابهة بشأن أمن الخليج منذ ذلك الوقت.ولكن بلا أوهام فإنه مازال حلماً بمنظار الاوضاع المتردية في علاقات دول المنطقة، وانعدام جسور الثقة بينها وعدم امتلاكها لخطاب وتعامل متكافئ ومقنع مع القوى الدولية الضاغطة... الى أن تأتي ساعة الرشد الاستراتيجي المسؤول لدى من يعنيهم الأمر، وتتعلم كيف تعقلن خلافاتها للالتقاء حول قواسم مشتركة لبناء جسور الثقة فيما بينها، كما تفعل الدول الراشدة في العالم. إذاً، سيبقى هذا التصور للأمن الخليجي وهو تصور حتمي لا مهرب منه إن كان للمنطق الطبيعي في السياسة أن يسود من أجل استقرار أكثر ديمومة نقول سيبقى هذا التصور مشروعاً للمدى البعيد، أما المدى الأقرب منه فإن القمة الخليجية القريبة المقبلة لابد ان تضع له بالتوافق بين أقطابها برنامجا قابلا للتطبيق لتعزيز الكيان الخليجي المشترك ودفاعاته، مع مد اليد للجميع من موقع الثقة والقوة حفاظا على مصير شعوبها قبل كل شيء، وحفظاً للتوازن القائم منذ عقود في عمليات تدفق النفط من جانبي الخليج الى شرايين الاقتصاد العالمي شرقا وغربا، وبما يمكن ان يؤدي في النهاية الى وضع مبادئ الاتفاق الاقليمي والدولي الأشمل للأمن والتعاون بحوض الخليج.. حيث يتطلب الأمر تعزيز الكيان الخليجي المشترك المتمثل بمجلس التعاون ليدخل هذا المنتدى الجديد وهو صوت واحد.وفي رمزية ملموسة للتكامل الخليجي، فإن احتفال الأوساط المعنية في كل من السعودية والبحرين بمرور عشرين عاما على افتتاح جسر الملك فهد بين البلدين، بما ولده من دينامية تفاعل بشري واقتصادي، قد تزامن مع قرار قطر والبحرين اقامة جسر بينهما لن يقتصر أثره على البلدين وحدهما في شبكة خليجية سريعة التقارب، هذا مع قرار البحرين مؤخراً فتح مجال التصويت في الانتخابات البلدية لمالكي العقارات فيها من مواطني مجلس التعاون بما يحمله من مدلول التكامل السياسي الشعبي، مع نجاحها في اجراء انتخاباتها البرلمانية التي شارك فيها مختلف ألوان الطيف السياسي وبإقبال شعبي لافت، كل ذلك يشير الى أن ثمة منجزات يحققها مجلس التعاون على أرضية الواقع سواء على المستويات الداخلية او الصعيد المشترك. غير أن التطلعات الشعبية بدوله ستبقى تنتظر المزيد ولابد من مراعاتها.وبلا شك فإن خطوات التقارب الاخرى، الاقتصادية منها خاصة جارية بما في ذلك اصدار العملة الخليجية الموحدة بين دول الخليج ومنجزات التنسيق تتنامى على ان يوفر لها قادتها مظلة الأمن والأمان التي لا يمكن لأي بناء ان يتم دون ترسيخها.ذلك هو العنوان المنشود للقمة الخليجية القريبة المقبلة.. "قمة الأمن والأمان".* مفكر بحريني
نحو قمة الأمن والأمان لمجلس التعاون لدول الخليج العربية
أخبار متعلقة