طبول المواجهة بين المناطق الرمادية والزوايا الحادة
في الحلقات السابقة من هذا المقال حرصنا على عرض وتحليل أبعاد الخطاب السياسي والإعلامي لأحزاب المعارضة المنضوية في إطار "اللقاء المشترك" ومقارنة هذا الخطاب بالممارسة العملية للأحزاب الرئيسة في هذا التكتل المعارض وعلى وجه الخصوص حزب التجمع اليمني للإصلاح والحزب الاشتراكي اليمني اللذين كانا فاعلين رئيسيين في جميع الأزمات السياسية التي شهدتها البلاد خلال مشاركتهما في السلطة إلى جانب المؤتمر الشعبي العام، بدءاً بالمرحلة الانتقالية مايو 1990م – أبريل 1993م التي تقاسم فيها السلطة، كل من المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني وفقاً لأحكام دستور دولة الوحدة واتفاق إعلان الجمهورية اليمنية، مروراً بالائتلاف الثلاثي الذي ضم التجمع اليمني للإصلاح إلى جانب المؤتمر الشعبي والحزب الاشتراكي اليمني، خلال الفترة مايو 1993م – مايو 1994م، استناداً إلى معطيات ونتائج أول انتخابات برلمانية شهدتها البلاد في أبريل 1993م، وانتهاءً بالائتلاف الثنائي بين المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح على إثر خروج الحزب الاشتراكي اليمني من السلطة إلى المعارضة بعد حرب صيف 1994م وفشل مشروع الانفصال، حيث استمر هذا الائتلاف حتى الانتخابات البرلمانية لعام 1997م والتي أسفرت عن فوز المؤتمر الشعبي العام بأغلبية تمكنه دستورياً من تشكيل حكومة منفردة لتطبيق برنامجه الانتخابي الذي حاز على ثقة غالبية الناخبين، ما أدى إلى خروج التجمع اليمني للإصلاح من السلطة إلى المعارضة، وانضمامه لاحقاً إلى الحزب الاشتراكي اليمني وبعض أحزا المعارضة في إطار تكتل "اللقاء المشترك".والثابت أنّ قيام تكتل "اللقاء المشترك" الذي يقوده التجمع اليمني للإصلاح إلى جانب الحزب الاشتراكي اليمني بقدر ما أسهم في صياغة خطاب سياسي وإعلامي يتسم بالمجابهة والكيدية، بقدر ما أوقع "اللقاء المشترك" في مأزق حادٍ بعد فشله في الانتخابات البرلمانية لعام 2003م والانتخابات الرئاسية والمحلية لعام 2006م، حيث عجز هذان الحزبان عن استيعاب معايير الديمقراطية التعددية والتكيف والتعايش مع نتائج الانتخابات واستخلاص الدروس منها، وهو ما يفسر عدم اعتراف "اللقاء المشترك" بحق الحزب الحاكم في تنفيذ برنامجه الانتخابي، ونزوعه نحو الانقلاب على الديمقراطية ، سواء من خلال الدعوة إلى المشاركة في الحكم عبر الأبواب الخلفية للسلطة، أو من خلال تحريض الشارع وتزييف الحقائق وإحياء النزعات المناطقية ورفع الشعارات الانفصالية ودق طبول المجابهة باتجاه تأزيم الوضع السياسي والمراهنة على إعادة إنتاج الأزمات السياسية كوسيلة لتعطيل المؤسسات الدستورية الشرعية، والانقلاب على نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية والمحلية.ولدى تحليلنا محتوى الخطاب السياسي والإعلامي حرصنا على إبراز الطابع البراغماتي والانتهازي لهذا الخطاب، لجهة السعي لتشويه صورة العملية الديمقراطية والنظام السياسي ومؤسساته، حيث تسعى أحزاب "االلقاء المشترك" من خلال هذا الخطاب إلى الانخراط في برامج نشر الديمقراطية التي تمولها وتسوقها الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الاتحاد الأوروبي من خلال منظمات غير حكومية تسيطر عليها إدارات موالية للإستراتيجية الصهيونية في الشرق الأوسط ، وتوظف هذه البرامج لإجهاض التحولات الديمقراطية الجارية في العالم العربي.وتتميز هذه الاستراتيجية بتسويق سياسة إحراق المراحل التي تؤدي إلى ما يسمى "الفوضى الخلاقة"، وتحول في نهاية المطاف دون بناء بيئة ثقافية وسياسية على أساس معطيات تراكمية تهيئ لانتقال آمن وناضج لمزيدٍ من الديمقراطية القابلة للاستمرار والنمو، الأمر الذي من شأنه وضع المعارضة العربية في حالة صدام دائم مع عملية إعادة بناء الدولة والمجتمع السياسي على أسس ديمقراطية، وما يترتب على ذلك من زعزعة الاستقرار السياسي والسلم الأهلي وكبح آليات التطور الديمقراطي في العالم العربي بحيث تبدو إسرائيل في صورة الدولة الديمقراطية الوحيدة في منطقة غير مؤهلة لتعظيم قيم الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة وحقوق الإنسان في العَلاقات الدولية.ويبدو الطابع البراغماتي والانتهازي للخطاب السياسي والإعلامي المعارض واضحاً من خلال مفرداته وآلياته التي تتعاطى مع شعارات ومطالب تتناقض موضوعياً مع موروث الثقافة السياسية الشمولية والنزعات الاستبدادية التي تشكل المحتوى الرئيسي للتجارب التاريخية لأحزاب "اللقاء المشترك".. وهي أحزاب أيديولوجية بامتياز، ولم تتعرض حتى الآن لأي نقد ذاتي يسهم في إحداث قطيعة معرفية وسياسية مع ماضيها وحاضرها اللذين ينطويان على إشكاليات وتناقضات لا تؤهلهما للتعامل بمصداقية مع الشعارات التي ترفعها والقضايا التي تتبناها.وبوسع كل من يحلل مفردات الخطاب السياسي والإعلامي أن يُلاحظ بوضوح مدى السقوط الأخلاقي للأحزاب التي ترفع هذا الخطاب لجهة مسؤوليتها المباشرة عن التشوّهات والاختلالات التي يسعى البرنامج الانتخابي للحزب الحاكم من أجل إزالتها وتصحيحها بعد أن ورثها من الحقبة التي كان فيها كل من الحزب الاشتراكي اليمني والتجمع اليمني للإصلاح شريكين في الحكم مع حزب المؤتمر الشعبي العام خلال الفترة من 1990 – 1997م بما في ذلك نتائج حرب صيف 1994م التي يتحمل كل من الحزب الاشتراكي اليمني والتجمع اليمني للإصلاح قدراً كبيراً من المسؤولية عن آثارها السلبية التي بذل المؤتمر الشعبي العام جهودا واسعة لمعالجتها منذ انفراده في الحكم بعد انتخابات عام 1997م ، ومنها إغلاق ملف تلك الحرب وإلغاء الأحكام الصادرة بحق بعض قيادات الحزب الاشتراكي اليمني وغيرهم، وتفعيل قرار العفو العام الذي جوبه بمعارضة شديدة من قبل حزب الإصلاح أثناء الحرب وبعدها، وإعادة النازحين إلى أعمالهم وحل الكثير من مشاكلهم ، واستيعابهم في الحياة السياسية وأجهزة الدولة المدنية والعسكرية، وصولا الى فتح أبواب المشاركة أمامهم للانخراط في عملية البناء، والتوجه الجاد لمعالجة ما تبقى من آثار تلك الحرب من خلال إشراك العديد من الشخصيات السياسية والحزبية والاجتماعية في اللجنة الوطنية لتقويم الظواهر السلبية التي تؤثر على السلم الأهلي والوحدة الوطنية والتنمية كشكل من أشكال توسيع المشاركة السياسية في معالجة هذه الظواهر السلبية وبضمنها ما تبقى من آثار فتنة 1994م.ومن المفارقات المثيرة للتأمل أنّ الخطاب السياسي والإعلامي لأحزاب المعارضة المنضوية في "اللقاء المشترك"، يحاول الالتفاف على العديد من القضايا الجوهرية في البرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية وفي مقدمتها إجراء تعديلات دستورية تسهم في تعميق الطابع الديمقراطي للسلطة، وتفتح الطريق لإصلاح منظومة القوانين التي تكرس التمييز ضد المرأة، وتسيء إلى قيم المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان، وتحول دون تعزيز وتعميق الحكم المحلي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ أحزاب "اللقاء المشترك" وفي مقدمتها التجمع اليمني للإصلاح فرضت تعديلات دستورية ألغت النصوص السابقة التي كفلت حقوق وواجبات المواطنة المتساوية ، وتعدت على حق الشعب في أن يكون مالك السلطة ومصدرها، حيث تصر أيديولوجيا التجمع اليمني للإصلاح على عدم الاعتراف بحق الشعب في أن يحكم نفسه بنفسه ويختار حكامه عبر صناديق الاقتراع بدعوى حاكمية الله من خلال رجال الدين وأهل الحل والعقد . مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذا الحزب لم يُعلن ــ حتى اليوم ــ نقداً علنياً لهذه الأيديولوجيا الكهنوتية حتى الآن في وثائقه الحزبية ، بما يؤهله للتعاطي مع ما يرفعه من شعارات ومطالب كان ولا يزال يعتبرها في وثائقه الأساسية ومراجعه الشرعية علمانية ووافدة بل وكافرة!!!؟. وليس بخافٍ على أحد رفض أحزاب "اللقاء المشترك" تشكيل المجالس المحلية عبر انتخابات حرة ومباشرة في مطلع هذا القرن، إلى جانب إصرارها على المشاركة في اللجنة العليا للانتخابات ولجانها الفرعية وما يترتب على ذلك من إضعاف مبدأ الاستقلالية والحيادية في الجهاز المنظم للانتخابات، والذي ينبغي أن يشرف عليه القضاء المستقل بدلاً من أعضاء الأحزاب الذين يعطون ولاءهم لأحزابهم بالدرجة الأولى.في الاتجاه نفسه تعارض أحزاب "اللقاء المشترك" السياسات الرامية إلى بلورة آليات شفافة ومؤسسات قانونية ورقابية لمحاربة الفساد الذي لا تخلو منه أية دولة في العالم بما فيها المؤسسات المالية الدولية وفي مقدمتها البنك الدولي. حيث تصر هذه الأحزاب على رفع شعار مكافحة الفساد للمكايدة والاستهلاك الإعلامي والتغطية على تورطها في الفساد والإبتزاز لا غير، ولعل ذلك يفسر خوفها من أن تؤدي السياسات الرامية إلى محاربة الفساد من خلال آليات ومؤسسات قانونية ورقابية ومحاسبية إلى كشف البؤر الحقيقية للفساد وسد منابع الاستيلاء على الثروة والمال العام، وإيقاف سطوة النفوذ المالي والسياسي والاجتماعي للاوليغارشيات المتحكمة في الكثير من الاستثمارات الصناعية والزراعية والحقول التجارية التي يشارك في ملكيتها أقطاب متنفذون في أحزاب "اللقاء المشترك"، بما في ذلك نهب أراضي وعقارات الدولة والأوقاف والمواطنين، وهو ما يفسر مقاومة أحزاب " اللقاء المشترك" للإصلاحات التي يسعى البرنامج الانتخابي للرئيس والبرنامج الانتخابي للمؤتمر الشعبي العام من أجل تطبيقها في مجال مكافحة الفساد وحماية المال العام وإزالة ما تبقى من آثار حرب 1994م. ولما كانت الانتخابات الرئاسية والمحلية قد شكلت صدمة لأحزاب "اللقاء المشترك" التي راهنت على إضعاف الرئيس وحزبه، بقدر ما شكلت مفاجأة للمؤتمر الشعبي العام الذي حصد نتائج لم يكن يتوقعها، فقد أكدت هذه الانتخابات وعي الناخبين بالمشاريع المطروحة أمامهم وعدم ثقتهم بمصداقية وقدرة أحزاب "اللقاء المشترك" على تحقيق تطلعات المواطنين نحو مزيدٍ من الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تسهم في ترسيخ الوحدة وتعزيز الديمقراطية ومواصلة التنمية وحماية حقوق الإنسان، ومحاربة الفساد والفاسدين الحقيقيين.ويزيد من تأكيد هذه الحقيقة سقوط أحزاب "اللقاء المشترك" بعد الانتخابات الرئاسية والمحلية في مستنقع الانتهازية السياسية من خلال اللجوء إلى الشارع ، وتأزيم الوضع السياسي ودفعه نحو مناطق رمادية وزوايا حادة أسفرت عن دعوات مشبوهة لإحياء مشاريع سياسية استعمارية سلاطينية مثل مشروع "الجنوب العربي" الذي استهدف في نهاية الخمسينيات تلفيق هوية بديلة ومزيفة بدلاً عن الهوية اليمنية للجنوب المحتل، حيث تصدت الحركة الوطنية اليمنية لذلك المشروع وهزمته بنضالها وتضحياتها التي تخلى عنها الحزب الاشتراكي اليمني وحزب التجمع اليمني للإصلاح من خلال تبريرهما لشعارات انفصالية مشبوهة رافقتها أعمال عنف وإعتداءات على الممتلكات الخاصة وتحريض ضد الوحدة الوطنية والسلم الأهلي على نحوٍ خطير وغير مسبوق.ولا نبالغ حين نقول إنّ الحزب الاشتراكي اليمني والتجمع اليمني للإصلاح اللذين لعبا دوراً بارزاً في تأزيم الوضع السياسي خلال الفترة 1990 – 1994م أثناء مشاركتهما في السلطة بصورةٍ مباشرة وغير مباشرة من خلال حكومة الائتلاف الثنائي 1990 – 1993م، والائتلاف الثلاثي 1993 – 1994م، وما ترتب على ذلك من توليد أزمات سياسية حادة خلال تلك الفترة ، مهدت الطريق لحرب 1994م ، وإعلان مشروع الانفصال الذي ولد ميتاً، يتحملان اليوم المسؤولية عن السعي لتأزيم الوضع السياسي ودفع الأوضاع نحو مناطق رمادية وزوايا حادة والتطرف في صياغة خطاب سياسي وإعلامي غير واقعي بهدف إعادة إنتاج الأزمات، الأمر الذي يجسد عدم قدرة هذين الحزبين على القطيعة مع إرثهما السياسي والأيديولوجي الذي كان سبباً في إلحاق أضرار كبيرة بمسيرة العمل الوطني وإغراق البلاد في أتون الصراعات المدمرة، وإرهاق المجتمع بالآلام ، الأمر الذي يفرض على كل الوطنيين والشرفاء داخل أحزاب "اللقاء المشترك" بشكل خاص.. والأحزاب والقوى السياسية الأخرى بشكل عام واجب التصدي للأخطار التي تضر بالسلم الأهلي و تهدد وحدة الوطن وتقدمه. والله من وراء القصد.[c1]* نقلاً عن / صحيفة ( 26 ) سبتمبر[/c]