التطرف خلل نفسي لا يعفي صاحبه من المسئولية الجنائية، إذ أن المصاب به يكون طول الوقت واعيا بما يسببه للآخرين من أذى وألم. وهذا بالضبط ما يرتب المسئولية الجنائية عما يرتكبه من أفعال مؤذية. والمكتبة النفسية فقيرة غاية الفقر فيما يتعلق بآليات التفكير عند الشخص المتطرف، غير أنها أشد فقرا فيما يتعلق بسلوك المتطرف عندما يصل إلى الحكم. وبذلك تكون المرجعية الوحيدة لفهم التطرف السياسي هي تشريح فعل التطرف ذاته على ضوء ما نعتبره سلوكا طبيعيا للمشتغلين بالسياسة والعمل العام مع الحذر طول الوقت من الوقوع في فخ المنطق الصوري العاجز بطبيعته عن التعامل مع السلوك المتطرف. وفي الوقت الذي نستبعد فيه المتطرف من دائرة (السيكوباتية) غير أننا سنجد بسهولة أن منهج التفكير عنده يشترك مع آلياتها في مساحات كبيرة. ونحن عندما نحكم على المتطرف بأنه يعاني من خلل أو عوار نفسي يدفعه على العدوان على الآخرين، نكون قد ذكرنا جزءا من الحقيقة أو جزءا منها بما يجعلنا بعيدين عن التشخيص الصحيح. الواقع أن الأكثر أهمية من ذلك أن نعرف أن المتطرف يرى فى هذا الخلل والعوار موهبة خاصة تميزه عن بقية الآخرين من ضحاياه. الآخرون من وجهة نظره ضعفاء بلهاء ومن مظاهر ضعفهم وبلاهتهم أنهم يحترمون ويحتمون بما يسمى التقاليد والعادات والأعراف والقوانين بالإضافة لما يسمونه المثل العليا. فيما هو قادر على القفز فوق كل هذه الأسوار الحمائية أو النفاذ من ثغرات فيها ليضرب ضربته التى يؤكد بها قوته وموهبته وتميزه عنهم. هو سلوك يعود إلى عهد الطفولة عجزت التربية لسبب ما عن مساعدته على تجاوزها، فالطفل الضعيف عرضة للعدوان من أقرانه بسبب ضعفه وليس لسبب آخر. ومن الخطأ تصور أن المتطرف السياسي يشعر بأنه ضعيف على أي وجه من الوجوه، فالإحساس بالضعف ينتج عن عملية تفكير معقدة قادرة على إدراك عناصر الضعف والقوة عند البشر وهو ما يفتقر إليه المتطرف. كان لابد من هذه المقدمة كمدخل لتحليل واقعة تشكل حالة من أظهر حالات التطرف السياسي في العصر الحديث وهي القبض على خمسة عشر بحارا انجليزيا بواسطة رجال الحرس الثوري الإيراني بدعوى أنهم دخلوا المياه الإقليمية الإيرانية في الوقت الذي تؤكد فيه انجلترا أنهم كانوا بعيدين عنها طبقا لصور الأقمار الصناعية. ليست مهمتي إدانة هذا الفعل من عدمه، بل فهمه، واستخدام هذا الفهم لمعرفة المزيد عن آليات التفكير عند المتطرف السياسي. وإذا كنت قد فهمته على نحو صحيح، فإننى أقول إن المتطرف عندما يعمل بالسياسة لا يسعى للانتصار على العدو بل إلى إذلاله. لقد تطلب الأمر مرور آلاف السنين من عمر الإنسان لكي يصل إلى فهم واعتناق كلمات مثل «طبيعي» و«عادي» و«متوقع» وفي حكومة تعتمد الأفكار الطبيعية والعادية وما هو متوقع في علاقتها بغيرها من الحكومات، فإنه من الطبيعى والمتوقع والعادي ـ في غير حالات الحرب المعلنة ـ عندما يخطئ زورق بحرى ويدخل المياه الإقليمية أن يتصدى له على الفور زورق بحري آخر وينبهه مستخدما مكبرات الصوت إلى خطئه: أيها السادة.. أنتم الآن في المياه الإقليمية الإيرانية.. تراجعوا من فضلكم. العادي والطبيعي والمتوقع أن يتراجع الزورق المخطئ على الفور وخاصة عندما يكون تابعا لدولة تعتز بتاريخها البحري بوصفها سيدة البحار وبذلك لا تكون هناك مشكلة، هذه مشكلة يحسمها ضابط بحري برتبة ملازم أول وبعدها يرفع تقريرا بما حدث لرؤسائه، ولكن ما حدث كان شيئا آخر بدأت تتضح ملامحه في المشاهد التالية، مشهد القبض عليهم ثم البحارة الأسرى وهم يتناولون طعامهم في مشهد مهين وبائس، ثم أخبار عن (اعترافات البحارة) بأنهم كانوا داخل المياه الإقليمية الإيرانية، ثم صورة لسيدة تدخن فى تعاسة، ثم تنقل لنا الكاميرا خطاب (كتبته) السيدة البحارة الوحيدة بين المجموعة تعترف فيه أنهم كانوا في المياه الإيرانية. الواقع أن الأمر ليس في حاجة لدرجة تخصص عليا في البحث الجنائي لكي ندرك على الفور أن السيدة البحارة لم تكتب هذا الخطاب الذي حرص صاحبه على أعلى درجات الوضوح وأناقة الحروف وكأنه خطاط انجليزي محترف ينتمي للقرن التاسع عشر، لقد حرص كاتب الخطاب على أن تكون المسافة بين الكلمات ثابتة وهو أمر مستحيل حتى على خطاط محترف واقع في الأسر. ولكن ماذا تفعل في الرغبة في الإتقان؟ بعد ذلك، بدافع ما يمكن اعتباره شهامة، يتم الإعلان عن إفراج وشيك عن السيدة البحارة، وعندما ترفع الحكومة الانجليزية الأمر لمجلس الأمن، يأتي الرد على الفور: كده..؟ طيّب.. مش حانفرج عن الست. الواقع أنه كان من المستحيل الإفراج عنها لكي لا تحكي للدنيا تفاصيل ما حدث. المتطرف السياسي هنا على وعي بأن عدوه مقيد بقيود كثيرة، التراث التاريخي الطويل، الحكومة والمعارضة والحزب والدول الحليفة والحرص الشديد على عدم تعريض الجنود الأسرى للخطر ثم المواثيق الدولية وحتمية احترامها ثم الحرص على عدم الانجرار لحالة حرب يمكن ـ حتى الآن ـ تفاديها هذه العوامل ومئات العوامل الأخرى، هذه هي عناصر (ضعفه وبلاهته) التي سيعاقبه عليها رجل السياسة المتطرف بإذلاله وليس بالانتصار عليه. وعندما تصل الأمور إلى أقصى درجات التأزم يتم الإفراج عن البحارة الأسرى محققا بذلك وجودا قويا عند هؤلاء الذين خرجوا إلى الشارع رافعين اللافتات التي تطالب بإعدام البحارة بالإضافة بالطبع إلى الهدف الاستراتيجي وهو الإحساس اللذيذ بإذلال العدو. لنفرض على سبيل الفرض الجدلي أن انجلترا دولة يحكمها الشيخ عمر عبد الرحمن أو أسامة بن لادن أو أيمن الظواهري، هل كان الحرس الثوري سيقبض على بحارتها؟ الإجابة هي: بالقطع لا. وذلك لأن المتطرف السياسي على وعي بأن زملاءه يتمتعون بنفس ميزاته وأنهم أحرار في اتخاذ ما يحلو لهم من قرارات ولعل أسهلها هو أن يصدروا أوامرهم بتدمير كل قطع الأسطول الإيراني. [c1]* كاتب ومسرحي مصري [/c]
|
فكر
عن سيكولوجيا المتطرف السياسي
أخبار متعلقة