الأكثر ذكاء بين الكاتبات انغبورغ باخمان : كاتدرائيات ليوم صغير بارد!
ترجمة : مصطفى بدويمرة أخرى نرحل في الغابات الأدبية البارفارية التي نجهل وجهها النمساوي بشكل عام ، وما أنتجه على مستوى الكتابة النسائية بشكل خاص ، هكذا أثرنا أن نقدم حالة أدبية الزخم الهيدغيري وهي تتجه صوب مجاهل اللغة وفخاخ الوجود، لتنسج مصائر جديدة للحب بحبر الجسد الذي كف عن النبض منذ ذلك الصباح البارد الذي نعت فيه ( جيزيل تسيلان) أخاها الشاعر لعشيقته الأديبة ( انغبورغ باخمان) التي ستقدم جسدها المحترق في روما قرباناً غامضاً لوجود غامض ربما لتنهي روايتها (مالينا) على صيغة رماد الضلوع المشتعلة...!قال عنها توماس بيرنار أنها كانت الكاتبة الأكثر ذكاء بين من صادف من الكتاب ينبع من شيء بسيط جداً وهو أنها كانت تحب الحياة ومن هذا الحب الطائش للوجود كان نبوغها يرتوي ومع ذلك ليس من السهل الإيمان بالشمس أو بالجمال بعد الاسوأ، لاسيما وهي نفسها بنت رجل نازي سابق. ( لا اوجد إلا عندما اكتب ، لست شيئاً عندما لا اكتب) هكذا صرحت لصحافي ذات يوم من سنة 1971م وهي واعية بالإلحاحية الموجودة في الكلمات بعد ذلك بسنتين ، ذهبت لتحترق حية في روما في ذلك الوقت كانت قد انتهت من كتابة رائعتها ( مالينا). غير أن قلب الروائية كان قد توقف خلال الكتابة عندما توصلت ذات صباح برسالة من جيزيل تسيلان التي أخبرتها بانتحار بول(1) لقد ارتمى ، إذا خليل باخمان في نهر السين تحت جسر ميرابو (جسرالشاعر) لأنه لم يعد يؤمن مطلقاً بالشعر( حياتي انتهت لأنه غرق في النهر. ذاك الذي كان يمثل حياتي...لقد أحببته أكثر من حياتي!) أنها الكلمات الشبيهة بالدموع التي انزلقت إلى صفحات (مالينا) في ذلك الصباح الذي علمت فيها بالخبر يفرض عملها هذا التوتر على القارئ بحيث تحول الكابوس التاريخي مثل معاناتها الحميمة إلى قصيدة ، قصيدة تغني فيها جنيات البحر وصيادو عوليس الذين تصالحوا اخيراً ، قصيدة الموت وضفائره الطحلبية الخضراء منسية ، والشمس التي وضعتها طفلة ( كلاجنفيرت) الصغيرة على شاطئ البحر تنهض من جديد كي تلفح المتشردين. لا حدود بعد اليوم! لان هذه الندوب المرعبة التي خلقها الرجال تجلد القلب والفكر لتزعج الذكاء والإحساس. كذلك مرت انغبورغ دون أن تحركها أطروحتها حول هايدغر لتتجه نحو قراءة قصائد تسيلان لقد تقبلت تناقضات حياتها ومفارقات قلوب الآخرين برشاقة نادرة. كان تسيلان نهراً عاشقاً ، فيما كانت باخمان شعلة سماء متلهفة أما الغناء الذي كانت تنسجه الأعمال الطباقية للعاشقين معاً، فقد ترك أصداءه في الرعب الغريب للأرواح اليقظى التي تنتظر الفجر. قبل عشر سنوات أعادت باخمان ترتيب العالم بمعونة مجرفة أدبية قصيرة برفقة رفاقها في مجموعة 47. كانت تعرف أكثر من أي احد أخر أن تقديم العالم بقي مغلقاً داخل اللغة هذه اللغة التي هي غير قادرة على القول.سأقول أيضا أنها كانت شغوفة بالموسيقى وكانت تريد الكتابة عنها لان التناغم ( الذي تحققه الموسيقى طبعاً المترجم) وحده القادر على الوصول هناك حيث اللغة تتوقف! كانت انبغورغ صارمة خصوصاً مع نفسها. كان على مسيرتها في الفن أن تكون سفراً دون تسويات وكان على الطريق المستعار أن يصبح مصيرياً لأنه لا يمكن تجنبه كانت تعرف انه بمقياس الضرورة تقاس قوة عمل كاتب ما هذه الراديكالية هذا الالتزام الكلي للذات في الإبداع يقوي إعجابي ويلزمني دائماً بطرح أسئلة جدية على نفسي عندما اكتب. غياب الحيلة شيء نادر عندما نشتغل بواسطة الكلمات. لقد شقت باخمان اللغة الألمانية في غياب الرضا الشيء الذي ساهم في جعل كتبها كاتدرائيات مذهلة صدر كنائسها المدمر بالقنابل منفتح دائماً على يوم صغير سريع التأثر بالبرد في الصباح الأبيض وتحت صفصافة أراها تمشي نحو البحيرة ستتوقف هناك لتترك وراءها أحجار الكنائس ولا تعطي اعتباراً- بجدية اكبر - إلا لتلك الأحجار التي تغني على قارعة الطريق يتعلق الأمر بإعادة إزهار الأحجار من جديد الأحجار الصغيرة الموضوعة على قبر بول وكل الآخرين. فيلسوفه وروائية عالمة في الموسيقى مسرحية وشاعرة عملت باخمان على إعادة الكرامة المهدورة للناس فلربما من بنت جلاد جاء السلام والطفلة التي رأت - وهي في الحادية عشرة من العمر - قوات هتلر تلج (كلاجنفيرت) - مدينة ميسيل (2) أرادت أن تطرد الخوف والخجل من قلوب الناس حتى يستعيدوا إنسانيتهم شخص رواياتها عاديون وحكاياتهم أكثر ابتذالا لكن من خلال الملاحظة العنيدة في تفاصيل الوقائع يتدفق الأمل ، الأمل مقيم في الموسيقى في البيت الشعري الرخو في الإيقاع في القهوة الصغيرة هناك في ضواحي الضواحي في السيجارة التي تتبدد في كأس من الويسكي ..ستولد الإمكانيات المرتبطة بالغد من إعادة صياغة العالم هذه ومن الفقر النثري .ليس سهلاً أن نتعلم المشي أو الابتسامة من جديد وطيف باخمان الذي يتجه صوب البحيرة يترنح، لكن وجهها الشبيه بدمية سلافية تحت المطر - يبتسم بهدوء تعرف تلك التي عنونت ثلاثيتها ( التي لم تكتمل) ب : (روايات حول صيغ الموت) أن ماء السماء والعيون يلج دروب اليأس ويرسم سبل الوضوح دونما التفاتة نحو الوراء ، لان انغبورغ تسخر من ميدوزا تنزل انغبورغ نحو الجحيم ثم تصعد نحو الضوء على إنسانيتها بيدها. [c1]هوامش[/c] انغبورغ باخمان 1926-1973م حازت الدكتوراه في الفلسفة سنة 1950م برسالة عنوانها:(التلقي النقدي للفلسفة الوجودية لمارتن هايدغر) بدأت حياتها الأدبية شاعرة ضمن جماعة 47. حلقت بها قصائدها ومسرحياتها في عالم الشهرة في الوسط الألماني ما اكسبها مكانة متميزة تقاسمت بين سنتي 1958-1962م حياتها مع الكاتب السويسري الألماني ماكس فريش على اثر لقاء في فرانكفورت ، فعاشا بين روما وفرانكفورت نالت جائزة بوخنر سنة 1964م ولتسهيل عملية تلقي تلك القصائد كتبت نص : ( برلين مكان للصدف) ظهرت روايتها ( ماينا) في جزئها الأول والأخير سنة 1971 لان الموت المفاجئ سيضع حدا لمسيرتها الأدبية . كانت عشيقة الشاعر بول سولان في سنة 2008م نشرت مراسلاتهما تحت عنوان: ( زمن القلب) . (1) بول سولان 1970-1920 شاعر فرنسي يهودي الأصل كان يكتب بالألمانية . ولد في رومانيا ، تأثر بتجربة إبادة اليهود من قبل النازية كان أبواه ضحية لهذه الإبادة. انتحر في باريس، حيث كان يقيم منذ سنة 1948.(2) ميسيل (روبيرت فون)1942 1880- : كاتب نمساوي كان مهندساً سافر إلى برلين قصد متابعة دراسة الفلسفة وعلم النفس إلا انه قرر أن يتخصص في الآداب فكتب مسرحية ( المتحمسون/1921) كما كتب ديوان: (ثلاث نساء/1924) قضى بقية حياته في كتابة رواية ضخمة لم يكملها ، بعنوان : ( الإنسان بدون صفات) صدر الجزء الأول منها سنة 1930 أما الجزء الثاني الذي ظهر سنة 1933 فقد منع من قبل النظام النازي أقام ميسيل في فيينا التي غادرها سنة 1938 ليختار المنفى السويسري صدر الجزء الثالث بعد وفاته ويحلل في هذا العمل الضخم نهاية الإمبراطورية النمساوية - الهنغارية فيما شخصياته تبحث على غرار الكاتب عن حقيقة ولو عابرة وتبقى هذه الرواية واحدة من الأعمال الكبيرة التي ميزت أدب القرن العشرين. المصدر : ما غازين ليتيرير - عدد 489- أيلول (سبتمبر) 2009م - ص: 90 - 91.