العدوان الإسرائيلي البربري الهمجي الوحشي (رجاء أن يعذرنا العقلانيون إذْ نصرّ على استخدام هذه الصفات) مثال جديد على العديد من الأمثولات العتيقة المكرورة التي تصنع تاريخ النظام الدولي المعاصر، أو ذاك الحديث والحداثيّ بأسره لمن يشاء، وتنتج وتعيد إنتاج أخلاقياته ومعاييره وخطاباته وعلاماته. ويكفي الآمل خيراً في هذا النظام أن يستعرض الجدل الطويل المضني (أين منه سفسطة البيزنطيين!) الذي شهدته بروكسيل قبل أيام، حول الفارق بين "وقف إطلاق النار" و"وقف الأعمال العدائية"، الذي غرقت فيه ديمقراطيات الاتحاد الأوروبي قبل أيام، وفي الآن ذاته كان الوحش الإسرائيلي البربري الهمجي يواصل الإجهاز على المزيد من المدنيين في لبنان، فيقتل عشوائياً، ولا يبقي حجراً على حجر، ويضرب ويقصف وينسف ويدمّر، شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً...مصيبة هذا النظام ـ الذي، للتذكير فقط، يُختصر بين الفينة والأخرى إلى عبارة واحدة وحيدة، غائمة جامعة مانعة في آن، هي: "المجتمع الدولي" ـ لا تقتصر على ارتداده إلى سلوك سابق مكرور أثبتت الوقائع إفلاسه وعواقبه الوخيمة فحسب، بل كذلك في أنّ الارتداد ينطوي على الانحطاط أكثر فأكثر، نحو عواقب أشدّ أذى وأبعد أثراً. وفي الماضي كانت صيغة الكليشيه المعتادة في اندلاع حروب إقليمية أن يطالب "المجتمع الدولي" دون سواه بوقف إطلاق النار فوراً، إنْ لم يكن بدافع النفاق ورفع العتب، فعلى الأقلّ بغية إفساح المجال أمام القوى الكبرى المعنية بببعض أو جميع أطراف الاقتتال (وهي، دائماً وأبداً، معنية بالضرورة!) كي تتساوم وتتفاهم وتتفق.الآن تعمد الولايات المتحدة، وخلفها يلهث رئيس الوزراء البريطاني توني بلير كما يليق به أن يفعل عادة، إلى إسقاط واجب الحدّ الأدنى هذا، الذي كانت تتمسح به في الماضي ولعلها ستتمسح به مجدداً في أية سانحة قادمة مختلفة السياقات، فتمتنع عن المطالبة بوقف إطلاق النار، وتعلن أنّه " غير مفيد الآن". أكثر من هذا، تضغط أمريكا على حلفائها وسائر الأجرام الدائرة في فلكها كي لا يصدر أيّ قرار عن أية جهة دولية (مؤتمر روما، مجلس الامن الدولي، الإتحاد الأوروبي...) يشير إلى العبارة الرجيمة: وقف إطلاق النار. وبالطبع، لا يخفى على أحد أنّ هذا الرفض يمنح الدولة العبرية كلّ الوقت، بل الوقت المفتوح بلا قيود ولا ضوابط، كي تنهي ما تشاء من مهامّ في جنوب لبنان. وما دامت المقاومة اللبنانية صامدة وباسلة، بل وتردّ الصاع صاعين أحياناً في مستوى القتال المرن المتحرّك غير الكلاسيكي، فإنّ العدوان الإسرائيلي لا يتعجّل البتة فيتمهل ويتباطأ ويقلّب الرأي كلّ يوم في أمد العدوان: أسبوع آخر، 10 ـ 14 يوماً، أسابيع أو أشهر غير محددة، حتى تتحقق أغراض الحرب! والأيام الأخيرة برهنت من جديد (وكأنّ أحداً يظلّ بحاجة إلى برهان!) أنّ أوروبا العملاقة الموحدة، القارّة العجوز العريقة وأمّ اأنظمة الإستعمار وفلسفات الأنوار وأنظمة لديمقراطية في آن معاً، عاجزة تماماً عن اعتماد سياسة خارجية مستقلة قيد إنملة عن تلك السياسات التي تعتمدها الولايات المتحدة، مؤقتاً أو على المدى الإستراتيجي، إزاء سلسلة طويلة من الملفات الدولية الشائكة، وعلى رأسها قضايا الشرق الأوسط بالطبع. وعلى سبيل المثال، أشارت التقارير إلى أنّ فنلندا، التي تترأس الإتحاد الأوروبي حالياً، صاغت مشروع قرار يدعو على وقف فوري لإطلاق النار، كما يتضمن عبارة اخرى رجيمة تحذّر من أنّ "عدم الاكتراث بالتنبيهات الضرورية لتفادي وقوع خسائر في الحياو المدنية يعدّ انتهاكاً صارخاً للقوانين الإنسانية الدولية". وبالطبع، سقطت العبارتان، ليس نزولاً عند رغبة بريطانيا وحدها هذه المرّة، بل كذلك إرضاءً للوفود الألمانية والتشيكية والبولندية والدانمركية!المثال الثاني، ولكن من الواقعة ذاتها، أنّ الدبلوماسية الفرنسية هللت لهذا القرار الأوروبي، فاعتبرته انتصاراً لمساعيها وتدشيناً لـ "حزمة" التسوية التي ستفضي إلى نشر قوّات حفظ سلام متعددة الجنسيات، وتطبيق القرار الأممي 1959. ولقد تناسى وزير خارجيتها فيليب دوست ـ بلازي أنّ النصّ يشكّل ردّة فاضحة عن المطالب الفرنسية في الأيام الأولى من العدوان، وهي المطالب التي تبنتها إيطاليا وإسبانيا، حول وقف إطلاق النار على الفور، ودون شروط. ونحن، في هذا الصدد، ابعد ما نكون حتى عن اللغة الشعرية العالية التي صال بها وجال دومنيك دوفيلبان، وزير الخارجية الفرنسي السابق ورئيس الحكومة الحالي، في وجه المحور الأمريكي ـ البريطاني قبيل غزو العراق. الردّة، مع ذلك، أكثر فضائحية في مواقف القادة الأوروبيين الآخرين، الذين أعادوا تذكيرنا بآخر مناسبة مماثلة لإعادة إنتاج المكرور، في هيئة انحطاط أشدّ فضحاً لمسمّى "المجتمع الدولي". وقبل قرابة ثلاث سنوات فقط أتحفتنا بالهيئة المنحطة تلك حفنة من أبرز قيادات الديمقراطيات الأوروبية (سبعة بالتمام والكمال: الإسباني خوزيه ماريا أثنار، البرتغالي خوزيه مانويل باروسو، الإيطالي سيلفيو برلسكوني، البريطاني توني بلير، التشيكي فاكلاف هافل، الهنغاري بيتر ميجيساي، البولوني لاشيك ميللر، والدانمركي آنديرس راسموسن)، حين اختاروا صحيفة "التايمز" البريطانية لتوقيع بيان مشترك يدعو إلى الحرب ضدّ العراق، ويتجرّد علانية من الضمير (الضمير القياسي البسيط المتفق عليه كونياً، والذي يحدث انه ضمير أوروبا القارّة العتيقة العجوز، وضمير فلسفات العقل والحداثة وحقوق الإنسان...)، ويمارس قلّة احترام الذات، واحتقار الشعوب وغضّ البصر عن عذابات البشرية.الفرسان السبعة، زعماء الديمقراطيات الأوروبية، لم يترددوا في رفع الفزّاعات ذاتها التي رفعها البيت الأبيض آنذاك، بل أضافوا إليها جرعة من المزاودة في الإعراب عن الإفتتان بالولايات المتحدة (والغمز بالتالي من الدول الأوروبية الأخرى التي لم توقّع هذا النصّ، وفي طليعتها فرنسا وألمانيا)، وجرعة ثانية من المزاودة على دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي: "نحن في أوروبا نرتبط مع الولايات المتحدة بعلاقات صمدت أمام اختبار الزمن. فبفضل شجاعة وسخاء وبُعد نظر أمريكا، بصفة أساسية، نجحنا في التحرّر من شكلين من أشكال الطغيان دمّرا القارّة في القرن العشرين: النازية والشيوعية. وبفضل التعاون المستمرّ بين أوروبا وأمريكا تمكنّا، أيضاً، من ضمان السلام والحرية في القارّة. والعلاقات هذه ينبغي أن لا تكون ضحية محاولات النظام العراقي المستمرة لتهديد الأمن الدولي".في الآن ذاته كان وزير الدفاع الأمريكي دونالد رمسفيلد يرى في الحرب على العراق فرصة " لاستئصال ازدواجية الموقف الأمريكي من استخدام القوّة، والتي خلّفتها فييتنام"، فضلاً عن تخليص البنتاغون من عقدة "الضربات الصاروخية" التي طبعت الحقبة الكلينتونية (والتي سخر منها الرئيس الأمريكي جورج بوش نفسه في خطاب حال الإتحاد). من جانبه كان ديك شيني، نائب الرئيس الأمريكي، يرى في الحرب على العراق فرصة لتخليص الوجدان الأمريكي من "أشباح الستينيات: فقدان السلطة الأخلاقية والإحساس بأنّ أمريكا تضمحلّ أو تسير في الطريق الخطأ".الفرسان السبعة من جانبهم اعتبروا الحرب على العراق فرصة لـ "ضمان السلم والأمن العالميين"، وفرصة إضافية ــ وكذلك: فرصة ثمينة! ــ لكي يبرهن مجلس الأمن الدولي لى "مصداقيته عن طريق ضمان الإلتزام التامّ بقراراته". وكان يسيراً تماماً، وغير مدهش بالتالي، أن يتناسى الفرسان السبعة عشرات القرارات التي اتخذها المجلس ذاته في ملفّ الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وظلّت حبراً على ورق لأنّ الدولة العبرية ترفض تطبيقها، هكذا ببساطة. وكان تحصيل حاصل أن يتناسى زعماء الديمقراطيات الأوروبية أنّ الرئيس الأمريكي لفظ عبارة "دولة فلسطينية" مرّة واحدة في خطاب استغرق ساعة كاملة، وكأنه كان يقول إنّ ما تمارسه سلطات الإحتلال الإسرائيلية في فلسطين المحتلة من مذابح وحشية وممارسات نازية لا يهدد السلم والأمن العالميين، أو لا علاقة له بهما أبداً!وفي تلك البرهة من اصطفاف معظم الديمقراطيات الغربية خلف الولايات المتحدة في قرار خوض الحرب أو إعطاء السلام فرصة من أيّ نوع، كانت الأرقام تقول إن أمريكا تنفق على السلاح والجيوش والقضايا الأخرى الدائرة حول فكرة "الأمن القومي" مايزيد على مجموع ما ينفقه العالم بأسره. وفي المشهد ذاته، قبل نشر عشرات الآلاف من القوّات الأمريكية والبريطانية في الخليج للانقضاض على العراق، كان أكثر من نصف مليون عسكري أمريكي ينتشرون في 395 قاعدة عسكرية كبيرة، ومئات القواعد الثانوية الأصغر، في 35 بلداً أجنبياً. ومنذ الحرب العالمية الثانية وحتى عشية اندلاع حرب الخليج الثانية، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 200 مليار دولار لتدريب وإعداد وتسليح جيوش أجنبية في أكثر من 80 بلداً، أسفرت عن أكثر من 75 انقلاباً عسكرياً، وعشرات الحروب الأهلية التي تسببت في مئات الآلاف من الضحايا.وفي غمرة ذلك كله كانت تجري عمليات دائمة من "تصنيع" العدو وتأثيمه إلى المدى الأقصى الذي يبرّر التدخل العسكري، والغزو، والإنقلاب، والحرب الأهلية. كانت هذه هي الحال مع بناما، مصر، البيرو، البرتغال، نيكاراغوا، التشيلي، جامايكا، اليونان، الدومينيكان، كوبا، فييتنام، كوريا الشمالية، لبنان، العراق وليبيا... وليس مهماً هنا أن يكون العدو إصلاحياً، أو ديمقراطياً، أو اشتراكياً، أو شيوعياً، أو إسلامياً. والولايات المتحدة، آنذاك كما اليوم أيضاً، تنفرد وحدها بموقع رائدة "العالم الحرّ" بامتياز، التي تفرض الثقة أو تحجبها، وتوافق أو لا توافق على هذه أو تلك من التعاقدات الدولية، بصرف النظر عمّن يبرمها. لكن أجهزتها الأمنية ــ وتحت ستار "الأمن القومي" الأمريكي دائماً ــ شاركت في إسقاط أنظمة ديمقراطية أو إصلاحية منتخبة في غواتيمالا، غويانا، الدومينيكان، البرازيل، تشيلي، الأرجنتين، اليونان، أندونيسيا، بوليفيا، وهاييتي. كذلك شاركت الأجهزة ذاتها في مؤامرات خفية، أو عن طريق استخدام المرتزقة، ضدّ حكومات شرعية في كوبا، أنغولا، الموزامبيق، إثيوبيا، كمبوديا، تيمور الشرقية، الصحراء الغربية، سورية، مصر، لبنان، البيرو، زائير، جنوب اليمن (سابقاً)، وجزر فيجي...بعض الزعماء الذين وقّعوا بيان العام 2003 غادروا السلطة، وبعضهم ما يزال في هرم القرار، غير أنّ روحية الإصطفاف ما تزال على حالها تقريباً، أو على حالها مع مزيد من الإنحطاط. هل يعيد التاريخ نفسه، اليوم بالذات، وببساطة مذهلة؟ نعم، دون تردّد، مع فارق أنّ الأدوات وحدها هي التي تتبدّل، وأمّا الأداء فهو ثابت متكرّر. ثمّة سجلّ إمبريالي لا ينبغي التقاعس عن استذكاره كلما قرع الأمريكيون طبول الحرب، بأنفسهم او عن طريق حلفاء أو وكلاء، وكلما لوّحوا بالأصفاد والسياط والصناديق المعدة لسجن الحضارات والشعوب والأفراد دونما مستند شرعي في القانون الدولي.كلما فعل الأمريكيون ذلك، وكلّما سار الأوروبيون وراءهم: كالنعاج، أو كالضباع... الأمر سيّان!\[c1][email protected]* كاتب سوري[/c]
|
فكر
المجتمع الدولي : مسمّى زائف واصطفاف أعمى خلف أمريكا
أخبار متعلقة