انتشرت في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ ظاهرة التنديد بما تسميها الجماعات المتطرفـــــة ( مفاسد ) الفنون والموسيقى والحفلات الغنائية التي تنظمها الفعاليات والمهرجانات الثقافية والفنية في المجتمع . بيد أن أخطر مارافق هذه الظاهرة وصولها إلى بعض المساجد الخاضعة لسيطرة بعض الجماعات المتطرفة التي تحاول استغلال منابرالمساجد وتوظيف خطبتي صلاة الجمعة لصالح أجندات حزبية وسياسية ضيقة، وتفخيخ هاتين الخطبتين بمواد ناسفة تهدد حياتنا جميعا، من خلال التحريض على تكفير وتفسيق المجتمع ومحاربة الفنون والموسيقى والرياضة، والترويج للأفكار التى تدعو إلى صناعة الموت والتخلف والإقامة الدائمة في الماضي .لسنا بصدد الرد على مروجي هذه الأفكار الضالة ، بيد أن ذلك لا يمنع من التذكير بإسهامات الغناء والموسيقى والفنون في تشكيل الوجدان الوطني اليمني للأجيال التي كافحت ضد الاستبداد والاستعمار ، ودافعت عن الهوية الوطنية اليمنية ، الى جانب إسهامات الفنانين والموسيقيين والمطربين من الجنسين في صناعة الابتسامة والفرح الانساني ، وتشكيل الوجدان الوطني بروح الانتماء للوطن والاستعداد للتضحية في سبيل حريته واستقلاله ووحدته ، دون أن يفسدوا بروائعهم الغنائية والموسيقية أخلاق هذه الأجيال وولاءها للوطن وحبها للحياة وتمسكها بالقيم الدينية السمحة . على النقيض مما يحدث اليوم عندما يجري تحريم الفنون والغناء والموسيقى والسينما والمسرح ، وما يرافق هذا التحريم من تكفير وتفسيق وتأثيم للمشتغلين في الفنون و محاربة للمبدعين ، والترويج للأفكار التي تدعو الى صناعة الموت، وتحرض على الاقامة الدائمة في الماضي ، وما يترتب على ذلك من مخاطر مدمرة لا تقف عند حدود قتل روح الانتماء للعصر وحب الحياة لدى الأجيال الجديدة ، بل تتعدى ذلك الى إضعاف روح الانتماء للوطن والولاء له ،حيث يجرى تعبئة الشباب بروح معاداة قيم العصر وتكفير الانتماء الوطني بوصفه ( بدعة ) تستهدف فرض حدود جغرافية وثقافية وسياسية أمام فريضة الجهاد العابرة الحدود. لا تنحصر خطورة الأفكار الضالة والجماعات المتطرفة التي تروج لها على إضعاف روح الانتماء للعصر وللوطن لدى الشباب الضال الذي يتأثر بهذه الأفكار ، لكنها تمتد لتصل الى أبعد من ذلك حين يتم إضفاء طابع القداسة الدينية عليها ، وإعتبار تطبيقها فريضة جهادية تقتتضي التعامل مع الذين لا يؤمنون بها بوصفهم كفارا خارجين عن الدين ، وبالتالي يتوجب الجهاد ضدهم وإباحة دمائهم . بوسعنا القول ان موجة تكفير الفنون والموسيقى والمهرجانات الغنائية، و تفسيق الفنانين والمثقفين ليست جديدة على بلادنا التي شهدت في الأعوام السابقة موجات مماثلة رافقتها جرائم إرهابية طالت عددا من محلات التسجيلات الغنائبة والفنانين والمثقفين .في هذا السياق لم تسلم الصحف والصحفيين من مخاطر هذه الموجات المتطرفة . ولازلنا نتذكر تلك الوثائق الخطيرة التي نشرتها صحيفة ( الثقافية ) عندما كان الزميل سمير اليوسفي رئيسا ً لتحريرها قبل حوالي خمس سنوات بخط يد قاتل الشهيد جار الله عمر الذي كان يخطط أيضاً ـــ بحسب تلك الوثائق ـــ لاغتيال كوكبة لامعة من المثقفين والأدباء والصحفيين والسياسيين وأساتذة الجامعات.. وقد تضمنت الوثائق صوراً لهم مذيلة بتعليقات شريرة انطوت على تكفيرهم واتهامهم بالردة والباطنية والطعن بالشريعة والصالحين.كاتب هذه السطور كان بين من خطط ذلك الإرهابي المعتوه لقتلهم، ووضع تحت صورته اتهاماً قضى بإخراجه من الملة، ووصفه بأنه خبيث جداً، كما وصف الأخ عبدالله الدهمشي بأنّه خبيث جداً جداً، أما الزميل حسن عبدالوارث رئيس تحرير صحيفة (الوحدة ) فقد نال صفة (أخبثهم جميعاً) بحسب فتوى ذلك القاتل !!حظي الزميل سمير اليوسفي رئيس تحرير ( الجمهورية ) حاليا و (الثقافية) سابقا ، بنصيب الأسد من الأوصاف والعبارات والخطط والإجراءات التفصيلية التي تحرض على إهدار دمه، فيما أصبح إهدار دم الزميل هشام علي وكيل وزارة الثقافة واجباً شرعياً على كل مجاهد محتسب ((لأنّه من أشد المناصرين لإفساح المجال للأدباء بأنْ يكتبوا ما شاؤوا، بالإضافة إلى أنّه يرفض القراءة الدينية للأعمال الأدبية)) . وعلى هذا الطريق الضال قرر ذلك القاتل بدم بارد إهدار دم الزميل أحمد الصوفي لسبب بسيط يتلخص في أنّه ((يكتب في صحيفة (الثوري) ويؤيد العلمانية ويُعارض الإسلاميين)) ، بحسب فتواه التي نشرتها (الثقافية ) قبل خمس سنوات !!أخطر ما جاء في الوثائق التي انفردت ((الثقافية)) بنشرها قبل خمس سنوات ، فتوى القاتل ـــ ولعله أخذها من مرشديه الروحيين ـــ بأنّ ((الذي يجب شرعاً في الجهاد هو مواجهة الكفار الأقرب إلينا))، مشيراً إلى ((أنّ السفر للجهاد ضد الكفار واليهود والنصارى والهنود في الخارج أصبح متعذراً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م.. ولذلك فإنّ الجهاد ضد الكفار الأقربين في الداخل واجب شرعي سواء تمّ ذلك بشكل جهادٍ جماعي أو جهادٍ فردي)).. ومضى القاتل في الاستشهاد بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وآراء فقهية لدعم موقفه وتبرير مخططه الإجرامي الذي يستهدف قتل تلك الكوكبة اللامعة من مثقفي بلادنا.. بمعنى أنه لا يقول غير كلام الله وكلام رسول الله، ولا يفعل سوى تطبيق الشريعة الإسلامية، كما وردت في كتاب الله وأحاديث رسوله عليه الصلاة والسلام، وهو أسلوب تعلّمه على يد بعض الذين يخضعون النصوص الدينية لتأويلاتهم الخاصة وتوجهاتهم السياسية ومصالحهم الضيقة ، ويعتبرون أنفسهم حراساً للدين ووكلاء عن الله في الأرض، ثمّ يمنحون أشخاصهم تفويضاً إلهياً للحكم بين الناس باسم الله فيما يختلفون!!ثمة علماء دين ومفكرون إسلاميون عديدون ينكرون على أمثال هؤلاء نزعاتهم الاستبدادية والطاغوتية لتكفير وإهدار دم كل من يخالفهم في أفكارهم ورؤاهم وتأويلاتهم.. ويذهب الكثير من العلماء التقاة إلى أنّ الحكم على إيمان أي إنسان هو اختصاص إلهي لا يجوز الاعتداء عليه من قبل أي أحد.. كما يذهب آخرون ومن بينهم الشيخ حسن حسين فضل الله ومحمد محمود طه والشيخ الشهيد حسن الذهبي والدكتور حسن الترابي والمفكر الاسلامي جمال البنا ، إلى القول بعدم وجود حد الردة في القرآن الكريم الذي ينص صراحةً على أنّ (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وينذر الكافرين بعقابٍ اليم في الآخرة ويحذر كل (من قتل نفساً بغير نفس أو إفساد في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً)، ولا ينسى هؤلاء العلماء الاستشهاد بآيات قرآنية وأحاديث نبوية يدعمون بها موقفهم الرافض للفتاوى التي تجيز تكفير المسلمين ، وتحكم بإهدار الدماء وتحرض على قتل المخالفين في الرأي والفكرو السياسة والعقيدة.عندما طالعت الوثائق المنشورة في ((الثقافية)) قبل خمس سنوات تذكرت محاولة اغتيال نجيب محفوظ على يد إسكافي فاشل لمجرد أنّه سمع خطبة للشيخ محمد البدري تتهم عملاق الأدب العربي العالمي بالكفر وتدعو إلى استتابته أو قتله.. واستحضرت واقعة محاكمة قاتل الدكتور فرج فودة وهو سباك سبق له دخول السجن عدة مرات بتهم النشل والسرقة وشهادة الزور، حيث أبرز محاميه تقريراً طبياً يفيد بأنّه مريض نفسياً.برر قاتل الدكتور فرج فودة جريمته، بأنّه احتسب لوجه الله بعد أن سمع شريطاً (دعوياً) لأحد شيوخ الفقه البدوي في نجد، يتهم الدكتور فرج فودة بالردة والطعن في الأحاديث النبوية والصالحين.استمعت المحكمة إلى ذلك الشريط الذي أبرزه ممثلو النيابة العامة ونيابة أمن الدولة .. وأصيبت القاعة بالذهول لحظة سماع الحاضرين صوتاً خطابياً تحريضياً لذلك الشيخ النجدي جاء فيه : ((إنّ المرتد فرج فودة دخل إلى أحد المساجد متظاهراً بأداء فريضة صلاة العشاء، وجلس بعد الصلاة بهدف الاستماع إلى درس كان يلقيه أحد الدعاة.. ثمّ قاطع ذلك الداعية معترضاً بكل وقاحة على دعوته أمام الحاضرين في المسجد، ومتهماً إياه بخدمة المخططات الصهيونية التي زعم المرتد فودة بأنّها تستهدف الاقتصاد المصري.. ولم يتوقف هذا المرتد عند هذه الإساءات التي لا تصدر إلا عن اليهود فطعن في الإمام الشيباني رضي الله عنه، وهاجم الداعية حين استشهد بما جاء في كتابه ((الكسب)) نقلاً عن أئمة الحديث والمحققين في حديث ( ثابت الوقوع ) لرسول الله {صلى الله عليه وسلّم} قضى بأنّ الزراعة مذمومة . وأنكر أنّ النبي {صلى الله عليه وسلم} رأى شيئاً من آلات الحراثة في دار قوم فقال : ((ما دخل هذا بيت قوم إلا ذلّوا))، وسخر المرتد فودة من ذلك الحديث ومما أورده الإمام الشيباني وأئمة الحديث والمحققون عن الذين سألوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن قوله عز وجل ((إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم في أعقابكم)) أهو التعرب يا رسول الله، فقال لا ولكنه الزراعة)) !؟الثابت أنّ فرج فودة وهو خبير متخصص في الاقتصاد الزراعي، لم يكتفِ بمعارضة ذلك الداعية في أحد مساجد مصر الجديدة بل وكتب ضده مدافعاً عن اقتصاد مصر والبلدان العربية والإسلامية، ومحذراً المصريين، وكل العرب والمسلمين من مصير مدمر إن هم صدقوا هذه الروايات التي تمتلئ بها الأشرطة والكتب الوافدة إلى مصرَ من بلدان الخليج.. وفي الاتجاه نفسه كتب فرج فودة العديد منالمقالات والكتب التي انتقد فيها أفكاراً مماثلة لهذا النوع من الخطاب الديني الذي يستند إلى أحاديث ضعيفة وروايات مشبوهة تحث النساء على مقاطعة الموز والباذنجان والكوسة درءاً للفتنة، ، علما ًبأنها من المحاصيل الزراعية الوفيرة التي ينتجها الفلاحون المصريون ويستهلكونها ويصدرون إلى أوروبا و دول الخليج الفائض منها.. وكان أجدى بالذين حرضوا ضده والذين قتلوه أن يناقشوه ويعرضوا حجتهم ولكنهم ـــ شأنهم في ذلك شأن قاتل جار الله عمرـــ يرفضون مناقشة الآراء التي تخالفهم ، وينزعون إلى إهدار دماء أصحابها ويحرضون على استئصالهم من الحياة بعد اتهامهم بطعن الدين وسب الصحابة والصالحين!!تتجلى فيما تقدم خطورة ثقافة التكفير والتفسيق والتأثيم والتعصب الملتبسة بالدين.. وقد شهدت هذه الثقافة المدمرة موسماً دامياً خلال العقدين الأخيرين وتسببت في انتشار نزعات التطرف والتكفير قولاً وفعلاً.. وما ترتب عليها من عنفٍ وإرهاب وإهدار للدماء وترويع للأبرياء وتشويه لصورة الإسلام والمسلمين في العالم بأسره.. ولعل أخطر ما تنطوي عليه هذه الثقافة سعيها لإضفاء القداسة على فتاوى التكفير وشيوخ التطرف، وتوجهها نحو غسل أدمغة الذين يتلقونها ويعهد إليهم واجب تنفيذها، حيث يتم إعدادهم بروح الطاعة العمياء وعدم المناقشة وتحريم النقد، الأمر الذي يفسر حرص الجماعات والتنظيمات التي تروج لثقافة التطرف والتكفير، وتدعو إلى الدولة الدينية، على تكوين جمهور من صغار السن الذين يسهل غسل أدمغتهم وإرسالهم إلى بئس المصير.
|
فكر
ثقافة التطرف تناهض الولاء الوطني
أخبار متعلقة