اتيين دينيه:
عندما ولد اتيين دينيه الرسام الفرنسي الشهير عام 1861، كانت فرنسا إحدى أهم الدول المعبرة عن روح الغرب وحضارته الجديدة. وكانت الطبقة البورجوازية الأوربية الناهضة يومئذ، المتمثلة بدول وقوميات مختلفة، تتناحر للتوسع فيما وراء البحار بحثاً عن المواد الأولية الرخيصة، والأسواق الجديدة لإنتاجها الصناعي الذي يحقق لها القوة والثروة والنفوذ والرفاه الاقتصادي والاجتماعي. وكانت الوسائل العسكرية المدعومة بآخر مبتكرات العلوم وتطبيقاتها التكنولوجية وسيلتها الفعالة لتحقيق ذلك الهدف الحيوي. أما العالم الإسلامي، فكان بموقعه الجغرافي المميز، وثرواته الطبيعية الهائلة، وحجمه الديموغرافي الواعد، هدفاً مغرياً للاحتلال بعد أن خلخل الوهن كيانه، وشل التخلف المريع قدراته على الحركة والتفكير والمقاومة وتساقط معظم أقطار العالم الإسلامي في آسيا وإفريقيا تحت سيطرة الدول الاستعمارية، وانطلاق حملات مسعورة في أوربا والغرب ضد الإسلام والمسلمين، تدعمها وتغذيها الأوساط الدينية المتعصبة والدوائر السياسية الاستعمارية، التي صورت الإسلام ديناً همجياً معادياً للعلم وللتطور، ولا تدين به سوى الشعوب الهمجية، حتى أن بعضهم اقترح استخراج رفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونقلها إلى أحد متاحف أوربا لعرضها كأثر من الماضي وتاريخه، بينما اقترح البعض الآخر على المسلمين التحول إلى المسيحية إذا أرادوا إنقاذ أنفسهم من الهلاك، والتأقلم مع حضارة العصر الحديث ومفاهيمه. وقد واجه الشيخان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده هذه الحملات المهينة أثناء وجودهما في أوربا وردا عليها بالمحاضرات وعلى صفحات الجرائد، خصوصاً على ادعاءات الكاتب ومؤرخ الأديان الفرنسي أرنست رينان، والمؤرخ والدبلوماسي كبريال هانوتو الذي كان وزيراً لخارجية فرنسا (1894 ـ 1898)، وعلى غيرهما من الكتاب أدعياء البحث العلمي الرصين والمنزه.[c1]الجزائر، البداية[/c]لم يكن الأوربيون يعرفون عن تعاليم الإسلام وحياة النبي محمد إلا ما كان يكتبه المستشرقون وينشره رجالات الكنيسة، وهو في معظمه مشوه وحاقد. وعندما أتاحت المصادفة لـ (اتيين دينيه) زيارة الجزائر، عام 1884 والتعرف مباشرة على سكانها المسلمين وعاداتهم، وتقاليدهم، وعباداتهم، بدت له تلك الدراسات المنتشرة في أوربا عن الإسلام ورسوله أباطيل ملفقة في معظمها، وبعيدة عن الحقائق العلمية. ذكر ذلك في كتابه (إشعاعات نور الإسلام) وقد أتاحت له هذه الزيارة وما تلاها من الزيارات للجزائر، أن يتعرف عن كثب إلى عوالم جديدة لم يألفها من قبل: عالم الأضواء الخلابة، والظلال الصامتة التي تعكسها الصحراء برمالها وواحاتها وسرابها، وعالم الألوان الجذابة التي تنبض بها الطبيعة في الجزائر، وما يحفل به عالم المسلمين الجزائريين من الأفراح والأحزان والعادات والتقاليد ومشاغل الحياة ومظاهر الإيمان الروحي العميق الذي يطبع حياتهم بالبساطة والمودة والتسامح وسمو الأخلاق، والذي يعبرون عنه بطقوس وعبادات بسيطة تصلهم مباشرة مع الله.[c1]سجين المتعتين[/c]خصّت الطبيعة (اتيين دينيه) بمتعتين: متعة الرسم، ومتعة الكتابة: عن متعة الرسم التي طورها في مدرسة الفنون الجميلة بباريس وفي أكاديمية جوليان، صدرت مئات اللوحات الرائعة بعمقها وألوانها وموضوعاتها، خصوصاً تلك التي تصور حياة المسلمين الدينية وتعبيراتها، وحركاتها وفضاءاتها، وهي لوحات رسمها بعد استقراره في واحة (بو سعادة) الجزائرية على أبواب الصحراء منذ عام 1888، والتي يزين معظمها أشهر متاحف الرسم في العالم.أما متعة الكتابة، وهي بالنسبة إليه رسم بالكلمات بدلاً من الألوان، فقد صدرت عنها عدة مؤلفات: منها ما يتعلق بالرسم وقضاياه، ومنها ما يتعلق بالإسلام وتعاليمه، وقد كان للقائه بسليمان بن إبراهيم عام 1888 أثر فيها. كانت أولى هذه المؤلفات مختارات من أشعار عنترة ترجمها إلى الفرنسية وأصدرها عام 1898 مزينة بمائة وعشرين لوحة تصور الفضاء البلدي والصحراوي الذي عاش فيه عنترة في الجزيرة العربية. وفي عام 1902 أصدر كتاب (ربيع القلوب) الذي يتضمن مجموعة من ثلاث أساطير صحراوية اختارها صديقه سليمان بن إبراهيم ورسم هو فضاءها، ونشر بالعربية في مركز الأخوة الإسلامية في باريس كتابه (إشعاعات نور الإسلام) ونشره بالفرنسية تحت عنوان Rayons de lumiere islamique وهي من أهم الكتب التي أصدرها دفاعا عن الإسلام وقضاياه. وقد استقبل كتابه عن حياة الرسول بهجمات عنيفة من دوائر المستشرقين لأنه اعتمد السير العربية القديمة كابن هشام، وابن سعد، وعلي برهان الدين الحلبي، كمراجع أساسية له بدلاً من أبحاثهم ودراساتهم فكان رده عليهم أن ما كتبوه عن الإسلام والمسلمين منذ الحروب الصليبية حتى اليوم، خصوصاً عن حياة الرسول، فيه تحريفات كثيرة، رغم ادعاءاتهم أنها بحوث علمية مجردة، وانتقادات بريئة، وقد أراد (اتيين دينيه) من نشر كتابه فضح تلك التحريفات، والدفاع عن قضايا الإسلام الدينية والسياسية في الغرب، وتصحيح معلومات الغربيين عن الإسلام والمسلمين وعن الرسول وحياته وعندما تكنَّى ( دينيه) باسم (ناصر الدين) كان يتمثل ما تعنيه هذه الكنية نظرياً وعملياً.[c1]ضريح بوسعادة[/c]ومن المؤلفات الأخرى التي كرسها (دينيه) للدفاع عن الإسلام، كتابه (الشرق كما يراه الغرب)، الذي كتبه عام 1917 ونشره عام 1921 بالاشتراك مع صديقه سليمان بن إبراهيم وكان مسك الختام في مؤلفاته كتاب: (الحج إلى بيت الله الحرام) الذي أنجزه بعد أداء فريضة الحج عام .1929 لكن مرضه ووفاته في ديسمبر من العام نفسه أخرا صدوره إلى العام التالي. وكانت وصيته التي كتبها بخط يده أن يدفن وفق طقوس الشريعة الإسلامية في واحة (بوسعادة) الجزائرية التي رسم فيها الكثير من لوحاته، والتي على أرضها تعرّف إلى الإسلام وتعاليمه.[c1]محمد ضاهر"العربي" - العدد498 - مايو2000 [/c]