عندما يأتي رمضان يتبادل الناس التهاني، ولكن بالنسبة لي الأمر ليس تهنئة، ولكن سؤال: هل لا تزال عند رأيك الذي أعلنته في العام الماضي من أن التدخين لا يفسد الصيام ؟ وهو الرأي الذي أثار غضب الكثيرين، وتمنى أصدقاء عديدون لو أني تفاديت مثل هذا الموضوع الحساس الذي يعطي انطباعًا بأن صاحبه يشذ عن أحكام أصبحت من مسلمات المسلمين جميعًا، على الأقل لأن هذا يؤدي إلى إساءة الظن ببقية جوانب الفكر الذي ندعو إليه والذي يظلم بمثل هذه الظنون.أقول للأخوة المتسائلين، والمشفقين إن القضية ليست قضية حكم في أحد الموضوعات، إنها قضية منهج، فإذا اختلفت المناهج اختلفت الأحكام.والمنهج الذي وضعته لنفسي هو الالتزام «بالله والرسول»، وهذا ما يمكن أن يترجم بالقرآن، والصحيح الثابت المنضبط بالقرآن من السُنة، ومثل هذا المنهج لا يلتزم بآراء الفقهاء، ولا ما انتهي إليه السلف الصالح من أحكام، فالقرآن يحذرنا من أن نتهرب من مسؤوليتنا، ونقول «أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ»، ولا أن نجعل من الفقهاء مشرعين يحلون ويحرمون، فهذا في حقيقته شرك يدخل تحت قول إن “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه”.ولما كانت المؤسسة الدينية المعترف بها «الأزهر» تجعل ما انتهى إليه الأئمة من السلف وأصحاب المذاهب من أحكام محورًا وأساسًا لمنهجهم السلفي، فمن الطبيعي أن تختلف آراؤهم عن آراء منهج لا يعود إليهم، ولكن إلى القرآن والرسول مباشرة.وقد وجدت القرآن الكريم يدعونا للتدبر والتفكير ولإعمال عقولنا حتي لا نقول «لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ» (الملك: 10)، كما وجدت القرآن يجعل العبادة وقفاً لله تعالي، فلا يجوز لأحد أن يزيد عليها أو ينقص منها، إن عليه أن يلتزم بها ويقف عندها. وفي هذه النقطة بالذات يتفق المنهج السلفي مع القرآن الكريم. ولم أجد في القرآن أو لدي الرسول شيء عن السجاير على وجه التعيين لأنها لم تكن معروفة ولم تظهر إلا بعد نزول القرآن وحياة الرسول بمئات السنين.إذن لا يمكن أبدًا القول إن القرآن والرسول يحرمان السجائر، وهذا هو التحريم الأصولي والشرعي.ولكن هذا لا يعني أن لا نجد حلاً للمستجدات، إننا نجد الحل في الاجتهاد، فعلينا أن نجتهد، وما نراه غير متفق مع أصول القرآن والرسول، فمن حقنا أن نقرر هذا دون أن نقول إنه حرام أو حلال، لأن الحرام والحلال وقف على الله تعالي، وهذا في الحقيقة ما كان الورعون من السلف والفقهاء يحتذونه، فكان الإمام أحمد بن حنبل يتفادي أن يقول حرام أو حلال ويلوذ بما دون ذلك من تعبيرات.وقال ابن وهب سمعت مالكاً يقول: «لم يكن من أمر الناس ولا من مضي من سلفنا، ولا أدركت أحدًا اقتدى به يقول في شيء هذا حرام وهذا حلال، وما كانوا يجترئون على ذلك وإنما كانوا يقولون نكره هذا، ونرى هذا حسناً فينبغي هذا ولا نرى هذا»، ورواه عنه عتيق بن يعقوب وزاد «ولا يقولون حلال ولا حرام»، أما سمعت قول الله تعالي: «قُلْ أَرَأَيتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللَّهِ تَفْتَرُونَ»، «الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله».النقطة الحاسمة أن الاجتهاد لا يلزم إلا من يقتنع به، وأنا أعتقد أن الاجتهاد قد يكون مصيبًا في معظم الحالات، ولكن هذا لا يعطي صفة الإلزام، لأننا لو فعلنا هذا لجعلناه شرعًا إلهيا، ولو أخذنا به لأخضعنا الشعوب والجموع لاجتهادات الفقهاء.وقد بدت بوادر ذلك عندما صدرت فتاوي تحرم البقاء بعد العمرة للحج، ونجعل من لا يشترك في الانتخابات «آثم قلبه»، وأن تقديس الصحابة ركن سادس من أركان الإسلام.. إلخ، وإذا سمح بهذا فسنجد أنفسنا تحت حكم «ولاية الفقيه».لقد انتهزت قضية التدخين والصيام لأثير قضية «التحليل والتحريم الشرعيين»، وأفرق ما بينه وبين ما يفتات عليه من دعاوى تلحق به، كأن يقال مثلاً السجاير ضارة، ونحن لا نشك في هذا، ولكن الامتناع عنه نهارًا لا يمنع الإقبال عليه ليلاً، وربما بصورة تعوض حرمانه بالنهار، وكذلك ما قيل أن شهر رمضان هو شهر «ضبط النفس»، وهذا صحيح ولكن فيما فرضه الشارع، وليس فيما فرضه المجتهدون.على أن الفكرة فيما ذهبنا إليه ليست مطلقة، فلا جدال أن من يستطيع أن يصوم مع الامتناع عن التدخين أفضل وإن هذا ممكن للأغلبية، ولكن القضية أن هناك فئة ــ قلت أو كثرت ــ تعودت على التدخين بحيث أصبح عادة محكمة لا يسهل التحلل منها، وبالنسبة لهذه الفئة فإن الصيام مع الامتناع عن التدخين يعني موقفاً من ثلاثة مواقف:الأول: أن يصوم، ولكن يتملكه الاكتئاب بحيث يعجز عن العمل والإنتاج، وقد يسيء معاملة الناس أو يرجئ أعمالهم ويضر بمصالحهم، وقد يلوذ بالنوم حتى أذان المغرب.والثاني: أن يدخن سرًا سيجارتين أو ثلاثاً ويدعي الصيام.والثالث: أن لا يصوم لأنه لا يستطيع ترك السجائر نهارًا كاملاً.وكل موقف من هذه المواقف سيئ، ولا يمكن الأخذ بواحد دون الآخر، وقد جئنا لمثل هذا الشخص بالحل وهو أن تدخين ثلاث أو أربع سجائر لا تفسد صيامه فليدخنها ويواصل صيامه فنحن كسبنا للصائمين شخصًا كان يمكن دون ذلك أن يكون من المفطرين.وكما كان لي سند شرعي سلبي، فإني في القسم الإيجابي اعتمدت على أصل إسلامي قرره القرآن هو الحكمة التي جعلها القرآن قرينة للكتاب مع آيات عديدة، وهذا الحل هو ما توحي به الحكمة، فلم نخالف الشرع في الحقيقة، بل إن القرآن نفسه جعل لنا ملاذاً وحلاً.ولم أكن أعلم أن ابن عابدين، وهو أحد كبار أئمة الحنفية أباح التدخين، فهذا ما جاء في كلام أحد المعترضين، كما لم أكن أعلم أن آية الله السيستاني إمام الشيعة في العراق أباح للذين لا يستطيعون صبرًا عن السجائر تدخين ثلاث أو أربع سجائر.وأود أن أذكر القراء بأني كتبت في هذه الجريدة يوم 20/9/2006م مقالاً بعنوان «الغيرة علي حرمة الصيام» ذكرت واقعة هي ــ كما جاء في المقال ــ:«ذكرني هذا بحدث وقع في يوم 23/6/1983م ، عندما فتحت صفحات جريدة الأهرام (وهو أحد أيام رمضان)، فوجئت بكاريكاتير صلاح جاهين وهو يمثل شخصًا (عُتُلا) يحمل في يده اليمني زجاجة شراب تتساقط النقط منها، وفي فمه سيجارة مشتعلة، ووراءه الشمس ساطعة متوهجة، وهذا العـُــتـُــل يقول: (أيوه أنا اسمي رمضان.. فيه حاجة لامؤاخذة !)، نشرت الصورة في المقال».عندما وقع نظري على هذا الرسم غلى الدم في عروقي، وأرسلت برقية إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الشوري جاء فيها:«كاريكاتير الأهرام اليوم الخميس مثال صارخ لتحدي مشاعر الشعب وطعن أقدس مقدساته وسيحسب على الحكومة والصحافة القومية.. حرية المعارضة شيء، والجليطة والاستهانة بمشاعر الناس شيء آخر».كما كتبت إلى الأستاذ عبد الله عبد الباري والأستاذ إبراهيم نافع: الكاريكاتير الذي نشرته الأهرام اليوم الخميس 23/6/1983م، مثل صارخ للفجاجة والجليطة والوقاحة، وإذا كان في رسامكم عرق ينبض بالفسوق والشهوات يحاول أن يدسه في رسومه، أو إذا كان قد أفلس ولم يعد لديه إلا سقط المتاع، كما تشهد بذلك رسومه الهابطة والساقطة، فواجب الأهرام ورئيس تحرير الأهرام أن يجنب الأهرام وقراءها هذا الإسفاف.من حق القراء أن يقرءوا هذا ليعلموا أن كاتب المقال لا تنقصه الغيرة على حرمة الصيام.وهناك رأي آخر أثار دهشة أو معارضة شبيهة بمعارضة رأي التدخين في رمضان، هو «جواز إمامة المرأة الرجال»، فقد كان الأساس الذي اعتمدت عليه هو أن المعيار الذي وضعه الرسول للإمامة هو العلم بالقرآن، ولهذا ولي صبيا الإمامة على مشايخ قومه لأنه كان أعلمهم بالقرآن، وولي مولى هو سالم مولى أبي حذيفة الإمامة على مشيخة المهاجرين والأنصار لأنه كان أعلمهم، فإذا وجد رجل جاهل بالقرآن، وامرأة عالمة به فهل يستقيم معه أن نجعل الرجل الجاهل بالقرآن إمامًا لمجرد أنه رجل، ونحرم المرأة العالمة لمجرد أنها امرأة ؟في الحالة التي لابست هذه الواقعة في الولايات المتحدة كانت السيدة أمينة ودود أعلم المجموعة التي كانت معها بالقرآن، فقد قرأته وكتبت عنه كتابًا، في حين أن المجموعة هي من الشباب الأمريكي الذي لا يعلم عن الإسلام إلا الأساسيات، فكانت هي الأحق بالإمامة.وفضلاً عن أن هذا العمل دفع عن الإسلام تهمة يدعيها الأمريكيون هي أن الإسلام يؤخر المرأة، ولا يسمح لها بالتقدم، وأنها تدخل المسجد من باب خاص أشبه بباب الخدم، فجاءت صلاتها إمامًا تنفي هذه المزاعم.أما ما أثاروه من دفوع، فالمفروض أن لا نأخذ بها مادام لدينا المبدأ الذي وضعه الرسول نفسه، والذي يتفق مع أن الصلاة هي أساسًا قراءة قرآن، ولكننا استبعدنا المبدأ النبوي لدعاوى ركيكة، فحكاية أن الصلاة الإسلامية فيها ركوع وسجود وأن هذا لا يمكن المرأة أن تسجد دون أن تجسم أماكن العورة فيها، فهذا إنما يكون عند العرب القدامى الذين كانت فكرتهم عن المرأة أنها «تدفئ الضجيع»، وأن من علامات الجمال تضخم العجيزة حتى لا تكاد تستطيع القيام إلا بصعوبة، إن مثل هذه المرأة «العجزاء» لا توجد في أمريكا، أما ما عدا هذا فإن الملابس السابغة التفصيل لا تكشف شيئاً بحيث تجعل المرأة كالرجل تمامًا، وقد رأينا صورتها ونشهد بهذا بإخلاص وأمانة.أما الادعاء بأن هذا لو كان جائزاً لكانت السيدة عائشة أحق النساء به، فإن هذا لا يمس المبدأ، ولكن يعني أن ظروف وبيئة المجتمع العربي ما كان يمكن أن تكون المرأة إمامًا، كائنة من كانت.لقد انتزع الإسلام بصعوبة بالغة ــ حقوق المرأة ــ من براثن الروح الجاهلية التي ظلت مسيطرة بالنسبة للمرأة، فما كان يمكن للمجتمع العربي أن يسيغ أو يهضم إمامة سيدة، ولو كانت عائشة نفسها.نقول إن مجتمعنا المصري (والعربي أشد) لا يقبل أن تتولى إمامة الصلاة امرأة، وهذا لا يعود إلى صدق إسلامه، ولكن إلى «ذكورية» المجتمع العربي والمصري، ولابد من أن تمر أجيال وأجيال وأن ترتفع مستويات الثقافة والفكر، وكذلك المستوى المادي والاجتماعي قبل أن يتحرر من الأفكار الذكورية التي تحكمه.وليس شرطاً أن ما لم يحدث في عهد الرسول لا يمكن أن يحدث في عصرنا، فهذا لزوم ما لا يلزم، وإيقاف للحراك الاجتماعي الذي لا مناص منه، والمهم هو التأسيس على مبدأ إسلامي.وأنا أفهم إشفاق المشفقين، ولكن القرآن الكريم علمنا أن لا تأخذنا في الحق لومة لائم، وحذرنا من المصانعة والمداهنة، وأوضح لنا أن لا يكون هدفنا الاستكثار من الأتباع والمؤمنين، ولكن تبليغ الدعوة كاملة، وأن هذا هو ما يجب أن يلتزم به كل من يتولى دعوة وعليه أن لا يأبه لما يلقى من رفض أو اضطهاد، أو عزوف أو استنكار، وعليه أن لا يستعجل، وأن يعلم إن لكل أمر قدرًا وأجلاً، وأن تغيير العادات والتقاليد التي تلصق بالأديان أمر عسير يتطلب أجيالاً، وقد يشترط أن يموت الداعية أولاً حتي يعترف به، كل هذا نحن نعلمه ونلتزم به، ولا يضيرنا، أن الله تعالي كلف الأنبياء بالبلاغ حتى وإن لم يقسم لهم نجاح مساعيهم التي من أجلها أرسلوا «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يهْدِي مَنْ يشَاءُ» (القصص: ٥٦)، لأن فشلهم في تحقيق الهدف كاملاً أفضل من تحقيق هدف ناقص يحسب عليهم ويشوه دعوتهم، لأن كلمة الحق ما لم تصدع بها كاملة، شاملة، صريحة، لا مهادنة فيها، فإن الدعوة ستتخبط في إصلاحات جزئية أو في «الوسطية» التي يمكن أن تحافظ على استقرار، ولكنها تحول دون ثورة، ولا يمكن تعويض تخلف أربعة قرون بوسطية أو بحلول تقليدية، لابد من مجاوزة المراحل والقفز فوق الواقع والالتزام بالطابع الثوري لحركة الإصلاح، فإذا أراد الله لها أن تنجح، فقد حققت الهدف، وإلا فإنها لم تخن مبادئها أو تشوه فكرتها.ولنا في رسول الله “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ”.[c1] مفكر وأكاديمي مصري[/c]
|
فكر
وجاء رمضان
أخبار متعلقة