[c1]تمهيد:[/c]تشهد الدوائر الأكاديمية والثقافية والإعلامية الراهنة سعاراً محموماً في ترديد كلمة "الحضارة" وما تثيره في النفوس والأذهان من ردود أفعال وعواطف وأفكار مختلفة وملتبسة أحياناً، إذ أن بداهة الاستعمال السيء للكلمة طوال السنوات الماضية قد جعلها عرضة إلى سوء فهم لا حد له، ومصدراً لكثير من الغموض واللغط والضلال، حيث بتنا نطلقها على ظواهر وأشياء لا حصر لها من قبيل الحضارة البدائية والحضارة المادية والحضارة الصناعية والحضارة المادية وصدام الحضارات وحوار الحضارارت والحضارة المتخلفة والحضارة المتقدمة والحضارة الغربية والحضارة الإسلامية والغزو الحضاري والتخلف الحضاري، وعبر جميع الاستخدامات لمفهوم الحضارة يتم تحميلها معاني ودلالات متنوعة ومتباينة ومشوشة تزيد من تعميق سوء التفاهم والتباعد بين الشعوب أكثر مما تكشف عن المعنى الحقيقي للحضارة والتاريخ، وعلى الرغم من ان مفهوم الحضارة يعد من المفاهيم القديمة في الفكر التاريخي إلا أن التاريخ لم يشهد إعادة بعث لمفهوم آخر أكثر من مفهوم الحضارة إذ أخذ الفلاسفة والمؤرخون منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى اليوم يوجهون جل اهتمامهم في البحث والدراسة في مشكلة الحضارة والتاريخ بدءً بالأديب الانجليزي ماثيو ارنولد 1822 ـ 1888م في كتابه "الحضارة والفوضى" وكتاب الأمريكي دبروكس آدموز "الحضارة والاضمحلال" 1893م وكتاب الألماني ماكس نوردو "الانحلال" وكتاب شبنجلر "سقوط الحضارة الغربية" وكتاب فرويد"عصر الحضارة" عام 1929م وكتاب كارل كروس "الأيام الأخيرة للنوع البشري" وكتاب جرانت "زوال الجنس العظيم" 1916م وكتاب كولن ويلسون "سقوط الحضارة" وكتاب الألماني البرت اشيفتسر "فلسفة الحضارة" وما كتبه ارنولد تويني "الحضارة في الميزان" والحضارة على المحك 1965م ودراسته الواسعة لتاريخ الحضارات العالمية الذي عددها بـ 26 حضارة متعاقبة، وكتاب هنتجتون "صدام لحضارات" وكتاب روجيه جارودني "حوار الحضارات" وكتاب فوكوياما "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" وكتاب اولفين توفلر "حضارة الموجة الثالثة" وكتاب توماس سي ـ باترسون "الحضارة الغربية .. الفكرة والتاريخ" وكتاب ارتثر هيرمان "فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي" وكتاب "جغرافيا الحضارات" لـ بريتورولان.وثمة قائمة طويلة من الكتب التي تتناول الحضارة او الحضارات صدرت في أوروبا وأمريكا في السنوات القريبة الماضية، وهذا لوحده يكفي شاهداً على خطورة المسألة وأهميتها وحيويتها وهذا ما المح إليه الأمريكي باترسون بقوله "يتكرر استخدام كلمة الحضارة اليوم في وسائل الإعلام أكثر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ويغالي الان خبراء الإعلام في فضائل الحضارة ويحذروننا في الوقت نفسه من أخطارها."غير ان ما يثير الاحباط والأسى في واقعنا العربي الإسلامي هو عجزنا الواضح والفاضح عن الدخول في حوار فكري أصيل حول المشكلة التي آخذت تشكل دوار عصرنا أي إشكالية الحضارة التي مازلنا نتعاطى معها بردود فعل وانفعالية عاطفية تعمي ولا تنير، تشوش ولا توضح، ولما كان قدرنا ان نعيش في هذا العصر وننفعل بما يعتمل فيه من أحداث ومتغيرات شئنا ذلك أم أبينا فلابد لنا نحن القاعدون في وسط القرية الكونية ان نتعلم التفكير النظري والمنهجي ونحاول الدخول الى ساحة الإبداع الثقافي بان يكون لنا رأينا الخاص في مشكلة التاريخ والحضارة، رأي يعتد به ويبنى عليه، وذلك لا يتم إلا بمباشرة التأمل العميق والدقيق في المنظومة الفكرية الواسعة في الدراسات التاريخية وان نمتلك رؤية منهجية نقدية عقلانية أسوة بسلفنا التاريخي العظيم عبدالرحمن بن خلدون الحضرمي الذي قال رأيه في التاريخ فاحسن القول.[c1]الحضارة: إشكالية المفهوم[/c]تجدر الإشارة إلى أن التاريخ سيء التوافق مع التنميط (أي تصنيف الأحداث في أنماط) فليس من المستطاع إطلاقاً تقديم أنماط دقيقة لظواهر التاريخ كالحضارات، مثلما يقدم عالم البيولوجيا وصفاً نمطياً لضرب من الحشرات أو الطيور، ذلك لان حوادث التاريخ فريدة إذ أنه يتحدث "عما لن يراه أحد مرتين أبداً".كما ان المفاهيم المتصلة بالتاريخ ملتبسة ومضللة لان موضوعها نفسه يتحرك ويتبدل ويتغير ويتحول وفي كل الحضارات لا توجد نواة ثابتة وجوهر واحد قابل للتعريف وحيد يصلح جوهراً لكل الحضارات.وكل تعريف هو تعريف اجرائي بحسب رؤية الدارس للظاهرة المدرسة.ولعل الحاجة إلى تعريف وتحديد المفاهيم المستخدمة في الدراسات التاريخية نزداد اليوم بالنسبة لنا، لاسيما وان التجربة قد برهنت على ان عدم الاكتراث بمناقشة الألفاظ يصاحبه في المعتاد تشوش في الأفكار والتصورات حول الاشياء ومضامينها، وهذا ما نشاهده فيب أي نقاش يثار بين الاساتذة أو الطلبة او المثقفين أو المهتمين بشأن التاريخ والحضارة والثقافة والمدنية أوحتى بين اساتذة التاريخ أنفسهم ـ من خلط ولبس وأبهاك بسبب عدم الاتفاق مسبقاً على تحديد معاني المصطلحات والمفاهيم التي يستخدمونها حينما يناقشون موضوعات تاريخية. لهذا نرى ان تعريف المفاهيم وتحديدها هو الخطوة المنهجية الأولى في المناقشات التاريخية ذلك لانها تجعلنا على بينة من أمرنا بشأن معاني تلك الكلمات التي نتحدث عنها، وما دامت هناك كلمات مختلفة واسماء متعددة فلابد لنا من ان نعرف ونحدد دلالاتها المختلفة المتمايزة.وربما يعود تخلف الثقافة المعاصرة ـ إلى ذلك الالتباس والغموض في استخدام المفاهيم التاريخية إذ يتم فيه الخلط بين قوى التاريخ خلطاً تفقد به الأسماء الدلالة على المسميات ولا تدل به المسميات على أسمائها، وفي هذا ما فيه من تعطيل لغة الكلام بقعودها عن القيام بوظيفتها المعرفية العلمية وعن مواكبة حركة التاريخ والتقدم الثقافي.وقد وجدنا من هذا الخلط ان الملأ الثقافي يتحدثون عن الحضارة ولا يقصدون في حقيقة الأمر إلا الثقافة أو المدينة والثقافة، معاً أو المدينة والثقافة ومعهما الحضارة ويتحدثون عن الثقافة ولا يقصدون في حقيقة الأمر إلا الحضارة أوالمدنية اوة الحضارة والمدنية، ويتحدثون عن المدنية ولا يقصدون في حقيقة الأمر إلا المدنية، وينجم عن هذا الخلط بين المفاهيم والمعاني كثير من الإبهام والتشوش في الأفكار والآراء والتصورات.ونحن إذا اردنا أن نعرف هل الحضارات تتصادم أم تتعايش وتتحاور لابد لنا في ابدء ان نحدد بدقة المعنى المقصود من الحضارة ونبين طبيعة الحضارات وخصائصها ونرى هل طبيعتها الصدام أم الحوار؟ ولماذا وكيف؟ يتبع أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة المساعد/ جامعة عدن
|
ثقافة
الحضارات .. صدام أم حوار ( 1-5 )
أخبار متعلقة