بسب التحالفات السياسية الهشة في نقابتهم وتحــوُّل الصحافة الى أداة لإنتاج الفوضى
تواجه مهنة الصحافة تحديات كثيرة، أكثرها خطورة هو تآكل ما يمتلكه الصحفيون من رأس مال اجتماعي نتيجة الحروب الأهلية المصغرة التي غرقوا فيها. ويعني رأس المال الاجتماعي- في هذا السياق- قيم التضامن، والثقة المتبادلة، والاحترام المتبادل التي تسود أي جماعة مهنية، تمارس دورها في إطار مؤسسات المجتمع المدني. إذا غابت هذه القيم، أو ذبلت فقدت الجماعة الصحفية مبرر وجودها، ولم تعد مكونا أساسيا من مكونات المجتمع المدني. وبدلا من أن تقوم نقابة الصحفيين ببناء روح التضامن والثقة بين أعضائها، وإشاعة قيمة الحوار الديموقراطي فيما بينهم، تحولت هي ذاتها إلى ساحة القتال الرئيسية، في مشهد ملتبس أدى بالصحفيين إلى الصراع داخل نقابتهم أكثر من الاشتباك خارجها. تحولت النقابة من مؤسسة مدنية لممارسة ثقافة التنوع والاختلاف إلى ساحة للتنابذ والتلاسن وتبادل الاتهامات. أي ديموقراطية يتحدث عنها الصحفيون إذا لم تقدم نقابتهم «النموذج» في إدارة الاختلاف، واحترام التنوع، وغياب المصادرة؟. بات العمل النقابي ساحة نزال، تتشاجر فيها الفرق المتناحرة، وتتراشق بالاتهامات. لم تعد فكرة التحالفات السياسية نفسها ذات معنى. فقد حمل الصحفيون السياسة إلى النقابة على حساب المهنة في أحيان كثيرة، وتحزبوا وفق انتماءاتهم السياسية، وشكلوا تحالفات هشة، تتلاقى حينا وتتصادم أحيانا، وأنتهى الأمر بهم إلى مشهد أقرب إلى ما ذكره توماس هوبز «حرب الكل ضد الكل». الحرب دبت في صفوف المتحالفين أنفسهم، مثلما ظلت مستعرة بين الفرقاء. وشاعت التهم التقليدية بالخيانة، والموالاة للحكومة....الخ في صفوف أبناء التحالف الواحد، في حالة غريبة من الاختلاط، لم يعد يشكل ملامحها سوى نسبة الأفعال إلى «الزميل الصحفي....»، والسؤال هو زميل في أي مؤسسة؟ بل وزميل في أي مهنة؟الجماعة الصحفية بحاجة إلى صياغة جديدة تخرجها من شرنقة الحزبية، والصراعات الضيقة، وتبعث لها روح الثقة المتبادلة، والتضامن، والاحترام المتبادل. وحتى يحدث ذلك يجب أن يستقر الصحفيون على مبادئ أساسية تعيد إليهم من جديد مفهوم «الالتزام الجماعي» في مواجهة «المشروعات الفردية»، و”الحوار” مقابل “الابتذال”، والتنوع في الرأي بدلا من “الانفراد” بالقرار الصحفي، وتقرير مصير الجماعة الصحفية بشكل منفرد، دون عودة إليها، أو الحصول على تفويض واضح منها.أحد المداخل إلى ذلك هو العمل على تحقيق «نقابة موحدة» في إطار التنوع. الحرية التي ينادي بها الصحفيون، لا تعني شيئا آخر سوى التنوع، والاختلاف، والرأي الآخر، والتباين. الإصدار الصحفي الجديد يعني إنعاش الرأي الآخر، ولكن لا يجب أن تكون زيادة الإصدارات الصحفية على حساب تماسك الجماعة الصحفية، أو عاملا على بث الفرقة بين أعضائها، أو خلق شبكات مصالح تتصادم على حساب المهنة ذاتها. لم تستوعب بعد نقابة الصحفيين زيادة الإصدارات، ولم تخلق أطرا للحوار بين الآراء المختلفة، ولم تحفظ للصحفيين وحدتهم في إطار التنوع والاختلاف. قلصت صراعات السياسة مساحات الحوار في أروقة النقابة، وجعلت الجماعة الصحفية مصدرا من مصادر إنتاج ثقافة “الواحدية” التي نعاني منها على مستويات مختلفة.عودة الوعي إلى الجماعة الصحفية لن يتحقق إلا بالتزامها الجمعي بقيم المهنة التي تنتمي إليها. ليس بالدفاع عن المهاترات والابتذال والتجاوز، لان هذا كفيل بتدمير الأساس الأخلاقي والمهني للصحافة، وتحول الصحفيين إلى أداة لإنتاج الفوضى، واللا مسئولية، واللا معنى في المجتمع المصري، الذي يعاني بالفعل من فوائض في الفوضى وغياب المسئولية. ويتكون مثلث المهنية الصحفية من ثلاثة أضلاع هي: إلغاء العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر، وإقرار قانون يتيح للصحفي حرية الحصول على المعلومات، وتفعيل ميثاق الشرف الصحفي، بما يكفل الحفاظ على نزاهة الجماعة الصحفية، والتزامها الأخلاقي والضميري بما تقوم به. لا تستند مهنة الصحافة على ضلع دون الآخر، ولا تتحقق باثنين دون الثالث. فلا يستقيم منطقيا محاسبة صحفي على تجاوز مهني بينما توصد أمامه أبواب الحصول على المعلومة، ولا يمكن عمليا وقف التجاوز المهني «الملفت» للصحفيين في مجالات كثيرة دون أن تتاح لهم المعلومات. حين تغيب المعلومة تظهر الثقافة «السماعية» التقليدية. هذه هي الحلقة المفرغة التي تدور فيها الصحافة والصحفيون، تنتج الحروب الأهلية على أطرافها، ويتشبث البعض بضلع دون الآخر، بينما العلاج في كل الأضلاع، دون استبعاد لأحدها، أو شرط مسبق لتطبيق أي منها.يحتاج الصحفيون إلى بناء رأس مال اجتماعي جديد لهم في مجتمع يغيب فيه دور الدولة يوما بعد يوم، ويتغول فيه رجال الأعمال، ولم يعد أمام الجماعات المهنية إلا ما تمتلكه من رأس مال اجتماعي، أعني التنظيم، والمهنية، والثقة المتبادلة بين الأعضاء، وشيوع روح التضامن بين أبناء المهنة الواحدة.[c1]- كاتب مصري[/c]