تركي علي الربيعو*يمكن القول إنه منذ ما عرف بـ(صدمة الغرب) ممثلة في الاحتلال الفرنسي لمصر، إلى صدمة الاحتلال الأميركي لبغداد مع بداية الألفية الثالثة، ظلّ الخطاب العربي الحديث والمعاصر في أحد وجوهه الأكثر راديكالية يجنح باتجاه رفض أسس الحداثة الأوروبية.وذلك نتيجة لما سمّاه إدوارد سعيد بالتعايش المريح بين جسد الثقافة الأوروبية والاستعمار الذي حجب من خلفه هذه الحداثة أو سعى إلى فرضها عنوة، وباتجاه اتهام الداعين إلى ذلك بالغفلة والخيانة.وهنا نعثر على تراكمات نقدية خيانية داخل هذا الخطاب لا حدود لها، وأخيرا العودة إلى الإسلام في صورته النقية الأولى كموقف دفاعي في وجه شراسة الحداثة الأوروبية المتصالحة مع الاستعمار.من وجهة نظر الجابري أن خير من يمثل هذا الموقف، هو الشيخ جمال الدين الأفغاني الذي عايش صدمة الغرب عن قرب، لذلك فهو يمثل الأب الروحي والمرجعية الفكرية لتيار الإسلام السياسي في أكثر أشكاله راديكالية، إذ يعتبر الغرب دار جاهلية وما ملّ بعد من الحديث عن إفلاس الحضارة الغربية وتدهورها.وهذا ما يفسر الإقبال على قراءة كتاب الألماني شبنجلر الموسوم بـ(انحطاط الحضارة الغربية) والمترجم إلى العربية تحت عنوان (تدهور الحضارة الغربية)، ولم يمل أيضاً من التعلق بما عرف بالمعادلات المستحيلة الحل التي لا تتصور إمكانا لنهضة الأنا إلا بغياب الآخر.وانتقلت عدواها إلى حقل الميثولوجيا المفلسفة كما يعبر عنها جيدا المفكر المصري حسن حنفي في كتابه (الاستغراب) الذي يرسم لنا تخوما لنهضة ميثولوجية تأخذ شكل دورة سباعية مدتها 700 سنة، بحيث عندما تكون الأنا العربية في الذروة يكون الآخر/الغربي في الجحيم والعكس صحيح.وإذا كان الشيخ بطل الأيديولوجيا العربية المعاصرة قد أبدى كل هذا الولع بالمعادلات المستحيلة الحل التي لا تتصور إمكاناً للنهضة إلا بالاعتماد على السلف، فإن أبطال الأيديولوجيات العربية الآخرين (الليبرالي وداعية التقنية كذلك والحداثوي المؤدلج بكافة صنوفه) راحوا يقيسون على الغرب، أو قل إنهم حطوا رحلهم في الغرب كما كتب المفكر المغاربي عبد الله العروي في وقت مبكر، وتصالحوا معه.فلم يعد الاستئناس بالحضارة الغربية واردا كما يدعو الشيخ في أكثر أشكاله اعتدالاً، بل أصبح القياس عليها (بخيرها وشرها كما كان يقول عميد الأدب العربي طه حسين) هو القاعدة.من هنا يمكن القول إن إشكالية رفض الخارج أو القبول به، والقياس عليه أو الاستئناس به، ظلّت تستبطن مسيرة الحداثة العربية على مدى قرنين من الزمان، لتنفجر بقوة مع بداية الألفية الثالثة التي دشنها احتلال بغداد من قبل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في الوقت الذي تراجع فيه الاستعمار من جميع أنحاء العالم.فمع تزايد الحديث عن الإصلاح (إصلاح الخارج الذي تقول به الولايات المتحدة الأميركية) وإصلاح الداخل، حيث تعقد المؤتمرات التي تطمح إلى تدشين ما سمي (العقد العربي للإصلاح)، تأخذ إشكالية الداخل والخارج مجراها بحدة داخل الخطاب العربي المعاصر، بصورة أدق داخل خطاب المعارضة العربية الباحثة عن حلول عملية والمنقسمة على نفسها إلى أشطار غير متآلفة.وفي هذا السياق يمكن تمييز ثلاثة مواقف داخل الخطاب العربي المعاصر فيما يتعلق بإشكالية الداخل والخارج، هي الأكثر تمثيلاً في وصفها للإشكالية السابقة وسعيها للخروج من عنق الزجاجة.1ـ الموقف الأول كما أفصحت عنه التجربة العراقية، يرى عبر خطاب دوغمائي براجماتي أن الاستبداد هو الداء وهو وراء خراب الأوطان، وهذا صحيح وهو كلمة حق، وأنه لا راد لاستبداد الداخل إلا بالتعاون مع الخارج (وهذا هو الباطل) لكسر احتكاره للسلطة.وبالتالي فتح الباب على مصراعيه لعصر ديمقراطي جديد يمثل العراق نموذجه كما يقول الرئيس بوش، وكذلك منظرو الاحتلال في الخارج (من كنعان مكية إلى فؤاد عجمي في مقالته الشهيرة في الدورية الأميركية الشهيرة (فورين أفيرز) عن (العرب ومستقبل العراق) الذي تصور فيه أن العراق الديمقراطي الذي ستبنيه أميركا سيكون نموذجاً يحتذى للعرب بعد أن يفيقوا من (صدمة الاحتلال) وهذا ما يقوله أيضاً منظرو الاحتلال في الداخل.وعبر هذا الخطاب المتهافت يظهر الخارج كقوة تحرير وكنموذج يمكن الاقتداء به والتعاون معه لبناء الوطن من جديد.من هنا يصبح التعاون مع المحتل مبررا، كذلك ركوب دبابته، وعندها تغيب كل مفردات (الخيانة) عن هذا الخطاب الذي ما ملّ من التباهي بعلاقته بالاحتلال.هذا الخطاب الذي يبرر التعاون مع المحتل دون أن يجد حرجاً في ذلك، يركن إلى أطروحة سائدة يروج لها البعض من منظري عصر الإمبريالية والفوضى الخلاقة، من أن إشكالية الداخل والخارج هي بالأساس إشكالية زائفة من صنع القوميين العرب والإسلاميين والمتخلفين عموماً عن الركب العالمي.وذلك لأن عصر العولمة يجعل العالم مسطحاً كما يرى توماس فريدمان في أطروحته الجديدة، وأن (القطيع الإلكتروني) كما سمّاه فريدمان مؤلف من نوعين من الماشية قصيرة القرون وتتمثل في شركات المضاربة والمقاولات، وطويلة القرون وتتمثل في الشركات المتعدية الجنسية يتكفل بمحو الفروق بين الداخل والخارج، بين الداخل المشدود إلى شجرة الزيتون حيث يرتد الصراع العربي/الإسرائيلي من وجهة نظره إلى شكل من أشكال العبث واللامعقول، والخارج المشدود إلى السيارة (ليكساس).من هنا يصبح التعاون مع الخارج ليس عمالة للإمبريالية كما يرى القوميون والإسلاميون، بل مدخلاً إلى دخول العصر من جديد واللحاق بسقف التاريخ الذي تتربع عليه القبيلة الأميركية الشقراء.2ـ الموقف/الخطاب الثاني يشكك في صحة الأطروحة السابقة، فعصر العولمة من شأنه أن يدشن بداية حقبة إمبريالية جديدة، وما احتلال العراق إلا بداية لاحتلال جديد ومساع تقول بإعادة صياغة المنطقة العربية والشرق الأوسط عموماً من جديد وفق هوى الولايات المتحدة وإسرائيل معاً.والسؤال المطروح على أصحاب هذا الخطاب هو كيف يمكن مواجهة تحدي الخارج بدون تقوية الداخل حيث لا يزال الاستبداد بكل إرثه التاريخي ووحوشه الديناصورية يقف حاجزاً دون إصلاح الداخل وعاجزاً أمام تحديات الخارج.أصحاب هذا الخطاب على نبل مواقفهم، لا يتماهون كما أسلفت مع خطاب النخبة التي تبرر الاحتلال بحجة الخلاص من الاستبداد، ولا يريدون أن يركبوا الدبابات الأميركية التي تجعل منهم خونة هذا الزمان.والأهم أن إمكانياتهم في الداخل وضعفهم وتشرذمهم وكساحهم الطويل، كما تنعتهم السلطة الاستبدادية والولايات المتحدة الأميركية معا، تجعلهم في مواجهة مع استحقاقات ما سميناها بالمعادلات مستحيلة الحل، وفي مواجهة مع إشكالية الداخل والخارج.فالسلطة ترفض الإصلاح أو تجعل حركته بطيئة في أفضل الأحوال كما يصرح قادتها، والخارج يهدد بالاحتلال وفرض الإصلاح عنوة لغاية في نفس يعقوب، فكيف السبيل إلى التغيير مع انسداد الداخل وإمبريالية الخارج؟من وجهة نظر أصحاب هذا الخطاب التي تستند إلى حلول براغماتية سياسية وإلى ملفوظات خطابية، فإنه يمكن رفض هذا التقابل (المانوي) بين الداخل والخارج، إذ الاستفادة من الخارج يمكن أن تكون ناجعة في حال وجود قوى (منظمة ومعتدلة وديمقراطية).ومع وجود هذه القوى تنتفي إشكالية الداخل والخارج، وحتى لو جاء الاحتلال الخارجي فيمكن لهذه القوى أن تكسب المعركة السياسية والأخلاقية ضده، كما يكتب أحد الباحثين ممن أقضت مضجعه هذه المعادلة المستحيلة الحل.أقل ما يقال عن هذا الخطاب إنه يستبطن موقفاً تصالحياً من الخارج: الاحتلال، الذي من شأنه أن يكتب نهاية الاستبداد كما يظن أصحاب هذا الموقف، والذي يمكن كسب المعركة الديمقراطية ضده بجيش من الديمقراطيين العرب الحقيقيين الذين يمكن إعدادهم مستقبلاً.أضف إلى ذلك أن هذا الخطاب يظل مضمراً بالمفاضلة الزائفة بين الاستبداد والإمبريالية، أو ما سمّاه إدوارد سعيد بالسؤال الزائف الذي دفع الكثير من المثقفين، سواء في المركز الإمبريالي الحواضري، أو في الأطراف إلى القبول بالإمبريالية ضدا للاستبداد باعتبارها تمثل حالة حضارية أرقى، مع أن المطلوب كما كتب سعيد هو رفض الاثنين معاً.3ـ الخطاب الثالث: يعود إلى الأطروحة الأولى بقوله إن إشكالية الداخل والخارج زائفة ومصطنعة، تحتمي بها السلطة الاستبدادية العربية، وبالأخص بعد أحداث 11 أيلول 2001، ففصل الداخل عن الظروف الإقليمية والدولية المحيطة لم يعد وارداً.وهذا صحيح على صعيد هذا الخطاب الذي يقول بمقدمات صحيحة ولكنه ينتهي إلى نتائج خاطئة.من هنا فهو يرى أن الضغوط الخارجية بمثابة الضارة النافعة، لأنها (ربما تصب في إطار الإصلاح الداخلي دون أن تكون معوقة أو معرقلة، صحيح أنها تصطدم بخيارات وطنية حساسة كما يقول أصحاب هذا الخطاب، ولكن لا بد من اعتمادها من جملة الأوراق الإقليمية لتحقيق الإصلاح في الداخل).يدرك أصحاب هذا الخيار من أصحاب النوايا الحسنة في أفضل الأحوال، مع أن جهنم الأميركية مبطنة بأصحاب النوايا الحسنة، أنهم بدعوتهم إلى استثمار الضغوط الخارجية لتحقيق الإصلاح في الداخل، يمهدون أيضاً للمصالحة مع الخارج، وهي تبدو ضرورة وخياراً لا بد منه.ولكنهم يدركون أيضاً أنهم يمسكون بكرة من نار إذا لم تتوفر للمعادلة التي يسوقونها لحمة وطنية داخلية تنشد الإصلاح، خاصة وأن حديث الإصلاح لا يزال حديث نخبة لا تزال معزولة عن الجماهير.لذلك ليس غريبا أن يرتد هذا الخطاب على نفسه ليسب الجماهير التي لا تثمن دور الخارج في تحقيق الإصلاح في الداخل.ما يلحظ على هذا الخطاب العربي، أنه خطاب يسعى للتصالح مع الخارج والتعاون معه، وهذا ما يفسر تهافته، وقد يفسر هذا سكوت إعلان دمشق عن أي ذكر سيئ يطال الإمبريالية الأميركية أو ربيبتها إسرائيل؟ـــــــــــــــــــــــــــ* كاتب سوري
|
فكر
إشكالية الداخل والخارج في الخطاب السياسي للمعارضة العربية
أخبار متعلقة