أضواء
في الثمانينيات من القرن الماضي عندما كنا في الولايات المتحدة الأميركية، في ولاية فيرجينيا، كانت مقاطعة فير فاكس تنوي تطوير المنطقة بمشروع سكني، تجاري ضخم. وقد واجه المطور عقبة عرقلت تنفيذ مشروعه، حيث كان مضطراً لشراء الممتلكات العقارية الواقعة ضمن منطقة التطوير من منازل ومتاجر وغيرها، وقد تمكن من إغراء أغلب الملاك بدفع مبالغ عالية قيمةً لعقاراتهم كتعويض لما سيسببه انتقالهم من خسائر وتكاليف، إلا أن امرأة مسنة تسكن بيتاً صغيراً حجرياً قديماً تم بناؤه منذ القرن التاسع عشر، رفضت الانتقال من بيتها ولم تفلح معها جهود الإقناع والإغراء، وأصرت أن جدران هذا البيت شهدت ذكريات عزيزة على قلبها، وكل زاوية من هذا المنزل تردد صدى ضحكات أيام سعيدة قضتها مع زوجها الذي انتقل إلى الدار الأخرى، وأن آثار أقدام أبنائها الصغار مازالت محفورة على أرضيته بعد أن كبروا وتفرقوا في انحاء مختلفة من البلاد. وأن كل حجر في المبنى يحكي فصلا من حياتها الطويلة بأفراحها ومآسيها، ولن تغادره إلا إلى قبرها! وأتصور لو أن هذا المطور كان من عالمنا، لابتكر لها فزاعات من الأساطير من جن وعفاريت وأشباح وأرواح شريرة، تقض مضجعها وتنغص عيشتها. أو أن يبدأ بالحفر والطرق والقرقعة ليل نهار لتنكيد عيشتها ولتطيير النوم من عيونها، وكأمرأة مسنة لن تتحمل صحتها كل هذا الإرهاق لابد أن ترضخ وتبيعه بيتها بالسعر الذي يحدده، وتهرب لأي منطقة أخرى، وقد تتنازل عن استقلاليتها وعزتها وتعيش في كنف أحد أبنائها مخاطرة بأن لاتتقبلها كنتها وأن تضحي ضيفة ثقيلة في آخر عمرها بعد أن كانت المضيفة الكريمة لأبنائها وأحفادها يتجمعون في الأعياد والمناسبات في بيتها العامر الذي احتواهم صغاراً وسعد بهم كباراً، أو ربما تخذلها صحتها وكبر سنها فتنهار وتلحق بزوجها، فيخلص هذا المطور منها ومن عواطفها وأطياف ذكرياتها ويحقق مايريد وتنزاح هذه العقبة التي تقف حجر عثرة في سبيل تحقيق مشروعه وانجازه بالطريقة التي خطط لها وفي المدة الزمنية التي حددها! لكن هذا المطور ليس من عالمنا الذي دفن إنسانيته وغذى جشعه وأطماعه، بل من عالم آخر مازال الإنسان هو أولوياته، فقد احترم انسانيتها وقدر وفاءها ورضخ لرغبتها، فعكف هو وفريقه من المهندسين والفنيين لابتكار حل وطريقة تمكنهم من البدء بتنفيذ مشروعهم والحفاظ على بيت هذه المسنة العنيدة! فدرسوا احتمالات تغيير المخطط للمشروع بحيث يكون بيتها جزءاً منه، إلا أنهم عدلوا عن هذا الاقتراح لوقوع البيت في وسط الطريق الرئيسي للمشروع، فاقترح على المطور مهندس شاب ضمن الفريق الفني بدراسة إمكانية اجتثاث بيتها مع أساساته ونقله بضعة أمتار خارج نطاق المشروع وبعيداً عن الشارع الرئيسي! وحيث إن هذا المطور ليس من عالمنا الذي يئد الأفكار الخلاقة في مهدها ويقتل المواهب اليانعة في شبابها، بل من عالم آخر يقدر الابتكار والاختراع والتطوير، فقد تحمس للفكرة وشجعها وتبناها. وشرعوا بدراسة ابتكار تقنية تكفل نقل البيت دون التأثير على سلامة المبنى أساسات وهيكلاً وخدمات وشكلاً، وحرصوا على الحفاظ عليه مظهراً ومضموناً في موقعة الجديد كما كان في موقعه الأصلي. بعد أن عرضواهذا الاقتراح على السيدة مالكة البيت وتنازلها بقبوله مشترطة نقل الأشجار والحديقة المحيطة به! اخذ منهم ابتكار ودراسة هذه التقنية عدة أشهر، كما قاموا بتجربة فعلية على مبنى نسخة للتأكد من نجاح التجربة وتفادي أي أخطاء أو قصور قبل تطبيق النقل على المبنى الحقيقي. وتم نقل المبنى تحت العيون المندهشة للجمهور الكبير الذي احتشد ليشهد هذا الحدث التاريخي والإعجاز الهندسي وأنفاسه محبوسة حتى تمت العملية بنجاح، وتمت تغطية العملية بحملة إعلامية ضخمة نقلت وقائعها خطوة بخطوة. وكانوا قد أسكنوا السيدة في فندق قريب إلى أن يتم نقل المبنى والتأكد من سلامته وملاءمته للعيش فيه مجدداً. ثم أعادوها لتعيش فيه بهدوء بقية عمرها. وقد أوصت هذه السيدة بأن يحول بيتها إلى متحف صغير يعرض أسلوب الحياة في ذلك العصر للأجيال القادمة، ولتروي لهم أركانه وأحجاره قصة المحبة والوفاء وأهمية الحفاظ على التراث والموروثات لعلهم يتعلمون منها ويتخذوها قدوة. ولتضحي قصة نقل المبنى عبرة لتشجيع الاختراع والابتكار واحتواء الأفكار الخلاقة المبدعة وتسخير العلم لخدمة الإنسان ولاحترام إنسانيته.[c1] صحيفة الرياض السعودية