[c1]محمد زكريا[/c]الطيور المهاجرة من حضرموت إلى الأرخبيل الهندي ونعني بها الجزر الاندونيسيا وعلى وجه التحديد باتافيا ( جاكرتا ) ، جاوا ، سوربايا، وسومطرة وغيرها مازالت صفحاته تحتاج إلى قراءته بصورة متأنية وعميقة حتى تتضح لنا الصورة عن العديد من الجوانب الحياتية الذي عاشها هؤلاء الحضارم في بلد مترامي الأطراف ، ومتعدد الأجناس ، ومتباين العقائد الدينية , وفوق ذلك بلد في آخر المعمورة. وعندما وطأت أقدامهم أرض اندونيسيا وقف لهم الهولنديين بالمرصاد التي كانت تحت سيطرتها منذ أمد بعيد. وحاول المستعمر الهولندي بكل الوسائل وشتى الطرق أن يوقفوا هجرة الحضارم إليها . ولكن كل محاولاته فشلت فشلا ذريعا أو قل إن شئت تلاشت أمام الأخلاق المثلى والقيم السامية التي جلبوها معهم من حضرموت أرض صانعة الحضارات . بل أن هؤلاء الحضارم تمكنوا بإقامة عددا من السلطنات والممالك الهامة والتي أدت دورا كبيرا في الحياة السياسية ، والاقتصادية ، والثقافية في الأرخبيل الهندي أو مجموعة الجزر الاندونيسيا المتجاورة والتي مازالت ماثلة للعيان في تلك الجزر الاندونيسيا حتى هذه اللحظة . [c1]الحضارم والهولنديون[/c]والحقيقة أن ملف الحضارم في اندونيسيا أو الأرخبيل الهندي ـ كما قلنا سابقا ـ مازال في حاجة ماسة إلى, قراءة أوراقه تحت مجهر البحث التاريخي حتى تكون لنا صورة واضحة المعالم بينة الملامح عن حياة هؤلاء المهاجرين الحضارم الأوائل الذين عبروا البحار الواسعة ، والجبال الشامخات ، والطرق الوعرة والخطيرة بهدف الوصول إلى تلك البلاد البكر المترامية الأطراف بهدف البحث عن حياة كريمة بسبب الحياة الاقتصادية القاسية التي ساد ت حضرموت في فترة من فترات تاريخه . والمرء يتعجب كيف استطاع المهاجرين الحضارم الأوائل أن يحملوا عصا الترحال من حضرموت إلى اندونيسيا وأن يقيموا سلطنات , وممالك مازالت أثارها ماثلت للعيان أو بعبارة أوسع كيف استطاعوا أن يصبغوا عددا من جزر اندونيسيا الهامة بعاداتهم وتقاليدهم , وأعرافهم كجزيرة آشيه ( ACEH ) ، وجاوا وغيرهما كثير على الرغم من المؤامرات والمكائد والدسائس الذي كان يحيكها المستعمر الهولندي للحضارم في اندونيسيا بهدف طردهم منها أو على أقل تقدير تحجيمهم . [c1]الرؤية الاستعمارية للحضارم[/c]فاتبع سياسة المستعمر المعروفة والقديمة وهي سياسة (( فرق تسد )) بين الحضارم القادمين من جنوب جزيرة العرب والسكان المحليين في الأرخبيل الهندي أو مجموعة جزر اندونيسيا المتجاورة والتي ذكرنها قبل قليل . وفي واقع الأمر ، أن المستعمر الهولندي كان يرى في دخول الحضارم خطرا على سياسته في الأرخبيل الهندي أو اندونيسيا . فهو يرى أن هؤلاء الحضارم القادمين من جنوب الجزيرة العربية يحملون في صدورهم الإسلام ، والإسلام يعني الثورة ضد الظلم والظالمين . والإسلام يعني لهم تاريخ طويل من المعارك والحروب الطويلة في الوطن العربي الذي خاضها المسلمين ضد الإفرنج الصليبين من ناحية والمعارك الطاحنة التي دارت رحاها في شبه جزيرة إيبريا ( إسبانيا ) من ناحية أخرى . كل تلك العوامل غرست في نفوس الهولنديين الخوف والشك من المهاجرين الحضارم لكونهم يحملون تراثا كبيرا من المقاومة ضد الإفرنج . وهذا ما أكده الدكتور زكي صالح باسليمان مترجم كتاب (( كفاح أبناء العرب ضد الاستعمار الهولندي )) لمؤلفه حامد القادري ، فيقول : " كشف لنا هذا الكتاب الماضي المنصرم والحاضر المعاش ، الترابط الوثيق بينهما . فقد تحدث هذا الكتاب عن الصراع الدامي بين المسيحية والإسلام . ونستنتج من تاريخ هذا الصراع محاولات المسيحيين المتواصلة للقضاء على الإسلام في كل مكان وزمان وبأشكال مختلفة . في شكل حروب سافرة ، بدءا بالحروب في إيبيريا ، فالحروب الصليبية في الشرق الأوسط بين الجيوش المسيحية الأوروبية والمسلمين ".[c1]سلوك المهاجرون الحضارم[/c]ويكفي أن نعرف سياسة الحقد الهولندية تجاه المهاجرون الحضارم في جزر اندونيسيا أو الأرخبيل الهندي عندما أطلق عليهم اسم الشرقيين الأجانب . وفي هذا يقول حامد القادري : " ... أن العرب ( يقصد الحضارم ) لم يدرجوا ضمن الأغلبية المسلمة من المواطنين . ففي الفصل 163 من قوانين المستعمرات الهولندية في الشرق أدرج العرب ضمن الشرقيين الأجانب ، وفصلوا عن غالبية المسلمين " . والحقيقة على الرغم من كل محاولات المستعمر الهولندي طمس هوية الحضارم في مستعمرته الأرخبيل الهندي أو اندونيسيا . والعمل على تشويه صورهم وبث الفرقة بينهم وبين السكان المحليين الاندونيسيين . فإن الحضارم أثبتوا بالملموس أنهم أناس يحملون في قلوبهم الحب والخير للجميع ، وأنهم أناس يتحلون بالأخلاق الحميدة النابعة من مبادئ الإسلام الحنيف . وأنهم أينما وطأت أقدامهم في منطقة من مناطق الأرخبيل الهندي فإنها تكون جذوة من النشاط التجاري كاآشيه التي كانت في يوم من الأيام منطقة تجارية كبرى .السلطنات الحضرمية[/c]والحقيقة أن الإسلام في تلك الجزر الاندونيسيا انتشر بين السكان المحليين انتشار النار في الحطب بسبب تعامل الحضارم بالأخلاق الكريمة , وسلوكهم السليم ـ كما قلنا سابقا ـ والحق يقال أن المهاجرين الحضارم الأوائل لم يكن في تفكيرهم عند مجيئهم إلى الجزر الاندونيسيا ينصب في نشر الإسلام بل العمل في ميدان التجارة , ولكن سلوكهم الطيب النابع من الإسلام استقطب الكثير من السكان المحليين إليهم . وصار بعض الحضارم حكام ، وأمراء ، وسلاطين في بعض مناطق جزر اندونيسيا. والجدير بالذكر ، أن تلك السلطنات لم تقم بالقوة العسكرية أو تحت إغراءات المال بال قامت برضى السكان المحليين في هذه المنقطة أو تلك . وفي هذا يقول حامد القادري : " ومن خلال تاريخ تأسيس تلك السلطنات واضح جدا أنها لم تقم بقوة السلاح ، وأن هؤلاء العرب ( الحضارم ) أصبحوا سلاطين برضى وموافقة شعب المنطقة ... فقد قبلهم الناس سلاطين لهم . ولم يعتبروهم مستعمرين بل سلاطين من ذات أنفسم ". [c1]من أصل حضرمي[/c]وفي الحقيقة أن المهاجرون الحضارم من خلال سلوكهم الجيد ، وأخلاقهم الفاضلة, وتعاملهم الكريم مع السكان المحليين في الأرخبيل الهندي (( مجموعة جزر اندونيسيا متجاورة مثل باتافيا ( جاكرتا ) ، جاوا ، آشيه ، سومطرة وغيرها الكثير من الجزر الاندونيسية )) اكتسبوا حبهم وتقديرهم فجعلوهم حكاما عليهم ـ كما مر بنا سابقا ـ . وفي واقع الأمر ، أن الحضارم هم الوحيدين من العرب الذين حملوا عصا الترحال إلى الأرخبيل الهندي ( اندونيسيا ) أما العرب الآخرين فليس لهم أثر واضح فيها . وهذا ما دفع بالباحث الهولندي فان دن بيرخ أن ، يقول : " ينحدر جميع العرب المستقرين اليوم ( أي في سنة 1886 م ) في الأرخبيل الهندي تقريبا من أصل حضرمي . ومن النادر جدا أن تقابل بينهم أفرادا قدموا من مسقط في سواحل الخليج العربي أو من الحجاز أو من مصر أو من سواحل شرق إفريقيا أو المناطق الأخرى في اليمن " . ويضيف ، قائلا : " ومن النادر كذلك أن نجد بين العدد المحدود من هؤلاء الأفراد من يختار الإقامة الدائمة في جزر الأرخبيل الهندي. ومن يفعل ذلك ينصهر وسط الكم الهائل من العرب القادمين من حضرموت" . [c1]جاكرتا[/c]وفي واقع الأمر ، استطاع المهاجرين الحضارم أو الطيور المهاجرة من حضرموت أن يؤسسوا الكثير من المستوطنات أو بمعنى أوسع سلطنات في الأرخبيل الهندي كتب لها البقاء والحياة والازدهار بل أن أحدى تلك السلطنات أو المدن الذي أنشأها الحضارم في اندونيسيا عاصمة لها ومازالت حتى هذه اللحظة ماثلة أمامنا وهي باتافيا الاسم القديم للعاصمة جاكرتا تروي قصة المهاجر الحضرمي الذي نشر الخير ، والحب ، والسلام في اندونيسيا والتي صارت جزء هاما من نسيج العالم الإسلامي الكبير .ويتطرق الباحث الهولندي فان دن بيرخ إلى أهم وأكبر التجمعات الحضرمية أو المستوطنات الحضرمية في الأرخبيل الهندي ـ على حسب تعبيره ـ وهي باتافيا ( جاكرتا ) التي صارت في سنة 1844 م أكبر المستوطنات الحضرمية في جزر اندونيسيا وكذلك كانت جذوة من النشاط والحركة التجارية الكبيرين بفضل حنكة الحضارم التجارية . ومع مرور الوقت فقد صارت باتافيا ( جاكرتا ) كل جزء منها ينطق بالملامح الحضرمية . وهذا ما أكده الباحث الهولندي في شكل طراز العمارة التي بنيت على شكل طراز العمارة في حضرموت ، فهو يشير إلى المشربيات ـ التي تعد من سمات العمارة الإسلامية ـ التي تزين واجهة البيوت الحضرمية والتي تميزها تماما عن طرز البيوت الأوربية من ناحية والمسجد الكبير الذي يقع في وسط حي الحضارم من ناحية أخرى . وتتطرق كذلك إلى مناطق المهاجرين الحضارم الذي قدموا إلى الأرخبيل الهندي بأنهم جاءوا من جميع مناطق حضرموت. [c1]الطراز المعماري الحضرمي[/c]وأما عن السادة العلويين فهو يقول عنهم أنهم يشكلون أقلية ضئيلة بينهم أي بين المهاجرين الحضارم . وربما كان مناسبا أن نقتبس فقرة من كلامه عن الحضارم في بتافيا ( جاكرتا ) في سنة 1844م ، فيقول : " لقد أصبحت مستوطنة باتافيا ( جاكرتا ) أحدى أكبر المستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي وذلك على الرغم من أن نشأتها تعود إلى نصف قرن فقط . وهي أكبر المستوطنات العربية ( المستوطنات الحضرمية ) . ولم تصبح هذه المستوطنة مهمة بما فيه الكفاية إلا في سنة 1844 ". وعن الطراز المعماري للمهاجرين الحضارم في باتافيا ( جاكرتا ) ، يقول فان دن بيرخ : " وقد شيدت جميع البيوت في هذه المستوطنة من الطوب ، وبالطراز نفسه الذي شيدت به البيوت في أحياء الأوروبيين وسط مدينة باتافيا القديمة . ووجود الشرفة الصغيرة والمغلقة ( المشربية ) هو الذي يبين هوية السكان " . وحول أحيائهم و مساجدهم في باتافيا فيصفها , قائلا : " ويقع وسط الحي مسجد عربي واسع يشرف عليه رجل دين من قوميتهم يتولى أيضا مهام معلم المدرسة . وقد حجزت أحدى غرف الطابق الأرضي من المسجد للمدرسة . وفي اللغة الملايوية تطق كلمة (( لا نجار )) على هذا المبنى الذي يعد وقفا ويمتلك ما يكفيه من مصادر الدخل . ومع ذلك ينبغي الإشارة إلى أن العرب (( الحضارم )) لا يقيمون صلاة الجمعة في هذا المسجد بل يؤدونها في المسجد الكبير الموجود في حي السكان المحليين . " ويشير أيضا إلى مسجد صغير يقع في حي يسكنه الحضارم يسمى (( زاوية )) . [c1]ملامح من الحياة الاجتماعية[/c]ويذكر فان دن بيرخ إلى بعض الملاح الاجتماعية للحضارم في باتافيا ، فيقول : " ... ومعظم الرجال متزوجون من نساء محليات . ومع ذلك نلمس فيها ( أي جاكرتا ) تطورا ملحوظا في الحياة الثقافية التي يهيمن فيها العنصر العربي كثيرا إلى درجة أن المولدين يضطرون إلى تعلم اللغة العربية لكي يستطيعوا التواصل مع السكان الآخرين في المستوطنة ". ويضيف قائلا : " ومن بين السمات الأخرى المميزة للأحياء العربية في باتافيا العدد المحدود نسبيا للدكاكين والأكشاك التي تبيع للمارة" . ويبين لنا فان دن يبرخ جانبا من جوانب الحياة التجارية التي كانت سائدة في باتافيا أو جاكرتا , فيقول : " أما معظم التجارة العربية ( الحضرمية ) ... فتتم داخل البيوت بواسطة الباعة الجوالين " . [c1]السادة الحضارم[/c]والحقيقة أنه هناك عددا من الملاحظات على ما أورده الباحث الهولندي فان دن بيرخ عن الحضارم في باتافيا ( جاكرتا ) يجب الوقوف عندها وهي كالتالي : * ذكر الباحث الهولندي أنه يوجد فئة قليلة من السادة الحضارم . ولكنه لم يقول أن تلك الفئة القليلة كان لها نفوذا مؤثرا على حياة المهاجرين الحضارم في باتافيا أو غيرها من جزر اندونيسيا أو الأرخبيل الهندي . وأن هؤلاء السادة كان لهم دورا هاما في نشر الإسلام بين السكان المحليين سواء في باتافيا أو غيرها من المناطق الاندونيسية حيث أقاموا المعاهد الدينية التي كانت تدرس حفظ القرآن الكريم ، وتدريس اللغة العربية ، وقيم ومبادئ الإسلام وما شابه ذلك . لقد كان هؤلاء السادة الحضارم الذين ينتمي نسبهم إلى ( الحسن والحسين ) من أبناء فاطمة ـ رضي الله عنهم ـ لهم تأثير روحي عظيم في نفوس الحضارم الأوائل وأبنائهم ( المولدين من أم اندونيسيا ). كانوا ـ بحق ـ أشعاع حضاري تمكنوا أن ينشروا الإسلام ـ كما قلنا سابقا ـ بين السكان المحليين من خلال تعاملهم الطيب ، وسلوكهم الجيد معهم . وكانوا بالنسبة للمهاجرين الحضارم المرجعية التي يرجعون إليها في كل مشاكلهم وخاصة مشاكلهم الاجتماعية . وكان هؤلاء السادة الحضارم يعملون على حل المنازعات التي قد تحدث بين المهاجرين الحضارم من وقت إلى آخر , وكانوا أيضا يرجعوا إليهم في شئون دنياهم ودينهم . وكيفما كان الأمر ، فإن هؤلاء السادة على قلتهم في جاكرتا . فقد كان لهم تأثير كبير بين المهاجرين الحضارم بل وبين السكان المحليين أنفسهم . * استطاع الحضارم في باتافيا ( جاكرتا ) أن يحافظوا على تراثهم الثقافي أو بمعنى آخر تمكن هؤلاء المهاجرين الحضارم أن يحافظوا على شخصيتهم الأصيلة من خلال طراز المباني ، وأن يهتموا اهتماما بالغا كذلك باللغة العربية وذلك من خلال حفظ القرآن حتى يكون هناك جسور ثقافية بين الحضارم في الجزر الاندونيسيا المختلفة وخاصة بين المولدين من أبنائهم . وصار المهاجرين الحضارم من القوة أن يؤسسوا عددا من المساجد الكبرى والصغيرة في باتافيا . * وصارت باتافيا ( جاكرتا ) في وقت قريب من أهم المدن أو الجزر الاندونيسيا وإن لم أهمها على الإطلاق . وهذا بفضل همة ونشاط وعزيمة الحضارم الذين نشروا فيها العمران ، كما نشروا فيها أخلاق الإسلام الحنيف . [c1]شيريبون[/c]ومن المستوطنات أو المدن التي أنشأها المهاجرين الحضارم في الارخبيل الهندي أو الجزر الاندونيسيا هي مستوطنة أو سلطنة ( شيريبون ) . وقد ظهرت إلى حيز الوجود تقريبا سنة 1845 م . ويبدو أن الحضارم في تلك الجزيرة أو تلك المنطقة من الفئات الاجتماعية المتوسطة الحال اقتصاديا . وأول ما تلاحظه في تلك المستوطنة أو غيرها من المستوطنات والمدن التي أنشأها الحضارم في جزر اندونيسيا هو بناء عدد من المساجد الذي تؤدي فيها الصلوات الخمس وبعض منها يؤدى فيها صلاة الجمعة أو العيد . والجدير بالذكر أن بناء المسجد الجامع في السلطنات أو المستوطنات كان بجانبه سوق الحضارم ، أو السوق العربي ، وعدد من بيوت المهاجرين الحضارم وهي بجانب بعضها البعض وتلك الصفة المعمارية تسود كافة الجزر الذي استقر بها الحضارم . وعندما كانت تتسع المدينة ، فكان يتولد منها مدينة أصغر ولكنها تكون أكثر منها رخاء وازدهارا وذلك بسبب موقعها الذي يقع على الطريق التجاري في الأرخبيل الهندي من ناحية ونشاط الحضارم نفسهم من ناحية أخرى وذلك مثل مستوطنة ( اندرامايو) الحضرمية . [c1]تيجال[/c]وأما مستوطنة تيجال كانت خالية من الهاجرين الحضارم ولم يوجد بها إلا عدد ضئيل من الأسر الحضرمية , ويبدو أن تلك الأسر الحضرمية كانت من السادة الحضارم المشهورة والمعروفة في حضرموت . وعندما علم المهاجرين الحضارم بوجودهم في تلك المستوطنة بدءوا بالوصول إليها بكثرة . وخصوصا في سنة 1883 م . وكانت من أهم القبائل الحضرمية التي وفدت إلى تلك الجزيرة هي من قبائل نهد ، آل كثير ، ويافع " ... وبسبب هذه الهجرة أصبحت المستوطنة مكتظة بالسكان وفي بعض الأحيان تسكن عائلتان أو ثلاث عائلات في منزل واحد ... " . [c1]جاوه[/c]وتعد جزيرة جاوه أول المستوطنات أو المدن الذي أسسها المهاجرين الحضارم في اندونيسيا وتميزت تلك الجزيرة بأنها توجد بها كثافة سكانية كبيرة من الحضارم . وكانت درة الجزر الاندونيسيا بسبب نشاطها التجاري من ناحية والثقافية العربية الإسلامية التي كانت مزدهرة بها ازدهارا واسعا من ناحية أخرى وكان يوجد بها مراكز ثقافية إسلامية مسئولون عنها السادة الحضارم . حيث ضمت الكثير والكثير من أبناء الحضارم المولدين , وتمكنت تلك المعاهد أو المراكز الدينية أن تحافظ على سمات الحضارم العربية والإسلامية الأصيلة . وقيل أن جزيرة جاوا كانت من أوائل الجزر الاندونيسيا التي تصدت للمستعمر الهولندي , واندلعت فيها عددا من الثورات ضده مثلها مثل جزيرة آشيه .[c1]سربايا وهمزة الوصل[/c]لقد قلنا سابقا ، أن السادة الحضارم في الأرخبيل الهندي أو اندونيسيا كان لهم دورا فعالا وهاما في نشر مبادئ ، وقيم الإسلام المثلى والسامية بين السكان المحليين من ناحية والحفاظ على الهوية القومية للحضارم من الانصهار والذوبان في المحيط البشري الواسع في الجزر الاندونيسيا من ناحية أخرى . ولقد مر بنا قبل قليل أن إحدى المستوطنات تأسست وازدهرت بفضل وجود هؤلاء السادة الحضارم فيها مثل مستوطنة ( تيجال ) . ومثلما حدث مع تيجال حدث كذلك مع جزيرة سربايا. فقد كان للسادة الحضارم اليد الطولى في تأسيسها أو بعبارة أدق على ازدهارها في مختلف الوجوه الاقتصادية , والثقافية . صحيح أن السادة الحضارم ينتسبون إلى ( آل البيت ) إلا أنهم كانوا يشتغلون في أعمال التجارة واكتسبوا سمعة حسنة عند سكان تلك الجزيرة وغيرها الكثير من الجزر الأخرى . على أية تعد سوربايا همزة وصل بين مختلف المستوطنات الواقعة في جزيرة جاوه . وفي هذا يقول فان دن بيرخ عنها في سنة 1832 م : " أما مستوطنة سربايا فهي اليوم مزدهرة جدا ، وتضاعف عدد سكانها خلال الخمس عشرة سنة الماضية . ونجد بينهم عرب (الحضارم ) من مختلف العائلات ومن جميع مناطق حضرموت تقريبا . وبينهم كثير من (( السادة)) . ويمكننا اعتبار هذه المستوطنة همزة الوصل بين جميع المستوطنات الأخرى الواقعة في شرق جزيرة جاوه ". وعن الحي العربي في سربايا الذي يسكنه الحضارم ، يصفه فان دن بيرخ ، قائلا : " ويقع الحي العربي في سربايا في الجزء الشمالي الشرقي من المدينة ... ويمكن أن تشاهد بها كثيرا من الدكاكين والبيوت التي تم تشييدها وصيانتها بعناية " . ويعطينا الباحث الهولندي صورة واضحة عن مدى تغلغل الإسلام في تلك الجزيرة ، قائلا : " وفي الحي سبعة مساجد للصلوات اليومية وجامعا كبيرا ( مسجد آمبل ) تؤدي فيه صلاة الجمعة . ويعد جامع آمبل من أوسع المساجد في الأرخبيل الهندي كله , وهو بالتأكيد أجملها. وعلى الرغم من أن إماما محليا يشرف على هذا الجامع فمعظم الناس الذي يصلون فيه من العرب " . ويضيف قائلا : " ومنذ سنة 1832 استطاع العرب ( الحضارم ) أن يختاروا لهم رئيسا من بينهم ". وتتطرق أيضا إلى المولدين من أبناء الحضارم في اندونيسيا الذين تزوجوا من نساء السكان المحليين وكيف أن آباؤهم كانوا حريصون على الحفاظ على الهوية الحضرمية أو بمعنى أدق تعليمهم اللغة العربية من خلال حفظهم للقرآن الكريم ، وأصول وقيم الإسلام الحنيف حتى لا تنفصل عراهم عن أصولهم الحضرمية الإسلامية . وفي هذا يقول فان دن بيرخ : " وفي سربايا يحتفظ المولدون بسماتهم القومية لفترة طويلة . ولا يزال أبناء العائلات ميسورة الحال يتكلمون باللغة العربية ... ". اللافت للنظر أن الباحث الهولندي في معرض حديثه عن المساجد الذي بناها الحضارم في الجزيرة أنه قال أن الجامع الكبير آمبل كان أمامه من السكان المحليين . وهذا دليل واضح على أن سكان جزيرة سربايا المحليين قد أسلم الكثير منهم , وصاروا يؤمون المسلمين الحضارم . [c1]سلطنة أتشيه ( Aceh )[/c]تذكر لنا المصادر الاندونيسية أن سلطنة أتشيه كان يوجد بها عددا ضخما من المهاجرين الحضارم يفوقون الجزر الاندونيسية الأخرى . وأن تلك السلطنة أو الجزيرة شهدت معارك طاحنة بين الحضارم المولدين والمستعمر الهولندي الذي أرسل الحملات العسكرية تلو الحملات للسيطرة على سلطنة أتشيه وسلطانها الذي تعود أصوله حضرموت وبالفعل وقعت في قبضة الهولنديين وذلك بسبب الأسلحة الفتاكة التي كانت تملكها من بنادق ومدافع . أما سكانها فقد وقفوا مع المولدين الحضارم الذين دافعوا بقوة شديدة أربكت الأعداء . وهذا دليل آخر على مدى ارتباط السكان المحليين بالحضارم وذلك بسبب ما شاهدوه من سلوكهم العملي الطيب ، وأخلاقهم الفاضلة ، وأمانتهم وصدقهم في تعاملهم معهم ـ كما قلنا سابقا ـ . وتشير المصادر الهولندية إلى أن الحضارم اضطروا إلى النزوح إلى مناطق بعيدة عن نفوذ الهولنديين في أتشيه . ويشير الباحث الهولندي فان دن بيرخ بأن الاضطرابات والثورات لم تهدأ من قبل الحضارم والسكان المحليين في سلطنة أتشيه حتى بعد احتلال الهولنديين لها . ولكنه لم يذكر الأسباب التي دفعت الكثير من الحضارم والسكان المحليين إلى مغادرتها . والحقيقة أن السلطات الهولندية الاستعمارية استعملت وسائل بشعة وقاسية مفرطة بالقوة أمام أناس عزل ، وعملت عمدا على ترحيل الكثير من الحضارم عن السلطنة . وربما كان مناسبا هنا أن نقتطف بعض ما قاله فان دن بيرخ عن احتلال الهولنديين لسلطنة أتشيه : " ومنذ احتلال هولندا لأتشيه و الاضطرابات التي نتجت عن ذلك الاحتلال ، غادر أولئك العرب ( الحضارم ) مدينة كوت راجا وضواحيها ، أي المسرح الرئيس للاضطرابات ، واستقروا في البلدات التابعة لأتشيه ولا سيما في الموانئ الواقعة في الساحل الجنوبي " . وإزاء محاولات المستعمر الهولندي في طمس الهوية الحضرمية الإسلامية . فقد تشبث أبناء المهاجرين الحضارم ( المولدون ) بعاداتهم ، وتقاليدهم ، وأعرافهم وذلك من خلال ارتداء الملابس العربية ( الحضرمية ) في الأعياد والمناسبات الرسمية . ولم يقتصر مواجهة سياسة الهولنديين الرامية إلى طمس كل ما هو عربي أو حضرمي أن احتفظ المولدون بأسماء عائلاتهم الحضرمية . والحقيقة أن سياسة المستعمر الهولندي البلهاء ، والعمياء تجاه الحضارم في سلطنة أتشيه عملت على تأجيج المشاعر القومية والإسلامية وأيضا أججت المشاعر الوطنية للسكان المحليين الذين وجدوا أرضهم تنهب وتسلم من قبل أجنبي طاغي . فوقفوا بجانب أبناء المهاجرين الحضارم (( المولدون )) في صد غطرسة المستعمر الهولندي الذي جاء بالبنادق والمدافع ليحتل جزيرتهم . وفي الوقت الذي جاء الحضارم من أقصى المعمورة يحملون معهم الخير والرخاء لهم . [c1]سلطنة بونتانياك[/c]وفي القرن الثاني عشر الهجري ( القرن الثامن عشر الميلادي ) ظهرت على سطح جزر اندونيسيا أو الأرخبيل الهندي . سلطنة تسمى بونتانياك . وكان سلطانها الحضرمي يتسم بأفق اقتصادية واسعة . فقد شجع المهاجرون الحضارم إلى الاستقرار في السلطنة وذلك من خلال التسهيلات التجارية الذي منحى لهم وبسبب ذلك كون التجار الحضارم ثروة ضخمة من ناحية واحتكروا التجارة مع المناطق الداخلية للسلطنة من ناحية أخرى . ولم يستطيع المستعمر الهولندي أن يحتمل ذلك فعمد على مضايقات التجار الحضارم وذلك من خلال سن القوانين المجحفة والحاقدة التي تقيد من عملهم في الميدان التجاري . وعمل متعمدا على تشجيع غبر الحضارم في الاشتغال في التجارة مثل الصينيين و البنجاليين . وفي هذا يقول فان دن بيرخ حول سياسة السلطات الهولندية في وضع العراقيل للحضارم بإلغاء امتيازا تهم التجارية كالتالي : " ... إلى أن أدى تدخل الحكومة الهولندية إلى إلغاء تلك الامتيازات وذلك الاحتكار بشكل تدريجي . وحينما تطورت حالة المدينة تحسن وضع التجار غير العرب ( الحضارم ) ... أصبحت تجارة الجملة بأكملها في أيدي الصينيين والبنجاليين . ولم يعد هناك إلا قليل من عرب حضرموت الذين يمارسون تجارة التجزئة في حدود ضيقة ".[c1]وتدهورت أوضاع المدينة[/c]فكان الشغل الشاغل والهم الأكبر للسلطات الهولندية هو القضاء على النفوذ الاقتصادي للحضارم بشتى الوسائل وذلك من خلال سن القوانين المجحفة بحقهم . وهذا ما شاهدناه عندما سحبت الامتيازات من التجار الحضارم . وكان من تداعيات تلك السياسة الهولندية المعادية للحضارم أن شهدت المدينة تدهورا كبيرا وخاصة في الأوضاع الاقتصادية . [c1]المولدون[/c]مما دفع بالهولنديين أن يعينوا في سنة 1884م رئيسا للحضارم في بونتانياك . وربما اتبعت السلطات الهولنديين تلك السياسة التي كانت ترفضها بأن يكون للحضارم دورا هاما على مسرح السياسة والاقتصاد الاندونيسي خوفا من اندلاع أعمال الشغب من قبل المولدين الحضارم ، والسكان المحليين من جراء الأوضاع الاقتصادية المتردية التي نتج عنها القوانين الهولندية الظالمة في تقييد حركة التجار الحضارم في الميدان التجاري . وتذكر المصادر الهولندية أنه على الرغم من سياسة ترغيب الحضارم المولدين في الاندماج بالحياة الأوروبية بشتى الوسائل إلا أن سياسته باءت بالفشل الذريع . وفي هذا يقول فان دن بيرخ : " أما العرب ( الحضارم ) المولدون في بونتانياك نفسه فيعدون أنفسهم رعايا للسلطان " أي السلطان الحضرمي في تلك السلطنة الذي حاول المستعمر الهولندي بالترغيب والترهيب أن يفصم عرى الترابط بين المولدين عن شخصيتهم الحضرمية والإسلامية . ومرة أخرى نقول أن السلاطين الحضارم لم يتولوا حكم السلطنة في الأرخبيل الهندي أو في الجزر الاندونيسيا بالقوة العسكرية بل تبوءوها بل طبائعهم الإسلامية الإنسانية التي تدعو إلى المحبة ، والسلام ، والتكافل الاجتماعي بين مختلف فئات الناس . " فالعرب ( الحضارم ) في ذلك الوقت لا يعتبرون من أبناء البلد فحسب ، بل وأكثر من ذلك فقد قبلهم الناس سلاطين لهم . ولم يعتبروهم مستعمرين بل سلاطين من ذات أنفسهم " .
|
تاريخ
السلطنات الحضرمية في الجزر الاندونيسية
أخبار متعلقة