14 اكتوبر بين الأمس واليوم
شاءت الظروف والأقدار أن أُرافق مسيرة مؤسسة وصحيفة 14 أكتوبر منذ البدايات الأولى لميلادها وحتى تجاوزها سن الأربعين... سن النضج عند الرجال وسن البهاء عند النساء.البعض يولد وفي فمه ملعقة من ذهب والبعض الآخر يولد ولا تجد له أمه ملعقة تعطيه بها ما تحاول جمعه من فتات، ومؤسسة وصحيفة 14 أكتوبر كانت من البعض الأخير، ومهما استنجدت بكلمات تشرح بؤس الحال عندها فلا أعتقد أنَّ الجيل الجديد من شابات وشباب الصحفيين في الصحيفة يمكن لهم تكوين صورة حقيقية عن ذلك الوضع نظراً لظروف عملهم الحالية وما يتوافر لهم من إمكانيات ووسائل كانت عند التأسيس مجرد أحلام بل أضغاث أحلام.إذا راجعنا أجيال أكتوبر سنجد أنَّ الجيل المولود في منتصف ونهاية الأربعينيات قد تحمل مسؤولية البدايات الصعبة للصحيفة، ولم يتبقَّ منه الآن سوى أفراد على وشك الإحالة إلى التقاعد، أما الجيل المولود عند الاستقلال في نهاية الستينات فما زال يواصل تحمل مهامه في الصحيفة، إلاَّ أنّ هناك اليوم إلى جانبه جيلاً شاباً من مواليد الثمانينات بدأ في أخذ مكانه فيها، أما الجيل الجديد المولود في التسعينات (جيل الوحدة) فإنّه يتأهب لأخذ مكانه فيها خلال الأعوام القليلة القادمة.أي أنَّ الشباب سيكون هو العنصر الأكبر بين الصحفيين في أكتوبر.. هؤلاء الشباب كلهم أو جلَّهم قد تخرّج من قسم الصحافة والإعلام بجامعة عدن أو غيرها وبعضهم حصل على دورات صحفية في الداخل والخارج وهم يعملون اليوم في مبنى حديث وفي غرفٍ أنيقة مكيفة الهواء وأماهم أحدث الأجهزة، إنّهم يتعاملون مع الكمبيوتر والإنترنت أعجوبة العصر بسلاسة وإبداع وفي انتظارهم وسائل مواصلات (سيارات) لتنقلاتهم، وتنظم لهم دورات تدريبية إنعاشية قصيرة أو متوسطة المدى في مختلف فنون الصحافة، بل وفي بعض اللغات الحية ودورات خاصة بكيفية التعامل مع الأجهزة والمعدات الحديثة التي يعملون عليها، وكيف يمكن لهم استنطاقها وحل شفرات العمل الصحفي التي لا تنتهي والتي تفتح لهم مزيداً من الآفاق في عالم الحرف والكلمة والصورة، ويتسلمون رواتبهم نهاية كل شهر بانتظام إلى جانب العلاوات والمكافآت ولا ينقص الصحيفة إلا آلة طباعة فالآلة الموجودة قد انتهى عمرها الافتراضي منذ سنين طويلة مضت.أنا بالطبع لا أقصد أنّهم يعيشون في بحبوحة من العيش، ولكن عدم حصول الصحفيين والإعلاميين على رواتب تناسب عملهم ومكافآت وحوافز مقابل ما يقدمونه من جهودٍ لا تتوقف وإبداع متواصل لا تقتصر على العاملين في 14 أكتوبر، ولكن هذه المعاناة تشمل جميع العاملين في بلاط صاحبة الجلالة في بلدنا.كل ما سبق لي ذكره لم يكن عند البدايات شيئاً مذكوراً.هناك من قد يرى أنَّ التحاقه بالعمل الصحفي سيحقق له الشهرة أو دخلاً أفضل، لكن أولئك الذين تحملوا أعباء البدايات لم يخطر لهم ذلك ببال كانوا يرونه واجباً ومهمة يكلفهم بها الوطن قبل الحزب والحكومة، كنا ندرك أنّ المهمة صعبة وكانت فعلاً صعبة، ويمكنني ذكر عشرات الأمثلة لتأكيد كلامي هذا لكني سأكتفي بذكر بعضها فقط.كنا جميعاً صحفيين وعمالاً نعمل في بيت دور أرضي (قاعي) بحافة القاضي بمدينة كريتر، لا تدخل إليه الشمس لهذا يظل مضاءً ليل نهار بلمبات الكهرباء (الجلوبات) التي تعمينا بدلاً من أن تضيء لنا.أما المطبعة فقد أكل عليها الدهر وشرب وتساقطت أسنانه فوقها. كان صف الصفحات يدوياً بجمع أحرف الرصاص حرفاً حرفاً وكلمةً كلمة وسطراً سطرا، ثمّ تـُربط الصفحة بحبال خاصة قبل أن نلقمها المطبعة، ولكن يا ويلنا وسواد ليلنا إذا طار أحد الحروف فجأة عندها يختل نظام الصفحة وينفرط عقد الكلمات وتتساقط السطور كأسنان فم أصابه الخراب.وكان على عمال الصف أن يعيدوا ترتيبها من جديد وما في ذلك من عذاب لهم وقلق لنا وانتظار لا ندري متى ينتهي مع أذان الفجر أو خروج الناس إلى أعمالهم.عند التحاقنا بالصحيفة لم نكن نفكر بالمطالبة بحقوقنا بل لم نكن نسأل عنها سواء أبسطها أو أهمها، ويكفي أن أُشير أنّهُ بعد بضعة أعوام من التأسيس التحق بالعمل في المؤسسة الأستاذ المرحوم يوسف مهيوب سلطان كمسؤول إداري ومالي للمؤسسة وكان صاحب خبرة ودراية في عمله، وقد فوجئ لعدم وجود أي نظام إداري يحفظ حقوق العاملين فلا ملفات خدمة ولا وثائق التحاق بالعمل والتي على ضوئها تحدد سنوات الخدمة وما يُستحق من معاش عند التقاعد.كنا أربعة صحفيين متفرغين للعمل في الصحيفة نحضر للعمل صباحاً ومساءً ويواصل صاحب النوبة الليلية عمله حتى تسلم أول نسخةٍ من العدد الجديد للصحيفة، الذي يطلق صرخاته الأولى غالباً عند ساعات الفجر الأولى، لم نكن نتذمر بل كنا نتلقى العدد الجيد كما يتلقى الأب الشاب أول مولود له بفرح وابتهاج، لا نفكر حتى في كيفية العودة إلى منازلنا في تلك الساعة فلا مواصلات عامة حينها والمؤسسة ليست لديها أي صنف من ذلك الاختراع ومعظمنا لا يملك سيارة خاصة به، لكن حسن حظي قد سهل لي شراء سيارة لا يزيد حجمها عن حجم علبة الكبريت من نوع (فيات 500) باعها لي صديق اشتراها من أحد الإنكليز قبل مغادرته البلاد وأغراني بها قائلاً ... رخيصة ونظيفة استعمال إنكليز.والحقيقة أنّها لم تخذلني ـ كان العمل في كريتر وبيتي في التواهي ـ كنت أسوقها لكنها كانت هي التي تقودني خصوصاً في تلك الساعات المتأخرة من الليل والإرهاق يطمس المرئيات أمامي، فإذا ما وصلنا إلى تقاطع المعلا المعروف بسراج المعلا، وكان النور أحمر، كانت تقف احتراماً للنظام، وترفض كسر إشارة المرور بعكس ما يحدث اليوم من البعض وفي عز الظهر وفي إحدى وقفاتها تلك حاولت البحث بنظري عن سيارات تعبر التقاطع أو وجود لعسكري المرور، ربما يكون السبب في وقوفها لكن لا سيارات ولا عسكري مرور، ليس هناك إلا بضعة كلاب تحوم حول السيارة، وهي تنبح وكأنّها تقول لي ... أليس لك بيتاً يؤويك، وفي إحدى المرات علا نباح أحد الكلاب، وكأنّه يريني العين الحمراء فحاولت مداعبته بالسيارة بتحريكها بخفة يمنة ويسرة وإذا بعسكري المرور يخرج لي من خلف عمود النور وهو يقول لي .. وكمان تلاعب الكلب بالسيارة... على جنب... مخالفة.لم تكن لدينا حينها وكالة محلية للأنباء لمدِّنا بالأخبار والصور، ولم تكن إمكانياتنا طبعاً تسمح لنا بالاشتراك في الوكالات العربية والأجنبية بل لم يكن لدينا جهاز لاستقبال الأخبار التي كنا نحصل عليها من إذاعة عدن، كنا نسجل نشراتها ونشرات عدد من الإذاعات المهمة، ثمّ نقوم بتفريغ الأشرطة وإعادة صياغة الأخبار، وكنا نضطر أحياناً للحصول على الأخبار من الإذاعة بالتلفون.. لم نكن نستطيع نشر الصور المواكبة للأحداث، فلم يكن لدينا مصور، أما صور كبار المسؤولين التي ننشرها بجانب أخبارهم فهي موجودة لدينا على شكل إكليشات نقوم بإعادة نشرها مع الأخبار، لم يكن من السهل أن ننشر صور الأحداث الجديدة في وقتها، فلابد من طلب الصورة من الإذاعة (كانت الوحيدة التي لديها قسم للتصوير) فإذا ما حصلنا عليها كان علينا أن نقوم بطباعتها على شكل إكليشة لدى مطابع القطاع الخاص. كان الوقت طبعاً لا يسعفنا اللهم في حالات نادرة. حتى ترويسة الصحيفة إذا ما أردنا تغييرها كنا نذهب بها إلى مطابع القطاع الخاص لطباعتها كإكليشة.. الترويسة الصحيفة حكاية والحكايات في مسيرة أكتوبر كثيرة، لكن المهم هو الحفاظ على كافة الأعداد الصادرة من الصحيفة أو ملاحقها منذ التأسيس وحتى اليوم ووضع كتاب عن تاريخ المؤسسة والصحيفة ويا حبذا لو تمّ إعداد أحد مباني المؤسسة القديمة بعد ترميمه كمعرض حي (نماذج أو صور) يضم أدوات ومعدات ومواد وآلات الطباعة القديمة أو الحديثة ونُسخ من الإصدارات بمختلف أطواره وباختصار كل ما يخص نشوء وتطور المؤسسة والصحيفة على أن يتم تجديد المعرض وإعادة طباعة الكتاب مرة كل خمس سنوات بعد إضافة الجديد إليهما، ويُفتح المعرض لزوار المؤسسة والصحيفة ولطلاب كليات وأقسام الصحافة والإعلام وللملتحقين الجدد بالعمل الصحفي، أما المنتسبين الجدد للعمل الصحفي في الصحيفة فيكون الإلمام بمحتويات ومضمون المعرض من مقررات العمل والخطوة الأولى لهم في عملهم.وبعد ... إنَّ دور مؤسسة وصحيفة 14 أكتوبر لا يجب أن يقتصر على إصدار الصحيفة والملاحق أو المجلات المتخصصة بل أن تكون أيضاً الوجه الإعلامي بل والثقافي المنير من داخل العاصمة الاقتصادية والتجارية لليمن وذلك يحتاج إلى حديث خاص.تلك كانت بعض لمحات خاطفة من حياة صحيفة 14 أكتوبر التي أطلقت صرخات حياتها الأولى قبل أربعين عاماً، وها هي اليوم شابة في الأربعين.. جمالها يسبي قراءها بل إنّها تزداد جمالاً وشباباً كلما تقدم بها العمر.