- مدخل :كثيرون هم عمالقة الشعر العربي, وهو موزعون على خارطة الوطن العربي الكبير الممتد من الماء إلى الماء, منهم كذلك الشاعر والمبدع اليمني الكبير, الأستاذ إبراهيم الحضراني, الذي يعد “ دنيا قائمة بذاتها قاراتها الظروف والحب والجمال “ (1) امتلك القضية فصار يعبر عنها بصدق وشفافية مطلقة, فغنى للوطن والإنسان, وتغنى بالحرية والانطلاق والطفولة.. حتى المرأة لم يكن الحضراني – رغم انشغاله بقضية الوطن والإنسان اليمني – لم يكن ببعيد عنها, فقد وظفها في شعره, وظفها – وهو الغالب- كحبيبة, امرأة قائمة بذاتها تدرك بالمحسوسات, وتغزل بها, ألبسها ثوب المعنوي للتعبير عما يختلج في كيانه, وما يعج في أصداء نفسه..أحياناً يلبس الشاعر الحرية – مثلاً – أو المدينة أو.. ثوب المرأة فمضى في قصائده الغزلية ينظم شعراً جميلاً أخاذاً على وقع القوافي المتنوعة ما تيسر له ذلك, وبفيض من الدهشة المسكونة بعبق الروعة التي تتجلى فيها عبقريته المميزة.وكلها ملامح ودلالات وسمات هي ألصق بالمرأة مما سواها, تثبت كعلامة دالة على قدرة الشاعر في تطويع اللغة تبعاً للحاجة الموضوعية ليعبر بذلك عن امتطائه صهوة القصيدة وتملكها والسيطرة عليها.. ولكون الحب والجمال قيمتين إنسانيتين ساميتين كثيراً ما نحتاج إليهما اليوم, وإلى شعر يصورهما, فإن موضوع الحب شقيق وقريب من النفوس, مما جعل كاتبي الأغاني والقصة والمسرح والمسلسلات في عصرنا لا يجدون موضوعاً يعد الحديث فيه أكثر تشويقاً وإمتاعاً للناس وتخفيفاً لهمومهم.أقران هذا الشاعر وأبناء جيله قد نالوا حقوقهم – وإن جزءاً منها – في دراسة إبداعاتهم الشعرية, أمثال المقالح والبردوني وسواهما بيد أن أقلام النقاد قد جفت تجاه إبداع هذا الشاعر الكبير, ذلك لأن هذا الشاعر لم يكن يهتم كثيراً بجمع شعره وإخراجه إلى الناس سريعاً ( القراء) في كتاب منذ بداياته الشعرية, والتي توزعت – أي بداياته الأولى لنظم الشعر – في ثنايا الصحف والمجلات المحلية منها والعربية, حتى جاء ديوانه الشعري الوحيد ( القطوف الدواني من شعر إبراهيم الحضراني ) والذي جمع أشتاته متأخراً عام 1981م صديقه الشاعر والمبدع محمد أحمد الشامي الذي بدوره لملم ما تبعثر من قصائد هذا المبدع من أمشاج كثيراً ما كانت مسجاة في رفوف بعض من تحصل عليها الشامي لديهم, ولديه هو, ومع هذا فإني أجزم أنها لم تكن كل شعره, ثم أن هذا الديوان – وهو الوحيد – لم ينل بعد حقه النقدي, وذلك لطبع في هذا الشاعر هو انه لا يبحث عن من يراود إبداعه, ومن ثم فالشاعر لم يمتلك العلاقة والصداقة مع النقاد الذين بدورهم يقيمون الإبداع لا عن طريق النص الإبداعي الذي يفرض نفسه وإنما من خلال العلاقات المجاملية – وهو حال اليوم والواقع – التي حظي بها غير هذا الشاعر..فالنقاد لا يبحثون عن صاحب الإبداع, ويحالون اصطياده في المقاهي وفي أماكن عمله وتواجده.. ويبسطون أيديهم له هات لنقرأ كتابك, أهو المبدع – وهو طبعه – لا يبحث عنهم كذلك, ويرجوهم هاكم اقرأوا كتابيه..- وهكذا فإن الشاعر المنسي هو في حقيقة الأمر ليس بمنسي مهما نسي النقاد مهمتهم وواجبهم تجاه أي مبدع حق.- أجدني, وأنا أقلب صفحات هذا الديوان, أمام معترك من الصراع الداخلي الخفي أثر مغامرة في موضوع قليل الوفر من القصائد الغزلية, وفي المقابل أجد هذا الديوان يطفح بكيل وافر من الموضوعات التي استحوذت على أغلب قصائد الشاعر في هذا الديوان مثل القومية, الوطنية, الحرية..الخ, وذلك لأن ظروف اليمن كانت تعاني من عزلة ثقافية في شمال هذا الوطن, لذلك كان جل اهتمام الشاعر اليمني ينصب حول كرامة الإنسان وحريته منتهجاً مبدأ الدعوة إلى الثورة ضد الظلم والظلمة, وتغيير الحاضر المظلم واستبداله باليمن الجديد, ورغم كل ذلك – رغم كل تلك الظروف الشائكة – لم يكن الشعراء ببعيدين عن المرأة وتصويرها في بعض قصائدهم, خاصة الغزلية, كحبيبة, إذ ثمة بصيص, ومضات, وقفات للشعراء استقطبوا من خلالها صورة المرأة المحبوبة, وعبروا في قصائدهم عن خلجات النفس الجميلة, متناسيين هموم الواقع وصخب العصر وضجر اللحظة وكآبة الأيام الدامية والمميتة..[c1]صورة المرأة ( المحبوبة) في شعر الحضراني :[/c]أشرنا – أنفاً – إلى شعر الحضراني لم يكن كله منصباً على موضوعات القومية, الوطنية و..الخ إذا أن ثمة وقفات له مع المرأة المحبوبة اشرأبت في ثنايا قصائده الغزلية, كما اشرأبت جلال الحب وقداسته ومد نفوذه وسلطانه ليستحوذ على دواخل أو داخل الشاعر, مما جعل له – أي الحب – الشاعر مكانة مقدسة يقول في ذلك :[c1]قدسية الحب منها صغت أوزاني وحولها حمت كي أمتاح ألحاني (3)[/c]فمن الحب ومكانته المقدسة في دنيا الشاعر صار ينظم قصائده ويصوغ أوزانه بلحن له شجوه الخاص متحدثاً عن الحب (( بلوعة وحنان تشكو من أيام وليالي الشباب)) (4), التي لم يستغلها الشاعر بعد, نتيجة لظروفه القهرية التي مر بها وحرمته من خوض تجربة الحب. بترو كشاب مازال في مقتبل العمر وعنفوان الشباب المتوقد.هكذا كان الحب في دنيا الشاعر – بداياته الشعرية – يتبوأ مكانة مقدسة كونه ألهمه نظم القصيد.. وإذا ما انتقلنا إلى صورة المرأة في شعر الحضراني فسنجدها قد هيمنت على شعره الغزلي كما هيمنت على الشعر العربي منذ القدم (( كعلامة رمزية, فكانت صورة للخصب والنماء, ووجهاً من وجوه الاستمرار والديمومة والحياة.وترجع الهيمنة إلى طبيعة هذا الكائن والمميزات التي يتميز بها.. لهذا فتأثير الجنس الأنثوي على الفكر البشري قد جعل من المرأة نموذجاً أسطورياً عجيباً له فضاءاته الدينية والاجتماعية والتاريخية. على أن سيطرة الجوهر الأنثوي على المخيلة الإنسانية قد فتح المجال للفن عموماً وللشعر خصوصاً, كي يمتاح من هذا الجانب, متخذاً من المرأة عنصراً فعالاً في إثراء البنية الدلالية للنص)) (5) , هذا ما نجده لدى الحضراني عندما تتمظهر لديه صورة المرأة المحبوبة فتجدد ما ذوى أو كاد يذوي بين أضلاعه, كما تأتي له في غزله بمحبوبته ( عبلة) ذات الاسم المستعار. يقول فيها وعنها :[c1] قد جددت لي عبلة ما ذوى أو كاد يذوي بين أضلاعي (6)[/c]فها هي محبوبة الشاعر عبلة تتبدى أمامه بروح جديدة تبعث له الأمل بعد أن كاد يفقده أو أوشك.. فتجدد له نبض الحياة عندما طلعت عليه بمنظرها الحلو ومنطقها (حديثها) العذب الإيقاع, فتثير جواه وتفعل من حركة حياته.إن محبوبة الشاعر ( عبلة ) لم يكن اسمها هو ذات الاسم ( عبلة ) وإنما هو اسم مستعار لامرأة بعينها التقاها – ربما – الشاعر ذات يوم, بمحض الصدفة, وهو حينها خارج وطنه, في الكويت التي نظم فيها الشاعر قصيدته, فبادلته تلك المحبوبة الحديث الجميل فوقعت في قلبه واحتلت زاوية منه, كون جمالها الذي عبر عنه الشاعر بـ ( منظر حلو) هو القيمة الدلالية الدالة على ذلك, والتي بدورها اوحت بتجدد ونما روح الشاعر بعد أن أوشكت على الذبال, فمن محبوبة الشاعر ( عبلة ) استمد الشاعر كل معاني الخصب والقوة والجلد في مواجهة الصعاب وقهر عدوانية الزمان والمكان, باعتبارهما الفضاء الرمزي القادر على احتواء كل معاني الحياة, على أننا لا نغل حقيقة أن الحضراني يعتبر من أشد المتأثرين بالشعر العربي القديم, ومن أشد المحاكين لطابعه الفني ونسيجه اللغوي, وخاصة في مثل هكذا اختيار لاسم محبوبته ( عبلة ) باعتباره من الأسماء التي كثيراً ما صادفناها في الشعر العربي القديم, وإن حاول – في بعض الجوانب – أن يتنصل من هذه المحاكاة بيد أن الطابع العام يظل يغلف أشعاره – الاقتباس من القديم العربي ومن التراث الفكري – وهذا الاغتراف مقبول ومحبب حينما تكون عملية مؤسسة تمنح هذه الرموز حركة جديدة تمكنها من رمي ثيابها القديمة البالية وارتداء ثياب أخرى جديدة تساعدها على إيجاد مكان لها ضمن المنظومة الرمزية للقصيدة الحديثة” (7)وللتقليد عن الحضراني حيز شعري خصب في ذات موضوع الغزل, إذ لا نجده يبرح مكانه حتى يمضي يقلد (( شعراء الرومانسية العرب, ذلك لأن المعاني تزيد التعبير رقة وجمالة ومبالغة..)) (8), نلمس هذا في قوله :[c1] الله ما خلق الجمال لكي يذوب أسى ويضوى لكن لتعبده القلوب لينتشي مرحاً وزهواً. (9)[/c]هنا تبرز قيمة ( الحب والجمال) التي مضى الشاعر يعبر عنها في أقصاء عبادة الجمال في قلوب المحبين, باعتبارهما مرتعاً للخلود, وقد زاد الشاعر في إثراء دلالة الجمال بفيض من الدهشة عندما قرن الجمال بـ ( العبادة) ذلك لكي يبرز القيمة الجمالية الفنية لطبيعة الجمال ذاته الذي يزداد اتساعاً حيثما وجد الفضاء المطلق أمامه مفتوحاً..إن بعض صور الحب عند الحضراني – أحياناً – يسودها الشوق والحنين المعمم بالحزن, خاصة عند استشعاره معاناة الجوع الغرامي لامرأة بعينها, لذا كان يزمع على تطعيم بعض تلك الصور بألوان ينفر منها الإنسان كـ ( اللون الأحمر) الذي يوحي بالشر والسلب, بيد أن الشاعر لا يستخدمه إلا لكي يشد انتباه القارئ ومن ثم يشركه مشاطرة همومه وأحزانه لأن معظم صور الحب لديه (( وإن كان يتغنى فيها بالحب, إلا أنها صور يغلب عليها الحزن كما يؤكد هذا قوله من قصيدة ( مستهام ) :هنا لعبت الأفعال المضارعة ( يعبث, يطيق, يصحب) لعبتها في تأكيد حركية الشوق العابث بالشاعر المستهام, فيما عزز من فاعلية هذا الشوق التشخيص الاستعاري (يعبث الشوق به) إذ جعل الشاعر من الشوق ما هو بمثابة إنسان يعبث بآخر وتحت تأثير القرينة الاستعارية الدالة على ذلك ( يعبث) إذ العبث في هكذا حالة سمة تلحق بالإنسان أكثر من سواه, كما يؤكد التشخيص أن الحب ضرب من المغامرة غالباً ما يكون الشر حليفها ما لم يمتلك الإنسان السبل التي تقيه ذلك الشر العابث, وقد كانت صورة ( الدم) الحسية ذات اللون الأحمر هي الصورة الأخرى المعززة للشوق العابث التي أثرت الدلالة السلبية بغية إبراز هموم وأوجاع الشاعر إزاء تجربة الحب الحزينة التي ربما باءت بالفشل.[c1]الهوامش :[/c]1. القطوف الدواني من شعر إبراهيم الحضراني, ديوان شعر جمعه محمد احمد الشامي, الهيئة العامة للكتاب, ط (1) ص9 .2. شعر الغزل التقليدي في اليمن, دراسة في المضمون والشكل, عبد الرحمن العمراني, مطبعة الأمانة, مصر, ص3.3. القطوف الدواني.., المرجع السابق, ص177.4. دلالات الأشياء في الشعر العربي الحديث, البردوني نموذجاً, ملاس مختار, إصدارات دائرة الثقافة والإعلام, الشارقة, ط1, 2000م, ص60.5. نفسه, ص60.6. القطوف الدواني.., مرجع سبق ذكره, ص177.7. دلالات الأشياء.., المرجع السابق, ص72.8. شعر الغزل التقليدي في اليمن, المرجع السابق, ص103.9. نفسه, ص104.10. القطوف الدواني.., مرجع سبق ذكره, ص95.
|
ثقافة
الغزل في شعر إبراهيم الحضراني (1-3 )
أخبار متعلقة