محمود يوسف بكير[email protected]يهدف هذا المقال بشكل أساسي إلى محاولة الإجابة على سؤال هام ألا وهو: هل يصلح النموذج الاقتصادي للنظام الرأسمالي لدول منطقتنا العربية؟ تنبع أهمية الإجابة على هذا السؤال مما نلاحظه هذه الأيام من هرولة حكوماتنا نحو سياسات اقتصادية رأسمالية دون أي تبصر للعواقب التي قد لا تحتملها مجتمعاتنا ذات الأغلبية الفقيرة. وبداية وكما هو معروف للجميع فإن الرأسمالية تقوم على مبادئ أساسية بسيطة تتمثل في تشجيع الملكية الخاصة وحمايتها ، وتشجيع المنافسة الحرة بين الأفراد والشركات بغرض تحقيق أكبر ربح ممكن والسماح لقوى السوق (العرض والطلب) بالعمل بحرية لتحديد أسعار السلع والخدمات دون أي تدخل مباشر من جانب الدولة التي تكتفي بوضع ضوابط صارمة لضمان عدم إساءة استغلال مناخ الحرية ويؤدي تفعيل هذه المبادئ مجتمعة إلى تحقيق ما يسمى بالتراكم الرأسمالي وهو المسؤول عن تحقيق معدلات نمو مستدامة ومعدلات تشغيل مرتفعة، بالإضافة إلى تحقيق تقدم تكنولوجي هائل واستخدام أفضل للموارد الإقتصادية. وقد نجح النظام الإقتصادي الرأسمالي في الغرب بامتياز في تحقيق كل الأهداف المشار إليها ولا يعني هذا أن هذا النظام مثالي في كل شيء وأنه خالي من النواقص إذا أن هناك الكثير من الانتقادات التي توجه إليه لعل أبرزها هذا التفاوت الهائل في مستويات الدخول الفردية، ولكننا لسنا هنا بصدد البحث في عيوب هذا النظام فكما أسلفنا فإن هدفنا هو البحث في مدى ملاءمة هذا النظام لنا في العالم العربي وهل يمكن أن نحقـق من خلاله النجاحات الكبيرة التي حققها الغرب؟ إذا ما نظرنا إلى البيئة السياسية والإجتماعية التي تعمل فيها آليات النظام الإقتصادي الرأسمالي في الغرب لوجدنا الآتي : -1 وجود فصل شبه تام بين الحكومة المركزية وبين الأنشطة الإقتصادية فحسب نظرية مليتون فردمان عالم الاقتصاد الأمريكي الحائز على جائزة نوبل ورائد النظرية النقدية الحديثة الذي توفي منـذ أشهر قليلة فإن دور الحكومة في الاقتصاد الرأسمالي ينبغي أن ينحصر في 14 وظيفة فقط من أهمها: الدفاع، مراقبة تطبيق القوانين واحترام العقود، الرقابة على البنوك ، وضع حد أدنى للأجور ، دعم بعض الحاصلات الزراعية – وضع حصص على بعض الواردات الأجنبية ، وضع معايير للجودة الصناعية ، إقامة الحدائق حماية أفراد المجتمع غير المسؤولين عن تصرفاتهم مثل المجانين والأطفال، وضع الإطار العام للسياسات النقدية والمالية وتشجيع المنافسة الحرة ومحاربة الإحتكارات وهذا هو تقريباً الدور المناط بالحكومات في الغرب اليوم. أما لو نظرنا إلى الحاصل في مجتمعاتنا العربية فسوف نرى حالة من الزواج العرفي غير المعلن بين الحكومة وبين مجتمع رجال الأعمال وعلى سبيل المثال نجد أن الحكومة في مصر تضم عدداً كبيراً منهم وهم يتمتعون بمزايا لا حصر لها لأعمالهم الخاصة مقابل دعهم المالي لإستقرار النظام وهؤلاء نجد منهم من يحتكر بعض السلع الحيوية تحت عين الحكومة ومنهم من لا يلتزم بأي معايير للجودة وباختصار شديد فإنك لو أعدت قراءة الوظائف المناطة بالحكومة كما أوردها فردمان سابقاً لإصابتك الحسرة على حال حكوماتنا العربية . -2 وجود فصل حقيقي بين كل من السلطة التنفيذية (الحكومة) والسلطتين التشريعية والقضائية وهذا الفصل يمثل ضمانة قوية للمجتمع للرقابة على الحكومة المركزية في الغرب ومحاسبتها إذا ما استدعى الأمر ، أما لدينا فإن السلطة التنفيذية هي التي تقوم بالرقابة على أعمال السلطات الأخرى التي لا حول لها ولا قوة أمام الحكومة بأجهزتها الأمنية المتعددة ومحصلة هذا الوضع العبثي إننا نجد الفساد يمرح في كل مكان دون أدنى حياء أو حذر وقد وصل الأمر أخيراً إلى حد أن الحكومة بدأت في تصدير الفساد إلى كل السلطات الأخرى بما فيها كل من السلطتين التشريعية والقضائية بكل أسف. -3 تتميز الدول الغربية بالإستقرار السياسي وإستقرار معطيات الإقتصاد الكلي Macroeconomics ولذلك أدى النظام الاقتصادي الحر إلى حدوث تراكم رأسمالي ساهم بشكل فاعل في نهوض هذه المجتمعات ولتوضيح هذه الجزئية فإننا لم نسمع أبداً عن مستثمر أمريكي أو ألماني أو فرنسي يقوم بتهريب أرباحه إلى الخارج وإنما هو يعيد استثمارها لتحقيق معدلات نمو أكبر لأعماله ، أما عندنا ونتيجة حالة عدم الإستقرار السياسي وكذلك عدم الإستقرار في السياسات الإقتصادية فإن التراكم الرأسمالي الحاصل من إتباع سياسة السوق المفتوحة بشكل عشوائي لا يستفيد منه الإقتصاد المحلي بالشكل الأمثل حيث تشيع حالات خروج الأموال إلى الخارج بمعدلات كبيرة وبمعنى آخر فإن التراكم الرأسمالي الحاصل يستفيد منه الخارج أكثر من استفادة الداخل.-4 تمثل الديمقراطية وحرية التعبير والشفافية ودولة القانون والمساواة بين جميع المواطنين أمامه، الركائز الأساسية التي ينهض عليها النظام الإقتصادي الرأسمالي وهي بمثابة الضوابط والضمانات التي أدت إلى نجاح آليات الاقتصاد الحر في الغرب، بمعنى أن الحرية هناك ليست مطلقة كما يتصور البعض أما لدينا فإن هذه الركائز أما غائبة تماماً أو تعاني من حالة تشوه أو إعاقة فمثلاً تسمح بعض مجتمعاتنا العربية ببعض أشكال حرية التعبير ولكن مع وجود خطوط حمراء كثيرة وويل لمن يتجاوزها والسلطة القضائية _ مغلولة اليدين_ لن تستطيع حمايتك لأنها لا تستطيع حماية نفسها أصلاً أما الشفافية فهي تكاد تكون منعدمة ولك أن تحاول أن تعرف مخصصات مؤسسة الرئاسة في أي بلد عربي ، وفي مثل هذه الأجواء لك أن تتصور شكل الرأسمالية التي يمكن أن تسود لدينا . -5 عكس ما هو شائع فإن للرأسمالية الغربية بعد إجتماعي فهناك إعانات بطالة ونظام تأمين صحي مدعوم من الدولة يغطيان كل المتعطلين عن العمل، كما أن الرأسمالية الغربية تتميز بالبعد الإنساني أيضاً فنجد أن معظم رجال الأعمال في الغرب يتبرعون بنسب كبيرة من ثرواتهم لدعم وتعليم الفقراء وتوفير الرعاية الصحية لهم وأيضاً دعم عمليات البحث العلمي أما عندنا وعلى حد علمي فإنه لا يوجد نظام عربي يوفر إعانة بطالة أو رعاية صحية كريمة للفقراء، وعندما زرت أحد مستشفيات التأمين الصحي في القاهرة تأكدت أنه لا كرامة لإنسان فقير في مجتمعاتنا .أما رجال الأعمال عندنا فإنهم يتميزون بالسخاء البالغ إزاء راقصة أصابها أي مرض بسيط أو لاعب كرة أصيب بالتواء في قدمه، أما أفراح زواج أبنائهم فحدَّث ولا حرج. إن تطبيق النظام الإقتصادي الرأسمالي دون مراعاة للبعد الإجتماعي للمواطنين غير القادرين على التأقلم مع معطيات هذا النظام بسبب ضعف مهاراتهم أو انخفاض مستوى تعليمهم أو مرضهم يتحول إلى وحش لا يفترس إلا الضعفاء . والشاهد أن القطاع الخاص لدينا في العالم العربي لم ينضج بما فيه الكفاية كي يتحمل وحده مسؤولية إحداث نمو حقيقي ومتوازن في مجتمعاتنا ولعلي أضرب مثلاً هنا من مصر ، حيث بدأ بعض رجال الأعمال في إنشاء جامعات خاصة وقد يبدو هذا للوهلة الأولى خطوة في الإتجاه الصحيح ولكنهم بكل آسف يقيمون هذه الجامعات بغرض الربح وليس بغرض تحسين مستوى التعليم أو تشجيع البحث العلمي ومن ثم فإن أزمة تدهور التعليم آخذة في التفاقم في مصر ، وفي وقت أصبح فيه حجم ما ينفق على التعليم والبحث العلمي أهم مؤشر في قياسات التقدم الإقتصادي . -6 تتميز المجتمعات الرأسمالية الغربية بارتفاع مستوى الوعي والمشاركة السياسية بين مواطنيها وهذا نتاج جودة التعليم وعدم وجود فروق كبيرة بين التعليم الخاص والعام ونتيجة أيضا لكل العوامل السابقة. هذا الوعي يمثل أحد الضمانات الهامة لنجاح النظام الإقتصادي الرأسمالي. أما عندنا فإن معدلات الأمية التي تصل إلى 50% في بعض مجتمعاتنا، هذا ناهيك عن انخفاض مستوى الوعي بشكل عام لدى المتعلمين وهو ما نسميه بالجهل بقضايا الشأن العام والعزوف عن المشاركة في أي قضايا تخص الوطن ككل بحيث أنك لا تجد أي اختلاف كبير عندنا بين المتعلم والأمي . في مثل هذه البيئة غير المواتية تتحول الرأسمالية إلى نظام لسلب هؤلاء البسطاء واستغلالهم أبشع استغلال وما يحدث في مصر الآن على سبيل المثال من تقليص لمخصصات الدعم الموجه للفقراء وعمليات خصخصة شركات القطاع العام وتسريح الآلاف من العمال والموظفين دون بذل أي محاولات جادة لإصلاح هذه الشركات بدلاً من بيعها لبعض الأفراد الذين سيقومون بعملية الإصلاح هذه لهو خير دليل على كيفية عدم ملائمة بعض آليات الإقتصاد الرأسمالي للمجتمعات التي ينخفض مستوى الوعي لدى مواطنيها ويتسمون بالسلبية المطلقة تجاه مستقبل وقضايا الوطن . إن هؤلاء يحتاجون إلى من يوجههم ويأخذ بأيديهم بدلاً من تركهم لحفنة من الرأسماليين المستغلين. والخلاصة أن بعض الزهور الجميلة لا تصلح للإستزراع في أي مكان أو في أي مناخ وهكذا نظام الاقتصاد الرأسمالي، ففي مناخ ديكتاتوري تسلطي وفي غياب دولة القانون وإنعدام المساواة والشفافية وتجريم الرأي المخالف لتوجه نظام الحكم وغلبة روح الإنانية وعدم توفير مظلة ضمان اجتماعي حقيقي للبسطاء وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي لا يمكن أن ينجح هذه النظام لدينا كما نجح لدى الغرب والشواهد والبشائر كثيرة أمامنا فرأسماليتنا استهلاكية وسفيهة ومستغلة في غالبها ودائرة الفقر في اتساع مستمر ومعاناة الأغلبية الفقيرة تتزايد ولا يبدو في الأفق البعيد أمل أن ننجح في فض هذا التحالف الجهنمي بين السلطة والمال وتبني برامج إصلاح سياسية واقتصادية واجتماعية طويلة الأمد تقوم على أساس اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يهدف بالأساس إلى رفع مستوى معيشة الأغلبية البائسة وليس إلى زيادة إثراء الأقلية كما هو حاصل الآن . وللحديث صلة.
|
فكر
الاقتصاد الرأسمالي عندنا وعندهم
أخبار متعلقة