شهدت بلادنا خلال الفترة الأخيرة نشاطاً محموماً تقوم به بعض القوى المشبوهة لتأزيم الحياة السياسية، حيث برزت أصوات مأزومة في مشهد موتور تحاول من خلاله إحياء واحد من أقبح المشاريع الاستعمارية السلاطينية التي قبرها شعبنا وحركته الوطنية عبر مسيرة كفاحية حافلة بالتضحيات الجسيمة والإنجازات العظيمة، وهو مشروع (الجنوب العربي) الذي قام الاستعمار البريطاني بتسويقه في أواخر عام 1959، في محاولة لتطويق شعارات (الوحدة اليمنية والاستقلال) التي ارتفعت في مدينة عدن الباسلة بعد ظهور الطبقة العاملة اليمنية كقوة سياسية منظمة في نقابات غداة إضرابات مارس 1956م العمالية الشهيرة. والثابت ان مشروع (الجنوب العربي) كان يستهدف تلفيق هوية بديلة عن الهوية اليمنية للجنوب المحتل في عهد الاستعمار، لكن اندلاع الثورة اليمنية (26سبتمبر - 14 اكتوبر) دشن انعطافاً تاريخياً في مسار الكفاح الوطني المعمد بالدماء والتضحيات من أجل تحرير الجنوب المحتل من الحكم الاستعماري الأنجلو سلاطيني، وتحقيق الاستقلال الناجز في الثلاثين من نوفمبر 1967م، وهو اليوم الذي تم فيه دفن مشروع اتحادالجنوب العربي وإلغاء الكيانات السلاطينية وتوحيدها في دولة شطرية واحدة حملت اسم اليمن كخطوة على طريق الوحدة اليمنية التي ارتفع علمها في مدينة عدن ظهر يوم 22مايو 1990 المجيد.وبقدر ما يشير تبني بعض الأصوات الحزبية مشروع (الجنوب العربي) الى تنكر وقح وسافر للتاريخ الوطني العظيم لشعبنا وقواه الوطنية، بما في ذلك تاريخ الحزب الاشتراكي اليمني الذي أسهمت في تأسيسه كوكبة من قادة فصائل ثورة 14 اكتوبر وأبطال الاستقلال والوحدة الذين تصدوا بثبات لمشروع (الجنوب العربي)، فإنه بالقدر ذاته يشير أيضاً الى إفتقاد الحزب الاشتراكي اليمني في حالته المأساوية الراهنة قدرة التمييز بين الخطوط والظلال والألوان التي تتداخل في مشهد أزمات وانقسامات وتجنحات الحياة الداخلية للحزب الإشتراكي اليمني. وبوسعنا القول إن استمراء التعاطي مع النزعات العدمية من شأنه نقل أصحاب هذه الأصوات من حالة الإصابة بعمى الألوان الى السقوط في منطقة اللاوعي، وما يترتب على ذلك من إغتراب عن الواقع، ونزوع الى تغييب العقل وتزييف الوعي بحقائق التاريخ، وصولاً الى الإدمان على تعاطي الأوهام!! كنت قد نشرت قبل خمسة أعوام رداً في في صحيفة (26 سبتمبر) على كلام مهووس قرأته آنذاك في صحيفة «الثوري» يشبه ما نسمعه ونقرؤه هذه الأيام أشار فيه كاتبه الى أن حق تقرير المصير هو احد الخيارات المطروحة للخروج من الأزمة الراهنة للحزب الإشتراكي الذي ينقسم الى اجنحة متصارعة!! بمعنى ان الانتحار السياسي والأخلاقي خيار مطروح أمام الحزب منذ أربع سنوات لمعالجة هذه الأزمة، وهو انتحار بامتياز تعود جذوره الى إرث ثقافة الإلغاء والإقصاء التي تنحط بضحاياها الى مأزق حاد يعكس هشاشة النظام القيمي الذي يؤطر الممارسة السياسية في سياقات فكرية وأخلاقية ضحلة!! حين يكون النظام القيمي هشاً، تكون مخرجاته من ذلك الطراز الذي تضيع فيه الحدود بين الثوابت والمتغيرات، ويتحول من خلاله رفاق الأمس الى فرق وشيع واجنحة تتبارى في التسابق على اغتيال المبادئ، والإسراف في الفصل بين السياسة والأخلاق، وصولاً الى العبث بالإنسان والعدوان على التاريخ والتفريط بالثوابت والتضحية بالحقيقة. لا نعرف بالضبط ما هو مفهوم تقرير المصير وفك الارتباط الذي يجري تسويقه ونقرأ ونسمع عنه هذه الأيام، وما هي محدداته ومقوماته في الواقع والتاريخ والجغرافيا؟.. وبالذات تاريخ الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان يوصف في أدبياته ووثائقه بأنه الوريث الشرعي والامتداد المتطور لنضال الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة!!؟؟ ولا نفهم أيضاً وسط تهافت المراهنات على مشاريع امبريالية قادمة لتعديل الخرائط التي صاغها الاستعمار في الحرب العالمية الأولى، ورسمها على الأرض في العالم العربي بعد الحرب ، علاقة الواهمين في الحزب الإشتراكي بإمكانية العودة الى صناعة الخرائط الجيوسياسية من خلال التعويل على دور مفترض للقوى الأجنبية في تعديل الجغرافيا السياسية للوطن اليمني والعالم العربي، مثلما راهنوا قبل ذلك على ترشيح هذا الوطن للضربة العسكرية الأميركية، من خلال التسريبات الإعلامية والتحريض بكل الوسائل غير الأخلاقية لإقناع الثور الأميركي الهائج بإدراج اليمن الموحد ضمن قائمة الدول التي تؤوي الإرهاب بعد افغانستان!! وحين فشلت مراهناتهم بسبب حكمة وحرص قيادة هذا البلد على تجنيب الوطن والشعب مخاطر محتملة قد تلحق الأذى والضرر بالسيادة الوطنية والوحدة والأمن والإستقرار، تحولوا الى ممارسة أرخص أشكال الضغوط لإخراج اليمن من المنظومة الدولية المناهضة للإرهاب، كي يقتنع العالم بعد ذلك بضرورة إدراجها ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب!! ينسى هؤلاء أن الخارطة الراهنة لليمن الموحد لم تصنعها القوى الأجنبية والإرادات الخارجية في سايكس- بيكو أو يالطا او ميونيخ، بل جاءت ثمرة لنضال طويل اجترحه الشعب اليمني وقواه الوطنية ضد الإستبداد الإمامي والإستعمار البريطاني والحكم الأنجلوسلاطيني.. وينسون ان شعبنا قدم قوافل الشهداء واسترخص التضحيات الجسيمة في كفاحه الطويل من أجل الحرية والإستقلال وإستعادة الوجه الشرعي للوطن اليمني الواحد. على هذا الطريق أنتجت الحركة الوطنية اليمنية ثقافة الوحدة في مواجهة ثقافة التجزئة والإستلاب، فيما كان الدفاع عن الهوية اليمنية في مواجهة مشاريع الهويات البديلة محور كل المعارك التي خاضها شعبنا وطلائعه الوطنية في مختلف الميادين السياسية والفكرية والثقافية.استعادة الهويّةفي تاريخ العالم المعاصر ارتبط حق تقرير المصير بإرادة الشعوب في الإستقلال لا عن الإستعمار بل عن هوية مفروضة عليها بالقوة في اطار دولة اتحادية متعددة القوميات والأعراق.. بيد أن الطريق الحاسم لبلوغ هذا الهدف كان يتم من خلال السعي للحصول على تأييد دولي ودعم أجنبي لهذا الحق. في الحالة اليمنية المعاصرة عرفت بلادنا هذا الشعار في الأربعينات على يد الجمعية العدنية التي كانت تسعى للدفاع عن عروبة عدن والتحرر من هيمنة النخب والجاليات الأجنبية لدول الكومنولث على الوظائف الإدارية والفعاليات الإقتصادية والتجارية في المدينة.. لكن شعار عدن للعدنيين الذي جسد مفهوم الجمعية العدنية لحق تقرير المصير أخطأ الزمان والمكان، حيث جوبه بمقاومة شعبية عارمة من قبل الحركة الوطنية اليمنية التي كانت تطالب بالحق في الإستقلال عن الإستعمار، والحق في إستعادة الهوية اليمنية المسلوبة، لا بتقرير مصير عدن خارج هويتها الوطنية اليمنية!! نجح الوطنيون اليمنيون بفضل عدالة قضيتهم وصدق إيمانهم بحقيقة الوطن اليمني الواحد، في إلحاق الهزيمة بشعار حق عدن في تقرير المصير، والذي كان يراد له ان يكون مدخلاً لطمس هويتها اليمنية، ومنطلقاً لشعارات مماثلة لتقرير مصائر السلطنات والإمارات المتعاهدة مع الإستعمار البريطاني، الهدف منها في نهاية المطاف هو سلب الهوية الوطنية اليمنية وتلفيق هويات بديلة زائفة!! ثمة تاريخ طويل وزاخر بالمآثر الكفاحية العظيمة التي اجترحها السياسيون والمثقفون والأدباء والكتاب والفنانون والطلاَّب والعمال والمزارعون والتجار وعلماء الدين الوطنيون في مجرى الدفاع عن الهوية الوطنية اليمنية، والتطلع الى محو وإلغاء الخارطة التي فرضها المستعمرون والأئمة والسلاطين، وإستبدالها بخارطة الحلم الوطني التي رسمت معالمها الثورة اليمنية (26سبتمبر- 14 اكتوبر)، وتتوّجت بانتزاع الاستقلال عام 1967م، وإستعادة الوجه الشرعي للوطن اليمني الواحد يوم الثاني والعشرين من مايو 1990 العظيم. كان هذا التاريخ من صنع الشعب اليمني وطلائعه الوطنية، ولم يكن موروثاً عن خرائط جيوسياسية من صنع إرادات دولية وإتفاقات استعمارية.. أما الذين يراهنون كثيراً على ماتردده وسائل الإعلام العالمية هذه الأيام حول مشاريع امبريالية لإعادة النظر في تلك الخرائط، فإنهم يخطئون في العنوان حين يتوهمون بأن اليمن يصلح لمثل هذه المشاريع.. لأن خارطة الجمهورية اليمنية الموحدة صُنعت في اليمن بإرادة الشعب اليمني الحرة، وعُّمدت بدماء الشهداء الأماجد من أبنائه الميّامين الذين ناضلوا في سبيل الحرية والإستقلال والوحدة. حين يقرأ ويسمع المرء كلاماً منحطاً كهذا، يدرك مدى السقوط السياسي والأخلاقي لهذا النمط من السياسيين الفاشلين في مستنقع اللاوعي، واغترابهم عن الواقع والتاريخ، وهروبهم المخزي من مواجهة الحقيقة، إذْ يصعب على العقل الحي تعاطي شعارات مهترئة وأوهام مريضة بهدف إحياء أفكار بالية ومشاريع ميتة ولا تاريخية. إنه مرض التعلق بأوهام وطوباويات ماضوية تهدر البعد التاريخي للزمن، بإصرارها على العودة الى كهوف السياسات القديمة المندثرة، والوهم بإمكانية إعادة تعريف الزمن من خلال إعادته الى نقطة سابقة في تاريخ قديم، وإعادة الروح الىالعظام الرميمة لشعارات ميتة مثل شعار عدن للعدنيين وشعار لحج فوق الجميع وشعار حضرموت الكبرى، ومشروع (الجنوب العربي) وغيرها من المشاريع التي حاولت الإختباء خلف شعار حق تقرير المصير، ثم انتهت الى مزبلة التاريخ تحت ضربات كفاح الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة من اجل الحرية والإستقلال والوحدة. ألا فليصم التاريخ بعاره الأبدي حملة هذه الأفكار الخاسئة ومروجيها وناشريها.. ورحم الله الشهيد عبدالفتاح اسماعيل الذي وصف الوحدة اليمنية بأنها قدر ومصير شعبنا اليمني.. والفقيد عبدالله باذيب الذي كان أول من رفع شعار (نحو يمن حر ديمقراطي موحد) بعد بضعة أشهر من ظهور مشروع (اتحاد إمارات الجنوب العربي) الذي بدأ الاستعمار في تسويقه عام 1954 واعلانه رسميا عام 1959م، مع الأخذ بعين الاعتبار ان المناضل عبدالله باذيب كان قد سخر في منتصف الخمسينات من كلام منحط كهذا الذي يردده بعض المحسوبين على الحزب الاشتراكي اليمني في هذه الأيام، و بعد أكثر من ستين عاما من النضال الوطني الوحدوي. لم يكتف الفقيد الخالد عبدالله باذيب بدحض مثل هذا الكلام وتعريته في النصف الأول من القرن الماضي، لكنه مضى الى أبعد من ذلك حين وصفه بأنه مجرد (كلام مُدعََّس). [c1]--------------------------------- * عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]
|
فكر
ســـقـــوط الأقــــنــــعة
أخبار متعلقة