لليمن لا لعلي عبدالله صالح ( 19 )
في ضوء ما تقدم يمكن القول إن خبرة تأسيس المؤتمر الشعبي العام تمت في إطار عملية وطنية استهدفت إعادة بناء المجال السياسي وإعادة صياغة الفكر السياسي في بلد عانى كثيراً من ويلات الاستبداد والشمولية، الأمر الذي ترك آثاره على خبرة المؤتمر الشعبي العام في إنجاز الوحدة وبناء أول نظام سياسي يقوم على الديمقراطية التعددية التي يرفضها الخطاب السياسي للملتقى السلفي العام الذي انعقد في صنعاء أواخر مايو 2009م، لأنها تعد خروجا على الإسلام والشريعة الإسلامية بحسب مزاعم ( شيوخ) التيار السلفي في اليمن على نحو ما أوضحناه في حلقة سابقة وسنعود إليه مرة أخرى في حلقة قادمة نتناول فيها جذور وأبعاد العداء الذي يبديه السلفيون ضد الديمقراطية، وإنكارهم لحق الشعب في انتخاب حكامه عبر صناديق الاقتراع . مع الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن قيام الجمهورية اليمنية على قاعدة النظام الديمقراطي التعددي في الثاني والعشرين من مايو 1990م، شكل منطلقا للانتقال من صيغة الانفراد في الحكم قبل الوحدة إلى صيغ المشاركة بعد الوحدة.على هذا الطريق كانت مبادرة الرئيس علي عبدالله صالح بطرح مشروع الوحدة أثناء زيارته لعدن يوم 29 نوفمبر 1989، أحد أبرز الخيارات التي تتيح فرصاً أفضل لتشغيل ميكانيزمات إصلاح النظام السياسي في الشطر الشمالي من اليمن، باتجاه الاستجابة لتحديات التحول نحو الديمقراطية التي أضحت اتجاهاً كونياً لتطور عالم ٍ تتجه متغيراته نحو إطلاق مفاعيل التنافس السياسي والاقتصادي والثقافي ، في إطار نظام ٍ كوني جديد يتسم بالترابط والتكامل والاعتماد المتبادل بين جميع مكوناته.كان واضحاً أن القيادة السياسية للمؤتمر الشعبي العام أدركت جيداً ضرورة بناء إطار وطني شامل للإصلاحات السياسية والاقتصادية المطلوبة في هذه الحقبة من تطور عصرنا، باتجاه إعادة تأهيل الوطن اليمني كله للاندماج بالنظام العالمي الجديد، والاستجابة لرياح التغيير الديمقراطي بعد تسارع إيقاعات العد التنازلي للحرب الباردة أواخر الثمانينات.أقول ذلك من واقع خبرتي الشخصية أثناء مشاركتي في أعمال اللجنة السياسية المشتركة التي عقدت أول دورة لها في تعز أواخر أكتوبر 1989م برئاسة الأخوين د.عبدالكريم الإرياني وزير خارجية الشطر الشمالي آنذاك وسالم صالح محمد الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي آنذاك أيضاً.الجدير بالإشارة إليه تلك اللجنة التي تشكلت بموجب بيان طرابلس عام 1972م، هي اللجنة الوحيدة التي لم تعقد أي اجتماع لها، بعكس لجان الوحدة الأخرى التي كانت تعقد اجتماعاتها بشكل دوري، وكان لافتاً للنظر أن الرئيس علي عبدالله صالح هو الذي طلب من علي سالم البيض الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني آنذاك، تفعيل هذه اللجنة، وقد حضر جانب الشطر الجنوبي هذا الاجتماع بدون أية أوراق جاهزة.وكان مفاجئاً لجانب الشطر الجنوبي ما طرحه الدكتور الإرياني في الجلسة الافتتاحية حيث جاء بورقة جاهزة ومتماسكة، اقترح فيها أربعة بدائل لتفسير المادة الدستورية التي تنص على حق المواطنين في تنظيم أنفسهم سياسياً ومهنياً ونقابياً في مشروع دولة الوحدة التي لم يكن هناك أي تفكير جدي بها وبموعد قيامها في إطار اللجان الوحدوية المشتركة ، سوى صياغة مشاريع القوانين في ضوء الاتجاهات الرئيسية التي حددها اتفاق القاهرة وبيان طرابلس في أوائل السبعينات.لم يستغرق اجتماع اللجنة السياسية المشتركة أكثر من جلستين تم خلالهما الاتفاق على عقد دورة أخرى في ديسمبر 1989م لإقرار أحد هذه الخيارات، وأشهد بحكم أنني كنت مقرراً لهذه اللجنة إلى جانب الزميل الدكتور أحمد الأصبحي بأن جانب الشطر الجنوبي لم يعط هذه القضية اهتماماً جاداً لأن اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي كانت قد حسمت في دورتها المنعقدة أواخر سبتمبر 1989م ، المناقشات التي دارت في صحافة الشطر الجنوبي حول ضرورة الإصلاح السياسي والاقتصادي في ضوء المتغيرات التي شهدها الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية في النصف الثاني من الثمانينات. . وبوسع أي باحث موضوعي أن يقرأ وثيقة الإصلاح السياسي والاقتصادي التي أقرتها اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي في تلك الدورة ليكتشف غلبة النزعة المحافظة التي وضعت الحزب والنظام السياسي في الشطر الجنوبي قبل الوحدة ضمن منظومة الدول والنظم العربية التي كانت عصية على إدخال إصلاحات سياسية واقتصادية باتجاه التحول إلى الديمقراطية والاقتصاد المفتوح .. فقد شددت الوثيقة على ما أسمته .. (( ضرورة ألا يؤدي تصحيح الاختلالات في عمل هيئات الدولة والأشكال الاقتصادية إلى توسيع دائرة العوامل المولدة للعلاقات الرأسمالية)) ، كما أكدت تلك الوثيقة أيضاً على (( ضرورة مواصلة استكمال مهام مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ذات الآفاق الاشتراكية ))، مشيرة إلى أن ذلك ((لا يتعارض مع السماح للقطاع الخاص بالاستثمار المحدود في قطاعات معينة ضمن سقوف محددة لا تضر بالدور القيادي للقطاع العام والقطاع التعاوني)).. ولذلك جاءت الوثيقة خالية من أية ميول للانتقال إلى اقتصاد السوق وتوسيع دائرة المشاركة في الحياة السياسية، حيث رفضت اللجنة المركزية بحزم الأفكار التي دعت إلى التعددية الحزبية وحرية إصدار الصحف واعتبرتها خروجاً صريحاً عن الخط الطبقي والأيديولوجي لبرنامج الحزب الاشتراكي اليمني الذي أقر عام 1978. على أن أطرف ما جاء في هذه الوثيقة من إصلاحات، أنها سمحت للاستثمارات الخاصة في قطاعين فقط وهما الإسكان بشرط أن يرخص للمستثمر ببناء عمارة واحدة فقط لسكن عائلته مع السماح له بتأجير شقتين فيها لا غير، أو الاستثمار في قطاع إنتاج الدواجن بشرط إلا يزيد إنتاج المزرعة على عشرة الأف بيضة في اليوم الواحد، وفي حالة الزيادة تتم مصادرة الإنتاج الفائض لصالح مزارع الدولة عقابا للمستثمر على زيادة الإنتاج !! أما في الجانب السياسي فقد أكتفت الوثيقة بالتأكيد على ضرورة إشاعة أجواء النقد والعلنية في عمل ونشاط هيئات الحزب ومجلس الشعب الأعلى ومجالس الشعب المحلية والمنظمات الجماهيرية، وتشجيع المناقشات والانتقادات الموضوعية في صحافة الحزب والدولة والمنظمات الجماهيرية.كشف إقرار هذه الوثيقة عن صعوبة استجابة الحزب الاشتراكي والنظام السياسي في الشطر الجنوبي من الوطن لتحديات التحول نحو الديمقراطية، وعجزه عن القراءة العميقة للمتغيرات الدولية.. ويمكن القول إن مبادرة الرئيس علي عبدالله صالح بطرح مشروع الوحدة خلال زيارته لعدن يوم 29 نوفمبر 1989 والقبول المفاجئ لهذا المشروع من قبل الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني أثناء تشاورهما المنفرد في اللحظات الأخيرة تحت نفق جولدمور بالتواهي، بعد أن كان الرئيس علي عبدالله صالح قد أصدر توجيهاته لأعضاء وفده المرافق له بالاستعداد للتوجه إلى المطار قبل منتصف الليل بسبب عدم التوصل إلى نتائج مشجعة، إن كل ذلك أسهم في إحداث نقلة مفاجئة للحزب إلى بيئة سياسية وفكرية جديدة لم يكن قد تهيأ واستعد لها جيداً، كما هو الحال في الشطر الشمالي من الوطن، في حين كانت بيئة الحزب السياسية والفكرية تعاني من انسداد خطير أضافت إليها النتائج المأساوية لأحداث 13 يناير 1986 ظلالاً ثقيلة.و بقدر ما يؤرخ يوم 22 مايو لميلاد الجمهورية اليمنية الموحدة، وقيام أول نظام سياسي ديمقراطي تعددي منذ قيام النظام الجمهوري في شطري البلاد (1962 - 1967)، بقدر ما يؤرخ لميلاد أول تجربة ائتلافية حزبية في تاريخ البلاد، انتقل فيها كل من المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني من وضع الحزب السياسي الوحيد في قمة السلطة إلى وضع الحزب المشارك .كان ائتلاف الحزبين موضوعياً بحكم شراكتهما في تحقيق الوحدة ومسؤوليتهما المشتركة عن استكمال توحيد هيئات وأجهزة وقوانين الدولتين السابقتين، وإطلاق مفاعيل الديمقراطية التعددية وتأسيس هياكل الدولة الجديدة خلال فترة انتقالية لا تزيد على سنتين ونصف .لكن اختلاف الحزبين في فترة الائتلاف كان موضوعياً أيضاً نتيجة للاختلاف الموضوعي بين ذهنيتين جاءتا من بيئتين مختلفتين من الناحية السياسية والفكرية على نحو ما سبق توضيحه، الأمر الذي انعكس على تفاوت قدرة الطرفين في البحث عن معامل موضوعي آخر لمنع تحول هذا الاختلاف إلى تناقض يؤدي إلى تفجير الائتلاف الذي جاء كمنتج موضوعي للوحدة، حيث كان خروج أي طرف من هذا الائتلاف يعني خروجاً من الوحدة وليس خروجاً من السلطة بحسب ما كان يتصوره البعض في الجانبين.نجح المؤتمر الشعبي العام في توفير محددات الاندماج بالوضع السياسي الجديد بعد الوحدة، حيث طلب من المنضوين في عضوية مختلف تكويناته وهياكله التنظيمية إما البقاء في المؤتمر بوصفه تنظيماً سياسياً لا يقبل الازدواجية الحزبية في داخله، أو الخروج من عضويته وممارسة العمل الحزبي من خلال التعددية الحزبية.. وكان التطور الأبرز في الحياة الداخلية للمؤتمر الشعبي العام هو انسحاب (الإخوان المسلمين) من عضويته، ومبادرتهم إلى تشكيل التجمع اليمني للإصلاح بالتنسيق مع شخصيات سياسية وقبلية وتجارية أخرى.وبذلك أمكن للمؤتمر أن يتصرف كحزب سياسي منسجم في السلطة التي يشاركه فيها الحزب الاشتراكي اليمني ، بيد أن الوضع كان ينطوي على تناقضات أخرى على مستوى الحزب الاشتراكي وكذلك على مستوى السلطة.. فقد كان الحزب الاشتراكي يتصرف في السلطة بصورة غير منسجمة بسبب وجود جناحين في داخله، أحدهما كان يحكم الدولة في الشطر الجنوبي والآخر يعارض الدولة في الشطر الشمالي.. وبينما كان الجناح الجنوبي معنياً بالائتلاف مع المؤتمر الشعبي العام من أجل استكمال بناء الدولة الجديدة وتوحيد أجهزتها المدنية والعسكرية والأمنية ، ومواصلة السير على طريق الديمقراطية، كان الجناح الشمالي مسكوناً بإرث معارضته الطويلة لسلطة الرئيس علي عبدالله صالح وصداماته الدامية معها، وقد ترتب على هذه الازدواجية دخول الحزب في مأزق حاد، فهو من ناحية شريك في السلطة، ومن ناحية أخرى معارض لدود لها.في الجانب الآخر من الصورة كان المؤتمر الشعبي العام من الناحية النظرية هو الشريك الوحيد للحزب في السلطة، لكن الواقع كان يشير إلى أن التجمع اليمني للإصلاح هو شريك عملي ثالث مع الحزبين، حيث كان لهذا التجمع رجل في السلطة ورجل أخرى في المعارضة.كان التيار الإخواني في التجمع اليمني للإصلاح هو الحزب المعارض الوحيد الذي يشارك في مجلس النواب بكتلة برلمانية كبيرة تصل نسبتها إلى 21 % ، فيما كان له حضور نافذ في الكثير من أجهزة الدولة بحكم نفوذه في السلطة منذ عهد الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي، ومشاركته في التصدي للمقاومة المسلحة التي قادها الجناح الشمالي للحزب في المناطق الوسطى مطلع الثمانينات، وما ترتب عن ذلك من استحقاقات، ناهيك عن سيطرته على نظام تعليمي كامل ومواز للنظام التعليمي الخاضع لوزارة التربية والتعليم، بكل ما ينطوي عليه ذلك النظام من موارد مالية هائلة وجهاز إداري وتدريسي ضخم، وسلطات داخلية وخارجية، حيث جرى استخدام كل هذه المفاعيل لأغراض الاستقطاب الحزبي ، والتأثير في المجتمع، إلى جانب تفعيل علاقاته الخارجية بالجماعات الإسلامية التي كان ينسق معها في استقدام آلاف الإسلاميين العرب إلى الجمهورية العربية اليمنية للتدريس في المعاهد التعليمية الخاضعة لسيطرته، حيث كان هؤلاء القادمون يشكلون مصدر قوة لدعم نفوذه وتطوير خبراته في الداخل، بقدر ما كان وجودهم في اليمن يشكل دعماً للحركات والتنظيمات التي جاءوا منها، وملاذاً آمناً لبعضهم ممن كانت حكوماتهم تلاحقهم بتهمة الإرهاب.هكذا كانت صورة الائتلاف شديدة التعقيد منذ بداياتها الأولى.. فالحزب الاشتراكي كان مزدوجاً في موقفه من السلطة.. والسلطة بالمقابل كانت تحمل في أحشائها نوعاً من التماهي الملتبس مع الاسلام السياسي لجهة المشاركة غير المعلنة للتجمع اليمني للإصلاح فيها.وإذا أخذنا بعين الاعتبار نجاح المؤتمر الشعبي العام قبل الوحدة في تأهيل بيئته السياسية الداخلية بصورة منهجية للتأقلم مع البيئة العالمية والاستجابة للتحديات الديمقراطية، مقابل تخلف كل من الحزب الاشتراكي اليمني والتجمع اليمني للإصلاح في هذا الجانب، فإننا سنجد أنفسنا أمام عملية سياسية ثلاثية الأبعاد وهي الوحدة والديمقراطية والبيئة الداخلية والخارجية التي تتداخل مع محددات الحلول اللازمة لإشكاليات وتناقضات الفترة الانتقالية ، على نحو ما جسدته الأزمة السياسية التي تمخضت عن انتخابات 1993م ونتائج حرب صيف 1994م، وهو ما سنأتي إليه في الحلقة القادمة . [c1]*عن / صحيفة ( 26 سبتمبر ) [/c]