يشير مفهوم 'المغامرة' في الأدبيات العسكرية إلي أمرين: أولهما لجوء الطرف المغامِر 'بكسر الميم' إلي القيام بعمل 'ما' باعتباره أخر الخيارات الممكنة في مواجهة 'الخصم'. وثانيهما، عدم قدرة الطرف المغامِر علي توقع ردود فعل الخصم، وبالتالي ضعف قدرته علي التعاطي معها.وبالإسقاط علي العملية الأخيرة التي قام بها حزب الله، وأفضت إلي ما هو قائم الآن، لا تبدو وكأنها نوعاً من المغامرة (( غير المحسوبة )) كما وصفها البعض، فالحزب لم يقم بعمليته بوصفها خياراً وحيداً في العلاقة مع إسرائيل، بل لديه خيارات أخري ليس أقلها المناوشات العسكرية التي تتعرض لها الدوريات الإسرائيلية علي الحدود بين لبنان وإسرائيل.فضلاً عن ذلك فقد قام حزب الله بعمليته وهو يدرك جيداً طبيعة الإمكانات العسكرية واللوجيستية والاستخباراتية التي تمتلكها إسرائيل، كما يدرك أيضا مدي الاستخفاف الإسرائيلي بردود الأفعال العربية والدولية وانعدام قدرة أي طرف علي إبطال مفعول آلتها الحربية.عملية ) الوعد الصادق ) حسبما أطلق عليها حزب الله، حملت رسائل عديدة للداخل اللبناني أولا، ثم الخارج العربي والدولي ثانياً. ولكن السؤال المهم: هل حققت هذه الرسائل أهدافها؟ في الأمد القصير يصعب الاعتقاد بحدوث ذلك، ذلك أن ما يجري الآن علي الأرض اللبنانية لا يوحي بإمكانية التعرف علي ملامح الموقف الداخلي من حزب الله، وهو الذي استهدف بعمليته الأخيرة إسكات العديد من الأصوات، خصوصاً في جبهة الأكثرية النيابية بزعامة سعد الحريري ووليد جنبلاط، التي تطالب بنزع سلاح الحزب، وهي المسألة التي نالت قسطاً وفيراً من الجدل داخل جلسات الحوار الوطني اللبناني التي امتدت طيلة الشهور الثلاث الماضية. بيد أنه من المؤكد، بعد أن تضع الحرب الدائرة أوزارها، أن يصبح سلاح الحزب المهمة العاجلة أمام الفضاء العام اللبناني لتحديد موقف واضح منه.[c1]انشطار عربي ثان [/c]أما علي المستوي الخارجي، فقد فاقت الردود علي عملية حزب الله خيال الكثيرين، وبدت كما لو كانت عملية حربية استهدف الدولة العبرية، فعلي المستوي العربي بدت العملية وكأنها استحضار لذكريات الانشطار العربي الذي وقع عام 1990 بفعل الغزو العراقي للكويت، حيث انقسم الموقف العربي بشقيه الرسمي والنخبوي إلي اتجاهين مختلفين:الأول يري فيما أقدم عليه حزب الله نوعاً من الانتحار الذاتي، ذلك أنه جاء بمبادرة من الحزب وليس رداً علي هجوم إسرائيلي مباشر علي الأراضي اللبنانية، وهو ما يعني، بالنسبة لأصحاب هذا الرأي، إطلاق يد إسرائيل كي ترد علي كيفما تشاء علي غرار ما حدث طيلة الأيام الماضية.أي أن الحزب، وفقاً لهذا الرأي، أعطي سكيناً لإسرائيل، ومن خلفها المجتمع الدولي، كي تذبحه بها، وذلك حين قام بعمليته النوعية ضد القوات الإسرائيلية علي الحدود مع لبنان، ومحصلة ذلك إدخال المنطقة في حالة من الفوضي، هي في غني عنها، هكذا يري أنصار هذا الاتجاه.أما الاتجاه الثاني، فهو الذي يري في عملية حزب الله إحياء لروح المقاومة في الجسد العربي الهزيل، ومحاولة لمساعدة الفلسطينيين في مأزقهم مع إسرائيل، وتخفيف الضغط المتواصل عنهم عبر فتح جبهة جديدة ضد إسرائيل.ويبني أنصار هذا الرأي حججهم علي أن عملية حزب الله لن تعطل مسيرة المفاوضات مع إسرائيل، التي هي متوقفة، إن لم تكن ميتة أصلاً. وبالتالي فلا ضير في إرهاق إسرائيل وتفنيد مفاهيمها الكاذبة بشأن الأمن والتفوق العسكري. ويبرر أصحاب هذا الرأي موقفهم بالموقف العربي الضعيف في مواجهة الصلف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وكأن عملية حزب الله قد نكأت بعضاً من الجراح العربية والفلسطينية الغائرة.وبغض النظر عن هذا الرأي أو ذاك، تبقي الوقائع علي الأرض هي خير دليل علي مدي صواب عملية حزب الله من عدمه، وهذه الوقائع تشير إلي ما يلي:هناك جمود تام لعملية السلام في المنطقة، وهي التي أُجهضت علي أيدي رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إرئيل شارون.هناك شعب يتعرض للإبادة علي أيدي الإسرائيليين هو الشعب الفلسطيني.هناك استخفاف إسرائيلي تام بأي موقف عربي تجاه ما يتعرض له الفلسطينيون.هناك استخفاف إسرائيلي تام بأي مقاومة عربية أو فلسطينية يمكنها إثناء إسرائيل عن مخططاتها للحل المنفرد ضد إرادة الفلسطينيين.هناك مجتمع دولي لا يكترث لمعاناة شعب بأكمله في حين ينتفض لأسر ثلاثة جنود إسرائيليين.في ظل كل هذه الوقائع، لم يكن من سبيل أمام حزب الله، ووفق تركيبته العقائدية وحساباته السياسية، سوي التصرف علي نحو ما فعل. فضلاً عن ذلك فقد أعادت عملية حزب الله الصراع العربي - الإسرائيلي إلي مفاصله الأولي الرئيسية، فقد أعلن رسمياً وفاة عملية السلام، وجاء خرج الاعتراف العربي بذلك، من قلب الجامعة العربية وعلي لسان أمينها العام السيد عمرو موسي الذي 'نعاها' في اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي عقد في القاهرة عشة الهجوم الإسرائيلي علي لبنان.ومنذ بدء الحرب الإسرائيلية علي لبنان، وسيل منهمر من الأسئلة يتدفق، منها ما هو مزعج ومقلق، ومنها ما هو مؤجل ويتم الهروب منه، فماذا لو أقدمت إسرائيل علي احتلال لبنان من جديد؟ وماذا سيكون عليه الموقف العربي إذا ما ضُربت دمشق؟ وكيف ينظر النظام العربي إلي ترسانة الأسلحة الإسرائيلية بشقيها التقليدي والنووي؟ وما هي طبيعة التوازن العسكري بين العرب وإسرائيل في ظل الوضع الجديد؟أسئلة كثيرة يُعاد طرحها الآن، ويصب جميعها في معني واحد وهو أن الصراع مع إسرائيل لم ينته بعد، وأن التهدئة التي سعت إليها إسرائيل تحت غطاء أوسلو، لم تكن سوي عملية تخدير للعقل العربي، الذي ظن أن بالإمكان التعايش مع إسرائيل باعتبارها 'دولة طبيعية'.وبغض النظر عن الموقف من عملية حزب الله، ومدي صوابها من عدمه، فقد فجرت ينبوعاً من الأسئلة، كانت في طي النسيان، حول طبيعة العلاقات العربية - الإسرائيلية، وأعادت إلي الطاولة بديهيات كثيرة كادت أن تطمر بفعل عمليات غسيل الدماغ Brainwashing التي قامت بها إسرائيل للعالم العربي طيلة سنوات أوسلو الماضية.ما يحدث الآن، يفرض ضرورة الخروج من أسر النظرة الضيقة التي تختزل الصراع بوصفها صراعاً بين طرفين هما إسرائيل وحزب الله، إلي رؤية الصورة الأشمل والأعم للمنطقة. فالمقصود من الحرب الآنية علي لبنان، كما تؤكدها النتائج علي الأرض، ليس هو حزب الله، وليس لبنان بحد ذاته، وإنما هو بالأساس إعادة صياغة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، بحيث تفضي إلي 'حذف' حزب الله، ومن يقف خلفه، من معادلاته، وذلك تمهيداً لمباركة القيادة الإسرائيلية للمنطقة، وإبطال مفعول أي مصدر قد يهدد الأمن الوطني للدولة العبرية، وهو ما من جهة أخري فرض' المسار 'السياسي'، كخيار وحيد، لتسوية أي نزاعات قائمه معها.القضية، بالطبع، ليست في علاقة حزب الله بإيران، فهذه حقيقة يعلمها الجميع منذ أمد بعيد، بقدر ما هي في الأسباب التي أوصلت حزب الله ودفعته إلي الارتماء في 'حضن' طهران. لذا فبدلاً من التساؤل حول الدعم الإيراني لحزب الله، يجب التساؤل قُبلاً: ولماذا وقع حزب الله أسيراً لإرادة طهران؟ ولماذا لم يحاول البعض أن يخلصه منها قبل سنوات.لا غرو إذا في القول بأن الموقف العربي الراهن من حزب الله، كفيلاً بإبقاءه تحت 'اليد' الإيرانية وزيادة قبضتها عليه، ومضاعفة قناعة الحزب وقيادته بأن الضامن الوحيد لهم في أي مواجهة مع إسرائيل هو إيران.[c1]انكشاف دولي جديد[/c]علي الصعيد الدولي، حملت عملية حزب الله رسائل عديدة، ليس أقلها التأكيد علي أن الفلسطينيين لا يقفون وحدهم في مواجهة إسرائيل، وأن هناك من يدعمهم، ومن بيده توريط إسرائيل في مستنقع خارج حدودها. كما أنها انطوت علي محاولة لخلط الأوراق الإقليمية أمام الطرفين الأمريكي والإسرائيلي بهدف تخفيف الضغط الذي يمارسه كلا الطرفين علي بعض الدول العربية مثل سوريا والعراق. في نفس الوقت سعي حزب الله لإبراز قدرة 'محور الممانعة' المتمثل فيه بالإضافة إلي دمشق وطهران علي تعطيل الخطط الإسرائيلية والأمريكية التي تستهدف ابتلاع المنطقة وتطويعها حسب مصالحها.بيد أن الأهم من هذا كله، هو توجيه رسالة قوية للغرب بشكل عام، وللولايات المتحدة بوجه خاص بأن القضية المركزية في منطقة الشرق الأوسط ستظل هي القضية الفلسطينية، وأن أي محاولة لطمس معالم القضية، علي غرار ما تفعله إسرائيل، وتعينها عليه الأطراف الغربية، لن تجدي نفعاً، وستعود بالضرر علي إسرائيل ذاتها. أي إعادة جميع الأطراف إلي المربع الأول فيما يخص الصراع في الشرق الأوسط.ويشي الموقف الدولي من الحرب علي لبنان، وهو الذي بدا مؤيداً بشكل غير مباشر لما تقوم به إسرائيل ضد المدنيين اللبنانيين، بعدم جدوي المراهنة علي أي مبادرات دولية لحل النزاع في الشرق الأوسط، طالما ظل الموقف الإسرائيلي هو المسيطر علي وجهات نظر المجتمع الدولي. وكان فشل مجلس الأمن في إصدار قرار بوقف إطلاق النار بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي، دليلاً دامغاً علي افتقاد المنظمة الدولية 'الأمم المتحدة' لأهم وظائفها الأساسية التي أنشئت لأجلها وهي حفظ السلم والأمن الدوليين.
|
فكر
عملية حزب الله .. هل كانت مغامرة ؟
أخبار متعلقة