التنوير مشروع كوني لكنّ كونية التنوير لا تنفي معطى الوطنية التي هي ظاهرة سياسية حديثة. لقد تصلبت الحدود بين المجموعات البشرية منذ أن بدأت وسائل الاتصال تنسف الحدود الذهنية بين البشر وابتدع جواز السفر في القرن نفسه الذي اخترع فيه التلغراف. والعالم قرية كونية من جهة تيسير الاتصالات بين أفراده لكنه لن يتحوّل قريبا، والراجح أنه لن يتحوّل أبداً، إلى مساحة مفتوحة ومرفوعة الحدود وإلى أفراد يحملون الجنسية الإنسانية.إنّ الحدود القائمة في المنطقة المدعوة بالشرق الأوسط الكبير هي حدود اعتباطية لكن كلّ الحدود هي كذلك. لا شيء يبرّر منطقيّا أن تنتمي منطقة الألزاس إلى فرنسا دون ألمانيا ولا منطقة التكساس إلى الولايات المتحدة الأميركية دون المكسيك. وكل ما هو اعتباطي يصبح أمرا واقعا بتقادم العهد ومرور الزمن. وإدارة الموجود مهما عسر هو في الغالب أقلّ مجازفة من تغيير الخرائط بشرط أن تعتبر الحدود كيانات إدارية وسياسية ولا تتحوّل إلى مشاريع لسحق الأقليات والمخالفين تحت غطاء أيديولوجيات غامضة. وتقسيم الكيانات القائمة وتفتيتها لن يسهّل نشر الأنوار والديموقراطية. ومن السذاجة أن نظنّ لحظة أن التدخل الأميركي في العراق يمكن أن يقاس على الحملة الفرنسية على مصر أو أن بوش الابن يمكن أن يشبّه بنابليون بونابرت، بل الأمر إلى العكس أقرب. بونابرت كان ابن الثورة الفرنسية وبوش ابن عائلة نفطية، وكلّ إناء بما فيه يرشح. وخطط التقسيم والتفتيت لا يراد منها سوى تسهيل سيطرة الأقوياء على الضعفاء وهي إلى ذلك مسار إذا بدأ لا يستقرّ إلى قرار. فلا توجد كتلة صماء تدعى العرب ولا الأكراد أو العلويين أو السنة أو الشيعة أو المسلمين أو المسيحيين. ما يعني أنّ تسهيل التعايش بين البشر لن يحلّ بمجرّد تقسيمهم عرقيا أو دينيا أو مذهبيا، إذ تخترق كل دين وعرق ومذهب تفريعات شتى ستدفع إلى مزيد التقسيم والتفتيت. فالحلّ الأمثل هو نشر التنوير وإعلاء قيمة الفرد وتوسيع دائرة الحرية والمشاركة السياسية والاقتصادية والفصل بين المواطنة والانتماءات العقائدية والمذهبية. لا شيء يمكن أن يوقف النزاعات بين البشر وتأمّل ذلك ضرب من اليوتوبيا. أمّا الإدارة السلمية للنزاعات فهي ممكنة في ظلّ تقدّم التفكير البشري وتقدّم التجارب التاريخية في التنظيم الاجتماعي. وحصيلة هذا التقدّم هو ما ندعوه بالحداثة السياسية.وكما تخفّى الاستعمار سابقا بالليبرالية وتخفّى الحكم العشائري بالقوميّة والحكم الفردي بالاشتراكية، فلن يكون مستغربا أن تتقدّم مشاريع التقسيم والتفتيت باسم التنوير، لكن التنوير الحقيقي هو الذي يخدم مصالح الشعوب دون مؤسسات النفط وقوى الضغط المرتبطة بها. ولما كانت منطقة الشرق الأوسط تحتوي الاحتياطي الأوّل للنفط والغاز لمدة نصف قرن قادم على الأقلّ فإنها ستظلّ ممزقة بين مشروعين، مشروع المحافظة على السائد للتوقّي من المخاطر المحدقة ومشروع الإصلاح التنويري والديموقراطي لمواجهة هذه المخاطر. والعقل المستنير هو الذي يدرك أنّ السائد لو كان كفيلا بالوقاية من المخاطر لما كنّا في الوضع الذي نحن عليه.والتنوير ليس قرارا سياسيا أو ندوة تعقد هنا أو هناك لكنه عمل دؤوب وعسير وبطيء النتائج. وليس عرض الأفكار الراجحة بكاف لانتشارها كما لا يكفي جمال اللوحة لشهرة الفنان ولا قيمة القصيدة لمجد الشاعر. ومن أوّل ضرورات التنوير البحث عن الصيغ الكفيلة بتقديم الأفكار الجديدة بأسلوب يرغب ولا ينفّر. وليس المطلوب التفكير من وجهة نظر المجموعة وإنما التفكير لها من خلال الأفق الإنساني الذي ينبغي أن تبلغه وتساهم في نحته، فطرح الأفكار من خلال المخزون الثقافي للمجموعة المتوجه اليها بالحديث يساعد على ترسيخ جسور المحاورة والمساءلة ويرفع الالتباس ويسهل التأثير، بشرط ألا يتحوّل إلى مغازلة للشعور الجمعي وتعميق الحنين إلى أمة متصوّرة على نموذج الأمومة أو الجزع من غرب مرسوم في هيئة الشياطين. ولقد ترجم لوثر الكتاب المقدس من اللاتينية إلى الألمانية كي يصبح الدين ملكا للجميع، وابتدع فلاسفة الأنوار الموسوعة لعرض رؤيتهم للعالم، وأنشأ أدباء الحداثة الرواية ليكون التحليل الاجتماعي متاحا لكل مواطن. وقديما صاغ ابن المقفع فكره السياسي في شكل أمثولات، ولخص ابن طفيل فلسفته في قصّة مثيرة. فالإبهام الذي يظنه البعض جزءا من الحداثة سيزيد من التباس الخطاب التنويري والخلط بينه وبين مآرب أخرى. وليس البحث عن الشكل المناسب في الخطاب بأقلّ قيمة من بناء المضمون المنشود في التفكير. ولو كان كافيا لانتشار الأفكار إعلانات المبادئ واقتباسات العبارات لكان أمر التنوير هينا، لكنّ تنزيل الكوني في الوطني والعام في الخاص والفلسفي المجرّد في القضايا اليومية هو الذي يحوّل الحداثة مطلبا وتطلعا بعد أن كانت شبهة وتوجساً.[c1]* كاتب سوري[/c]
|
فكر
التنوير ليس قراراً سياسياً
أخبار متعلقة