أنا مواطن عربي مسلم ولكن تقييمي للحركات الإسلامية يتأثر بالتجارب على الواقع لا بالمبادئ والشعارات، وقد اكتشفت من قراءتي للتاريخ قديمه وحديثه أنه كلما دخل المقدس للواقع البشري تحولت الصراعات السياسية والدنيوية إلى صراع بين الحق والباطل والى نزال بين الإيمان والكفر والى اختلاف بين الحلال والحرام، بينما الشأن السياسي هو شأن بشري يجب أن يكون فيه الخلاف بين الصحيح والخطأ والتنافس بين الصالح والأصلح. ورأينا كيف ألبس عدد من حكام المسلمين طموحاتهم منذ الفتنة الكبرى الى اليوم لباس الإسلام وأبادوا مخالفيهم باسم الدين، عبر كل العصور وصولا إلى آخر المهازل المعاصرة التي تحول الاختلاف البشري الضروري الى صراع مزيف بين الإيمان والكفر. أي أن المنطق السياسي ينتفي ليترك المجال واسعا للتأويلات والتفسيرات، ويلغى العقل وتوأد الحرية ويقضى على الديمقراطية ضحية هذا الانحراف. هذا من قراءة التاريخ ومن تطبيق المقدس على البشري، أي تطبيق المطلق على النسبي وتطبيق الثابت على المتحول. من هذا المنظور أعارض إقحام الدين، أي دين من الأديان، في العلاقات الإنسانية، لكن مع إنزال الدين كمنهج حياة وكدستور الدساتير كما يقول الشيخ الطاهر بن عاشور والشيخ عبد الرحمن خليف، لا باعتبار الدين مجرد دولة بلا قوانين وبلا حريات، بل برفعه الى مكانته الحقيقية كعقيدة وحضارة ومنهج فكر وثقافة وتربية وتنظيم حكم الناس على عقد سياسي مختوم بين الحاكم والمحكوم، كما طالب بذلك العلامة ابن خلدون منذ ستة قرون، وهو الدستور المدني بالمعنى المتعارف اليوم. فباسم أية شريعة نمنع الحريات الفكرية بعد أن كان أبو العلاء المعري والجاحظ وابن المقفع وابن رشد والفارابي وابن خلدون وطه حسين وأبوالقاسم الشابي، يكتبون بحريات أكبر وأرقى مما هو متاح اليوم، بسبب تقليص مساحة الحريات التي هي وحدها تفتق العبقريات وتصنع التقدم؟ ولم ترجمهم مجتمعاتهم المسلمة كما يرجم اليوم بعض المتخلفين نخبة من المفكرين، قد لا أوافقهم شخصيا وقد أختلف مع أطروحاتهم، ولكني أناضل من أجل أن يتمتعوا بحرياتهم كاملة في التعبير ومخاطبة الرأي العام. فالتقدم مسار بشري لا يكون ممكنا الا بالاختلاف، وأنا ضد تقديس أي رأي بشري وأعارض وضع بعض القوانين البشرية أو الأنظمة السياسية في منزلة النص المقدس مثلما يقع اليوم في بعض أرجاء وطننا العربي وأمتنا الإسلامية، حين يقول بعض غلاة الأيديولوجية أنه لا يجوز النقاش حول قانون من القوانين أو خيار من الخيارات، فيعلنون موت السياسة ونهاية التاريخ! فالشأن السياسي لا يتقدم بدون العقد الديمقراطي الذي لا يقبل قمع المختلف كما لا يقبل نشر الفتنة باسم ممارسة الحرية. هذا هو الخيط الرفيع الذي أدركته بعض الحركات ذات المراجع الإسلامية في تركيا وماليزيا والمملكة المغربية والكويت والأردن، وربما لم تدركه حركات أخرى تزامن ظهورها مع انحرافات متطرفين جهلة شرعوا في تخطيط الانقلابات والاعتداء على الناس بتشويه وجوههم والتهديد بقتل مخالفيهم، ودفع المجتمع ثمنا باهظا لهذه الأخطاء. وأملي أن يراجع الجميع مواقفهم على ضوء النتائج وعلى ضوء الواقعية وحسب مصلحة الوطن العليا، في ظل قوى أجنبية متربصة بنا وتنتظر تفاقم أخطائنا ليعود الاحتلال ويرجع الاستعمار كما وقع في العراق وأفغانستان وكما يتواصل في فلسطين. أما النخب التي تحكم البلاد العربية، فهي في أغلبها وطنية ومجتهدة وندعوها للحوار والاستماع إلى المجتمعات المدنية، وأنا بطبعي كمعتدل أدعو للتطوير لا للتثوير، بل أعتبر التثوير فتنة أشد من القتل، وأتعامل مع من يخالفني بالكلمة الطيبة والحجة وتقديم مصلحة الوطن على مصالح الأحزاب. وهنا يأخذ الوفاق معناه الحقيقي وأبعاده المرجوة، من حيث هو منهج تقويم وسبيل تصحيح ومشروع للحكم الصالح، اللهم إلا إذا أراد البعض مواصلة الطريق الخطأ وهو يعلم أنها خطأ وزقاق مسدود، ليتحول إلى أعمى البصيرة وهو شر من أعمى البصر. [c1]* كاتب تونسي[/c]
|
فكر
السياسة بين الدين والدولة
أخبار متعلقة