التمرد هو الخروج على الأوامر ، والأنظمة . وفي الأدب نطلق هذا النعت على كل أديب يحاول الخروج، أو التحرر من قاعدة أدبيّة. واستبدالها بغيرها دون مسوّغ فنِّي . وإذا كنَّا قد أطلقنا هذه التسمية على الشاعرة " آمنة" ، فإننا - من جانب آخر - نبرئها من التمرّد المقصود لذاته ، بدليل التزامها بالموسيقى -الوزنية- في قصائد لا بأس بها . أما الإيقاع - وقد كان البديل الأفضل عن الموسيقى الخارجية- فلم نجد آثاره إلاَّ في قصائد - أقل - معدودة .. فهل هذا التمرد - سواء على الوزن أو الإيقاع - بدا قصداً . أم هو ضعف فنّي لابد من تلافيه ، ومعالجته مستقبلاً…؟هشام سعيد شمسان [c1]الملمح الأول : الخارج ..[/c]ربما أكثر ما يثير الاهتمام في النصوص الشعرية المقدمة في ديوان الشاعرة هو الأخذ على العاتق موسيقية هذه النصوص ؛ لإعطائها الشكليّة المناسبة التي تسعى إليها الشاعرة ، وهي بذلك - أي الشاعرة - إنما تحاول الجمع بين حداثة النص بأسلوبيّته ، وحداثته بموسيقاه ، ولكن هل استطاعت الشاعرة أن تحافظ على هذه الميزة ؟ هذا ماسوف يَكشف عنه هذا الملمح من خلال ماسيأتي: :[c1]أولاً: ظهرت قصائد [/c]- تقاربُ الخمس عشرة قصيدة - ملتزمة لعنصر الوزن التزاماً صارماً من نحو : ( قلق - حلم- هامش - وحيدة - نجمة- حزن- مطر - نشيد - انحدار - صلاة - احتمال - سياسة - بقاء..).. وأهم البحور المستعملة في هذه النصوص " الكامل - المتقارب - الرمل - المتدارك - الرجز" . ففي نص " النجمة" - مثلاً - نلمح هذه الانسيابية الموسيقية:[c1]" عن دياري سألتنيهامشيات الغيومْ ليس لي بيتعلى الأرضولكنْ …في النجومْ ..[/c]فقد ارتكز هذا النص على تفعيلة " الرَّمل " فاعلاتن" تامَّة ، ومحذوفة ، ومقصورة ، دون الإخلال بالنظام التفعيلي المعروف، ومثل هذا النظام نجده في قصائد أو نصوص أخرى نحو نص " نشيد" :[c1]"وطني دوحة ..تمنح الغرباء ثمار الحكاية والأوردة …"[/c]حيث نجد هذا النظام الموسيقي (فَعِلُنْ فاعلن / فاعلن . فَعِلُنْ / فعلن , فاعلن . فَعِلُنْ . فاعلن ) والنص مّدور على قصره ، واعتمد على تفعيلة " المتدارك" ، والمتميزة برشاقتها ، ولكننا لانلمح هذه الرشاقة في هذا النص لعامل آخر هو أنَّ الموضوع لايناسب هذه التفعيلة ، ناهيك عن الإيقاع الذي يبدو ضعيفاً خافتاً…ثانياً : ظهرت قصائد كثيرة - تربو على العشرين - بأوزان مضطربة ،وبعضها لا تستقيم إلا بقراءة معّينة لتلك النصوص .. ومن الأمثلة على ذلك.. نص " بيننا " فهو يبدأ كالآتي:[c1]" بيني وبينك ألف جدار ، وألف حصاربيننا كل هذي العيون التي تأسرنا… "[/c]تبدو لنا من خلال هذا النص تفعيلتان رئيستان هما " مستفعلن . فاعلن" .. تستمران في التدفّق حتى تصطدما بهذه الجملة: "مهما تمرد قلبنا الطفل" وهاهنا يبدأ الاختلال بالخروج إلى تفعيلة " الكامل" "متفاعلن" .. ولكن الاتساق يعود ليختل عند قولها: ( كل هذا الغموض الذي يأخذك للخلف مليون عام ) وربما عمل التخفيف في جملة "ياخذك" على إزالة هذا الاختلال بتسكين حرف " الذال" .. وهو مالم يكن…- وفي نص "رحيل" نقرأ مايأتي :[c1]"الليلة يهبط الهامي ، يسألني : أين يحطوأين يبيتُ ..وكيف سأحويه " ؟[/c]وإلى هنا والنظام الوزنيّ مايزال متساوقاً ضمن تفعيلة " الخبب" .. ولنكمل من قولها:[c1]"التعبُ الأسود .. يقتربُ والقمر .. مرافئه تغفو …."[/c]لامراء أنَّ التفعيلة تنزلق من تموجها ، ودائرتها ، وبحرها، ونحن نقرأ: "يقتربُ والقمر مرافئه تغفو… لنتأمل عدد المتحركات في العبارة ، وإلى عدد الأحرف الساكنة (اه ااااا ه ااااا ه ااا ه اه ا ه) ولم نعهد سلفاً أنَّ تفعيلة "المتدارك" أو أحد فروعها يمكن أن تحتمل أربعة أو خمسة متحركات معاً - وبتتالٍ -( )وهناك نصوص كثيرة نلحظ من خلالها أن النص قد ينتظم على نسق عروضي معين لكنه - بغتةً - ينحرف دون وعي أو وعي إلى نسق آخر لا علاقة له بالسابق مثال ذلك نص "انكسار" فهو يبدأ متسقاً في تفعيلتين هما " فاعلاتن مستفعلن" هكذا :[c1]" اعطني كميةً من ضعف (فاعلاتن . فعلن . فَعْلن)تطوّق الرحيل / في عيني (مفاعلن .مفاعلن . فَعْلن)وتطفئ السؤال في دمي …" (مفاعلن . مفاعلن . مفا )[/c]وبالرغم من أنَّ الخروج يبدأ من الشطر الثاني وتحديداً في "مفاعلن" .. إلاَّ أنَّ هذا الخروج يمتد أكثر عند قول الشاعرة: لا أراك غير أقصر من قوامي"… لتنخرط التفعيلة الأساسية "مستفعلن" تحت تفعيلة "الكامل" "مُتَفاعلن" حتى نهاية النص دون الإعلام بابتداء مقطع جديد ينظِّم هذه الوحدة الوزنية ( ).. ومن الملاحظ على جميع النصوص أنها لم تضبط - شكلاً -. ويبدو بأن الشاعرة تعمدّت ذلك وقصدته قصداً ، إذْ تركت الجمل الشطرية حرَّةً دون إخضاعها للضرورات الوزنية وأهمها " ضبط أواخر الكلمات " لتحديد البداية من النهاية ، ولعلَّ هذا الضبط في الشعر التفعيلي له ضرورته بهدف تقسيم الوحدات الوزنية لمعرفة مكامن الوقف أو التحرك ؛ لأن بقاء النصوص على هذه الحاله من عدم الضبط يجر القارئ أو الناقد إلى تأويلات وزنية ضدّ أو مع الشاعر. فنحن مثلاً - نجد صعوبة كبيرةً عند البحث عن الوحدة الوزنية التي استخدمتها الشاعرة في نص " عيناك" والسبب هو أنَّ النص كإخوانه ظل مطلقاً من الضبط ومرسلاً منه ولذلك فإننا نقرأهُ بطريقتين أولا هما هكذا:[c1]" في عينيك يا أميجزرٌ وشباكٌلأجلهما أمـخرُ ذاكرة همِّي وأحدِّقُ فيموج سناكِوهناك أجمع أصداف حلميوأحدقُ وهناك تسطع ياأمي .. عيناكِ…."(نص " عيناك")..[/c]وبهذه الطريقة التي حركنا من خلالها أواخر الكلمات - نهاية كل شطر - يظهر لنا نص لاحياة فيه إلاَّ نثريته الفنية ، أما الموسيقى فمتجعدة معهوهة ، وإنْ برزت تفاصيلها البعضيّة..ولكن ماذا لو تمت القراءة بتسكين أواخر الألفاظ "احدق / سناك / هناك / الأفلاك / الطاء في "وطنا"؟حتماً يكون الوزن قد استقام ولكن هل يستقيم السياق الشـعـوري وينسجم الإيقاع إزاء هذا التدخل ، وإخضاع النص لضرورة لم تضع لها الشاعرة حسباناً… ونظير هذا النص تظهر لنا - كذلك - نصوص أخرى نحو "فصول" - "حلم" - "انحدار" .. ولابد فيها من تسكين أواخر الكلمات - نهاية الأسطر - لضرورة وزنية محضة .. ولعل هروب الشاعرة من عملية ضبط النصوص هو - وحده- التخلص ضمناً - من تبعات الأخطاء العروضيَّة ، التي قد تواجه بها.[c1]الملمح الثاني : الداخل..[/c]ونحن نبحث عن إجابة السؤال الآتي: الى أيِّ مدى استطاعت الشاعرة أن تتمسك بالشكل بأهم مكوناته ؟ كان علينا أن نتبعه بالسؤال التالي: وإلى أي مدى استطاعت - كذلك - أن تبرز الإيقاع الداخلي لهذه النصوص لتعويض ما فقده الشكل من بعض موسيقاه ..؟إنَّ قراءة فاحصة تخرج منها إلى استنتاج محدِّد هو : أنَّ الشاعرة وإن كانت قد اتكأت على موسيقى وزنية واضحة إلى حدٍ ما لعدد من النصوص ، وتمردت على هذه الموسيقى في العدد الأكبر منها ، فإنها كذلك تفعل على صعيد الداخل ، فإيقاعها قوي واضح في أقل النصوص ، وهو خافت في معظمها ، وهو مغيّب في البعض الأخير..ومن النصوص التي بدا فيها هذا العامل واضحاً ومقبولاً نص "صلاة"[c1]" عُدي الأنامل كل فجرٍ وصلاة تقول ليسواحل العينين يا أماه "فما الذي يبدد البريق في غدي وما الذي تعده عيناه "[/c]ولعل انضباط الوزن - هنا - والتقفية ، والسياق الشعوري كل ذلك ساعد على إبراز وحدة الإيقاع " ، والشعور المثار في النص .وثمة نصوص قد يظهر فيها الإيقاع بارزاً لكنه فجأة يختفي ويغيب نحو نص "نجمة"[c1]"عن دياري ، سألتني هامشيات الغيوم ليس لي بيت على الأرض ولكنْ في النجوم" ..[/c]في هذا المقطع نجد انضباطاً ايقاعياً ولكنه يغيب إلى حدٍّ ما وهي تقول:[c1]" وامحت مني .. بقيةحين أخفاني .. نهاري"..[/c]وعلى الرغم من التزام وحدة وزنية واضحة إلا أن الوزن - هنا - يبدو حيادياً ؛ لأنه لا يمثل الإيقاع . وثمة نصوص يظهر فيها الإيقاع خافتاً من نحو "رحيل" "اعتذار" "موت" "عيناك" "غربة":[c1]" لم يعد لي ظل نجمةيبس البدر وأرضي ليس فيها ظل بسمة"رقد الفجر ونبضي طائر يرتاد همه عصف الدهروبعضي بِيْدٌ يقتات همه ( نص " نبض")[/c]ولابد من الاعتراف - هاهنا -أنَّ معظم نصوص الشاعرة - لسبب ما عند كتابة القصيدة - تجعل معه الشاعرة تُصْيغُ مواقف تجترها اجتراراً - هي عبارة عن سردٍ فني منقطع الصلة بالوحدة الشعورية ، ولهذا بدت أكثر هذه النصوص مثيرة للتساؤل بحثاً عن إيقاع يُميزها كشعر ، وإن خلت من الموسيقى الوزنية . ومن الأمثلة على ذلك:[c1]" لأني وحيدة ألوِّنُ صدر المساءبألبوم حزني …. الخ " (وحيدة).. ."هل تعرفني أيها المطر ؟هل رأيتني .. يوماً ما ..حلماً أو وهماً ..وقولها منْ نص ( احتراق)" مزَّقت حلمهاحدَّقت فيها الأصابعفامَّحى صوتها وقتهاكيف لا يحترقْ " ؟[/c].............يقول الدكتور حاتم الصكر في مقدمته للديوان :" ومن مزاياها - أي الشاعرة- تغييب مستوى الإيقاع رغم المحافظة على موسيقية وزنيه واضحة ، لكنها مندرجة في الدلالة وبناء القصيدة العام "( [c1]الهوامش:[/c] صدر ديوانها الأول ، قصائد الخوف عام 1997م ، دار الحوار ، دمشق .(1) كانت نازك الملائكة في كتابها " قضايا الشعر المعاصر" قد ذكرت جواز ورود تفعيلة " فعلتن" المكونة من أربعة متحركات فساكن ( ااااه) .. ولكن يبدو بأن ثقل هذه التفعيلة يجعلنا نستبعدها بدليل أن نازك نفسها تقترحها ولاتجيزها مطلقاً..(2) هناك من يؤيد الخروج من تفعيلة لأخرى لاتجانسها شرط ألاًَ يختل النسق الشعوري والإيقاعي ولكن المتفق عليه أن الشاعر ، عروضياً ، يكون متهماً بالتمرد على الوزن بغض النظر عن الوحدة الشعورية أو الإيقاعية للنص المشعور؛ وإلا كان النص واقعاً تحت مسمى " النص المرسل " - قصيدة النثر.(3)انظر مقدّمة ديوان " قصائد الخوف".
|
ثقافة
التمرد العروضي والإيقاعي في شعر آمنة يوسف
أخبار متعلقة