الموسيقار محمد عبدالوهاب
القاهرة/ 14أكتوبر / أيمن رفعت صدر عن دار الشروق في طبعته الأولى كتاب “رحلتي : الأوراق الخاصة جداً “ ، قام بتقديم هذه الأوراق الشاعر الكبير فاروق جويدة ، الذي قدم للمكتبة العربية 20 كتاباًَ من بينها 13 مجموعة شعرية حملت تجربة لها خصوصيتها ، وقدم للمسرح الشعري 3 مسرحيات حققت نجاحاً في عدد من المهرجانات المسرحية هي : الوزير العاشق ودماء على ستار الكعبة والخديوي وترجمت بعض قصائده ومسرحياته إلى عدة لغات منها اللغة الإنجليزية والفرنسية والصينية واليوغوسلافية ، وتناول الأعمال الإبداعية لعدد من الرسائل الجامعية في الجامعات المصرية والعربية. وعن هذا الكتاب أو الأوراق الخاصة للموسيقار عبد الوهاب ، يقول شاعرنا الكبير : بعد رحيل عبد الوهاب بفترة قليلة فاجأتني زوجة الموسيقار الكبير بمفاجأة غريبة ، لقد أخبرتني أن عبد الوهاب طلب منها قبل رحيله أن تعطيه أوراقه الخاصة، واكتشفت وأنا أقلب هذه الصفحات أن هناك عبد الوهاب آخر غير الذي نعرفه بين هذه السطور. في مقدمة الكتاب ، يتذكر الشاعر الكبير فاروق جويدة ، لقاءه الأول مع الموسيقار محمد عبد الوهاب ، فيقول : مازلت أذكرلقائي مع الموسيقار عبد الوهاب ، كان ذلك في بداية السبعينيات عندما دخلت بيت عبد الوهاب في الزمالك لأول مرة كانت تدور في رأسي صور كثيرة ، فكان عبد الوهاب يمثل جزءاً عزيزاً في تكويني الوجداني منذ الطفولة المبكرة ، ولا اعتقد أن هناك مصرياً أو عربياً إلا تأثر بفن عبد الوهاب وعاش معه بمشاعره ووجدانه ، ولهذا عندما دخلت بيت عبد الوهاب للمرة الأولى ، كنت مرتبكاً مضطرباً ، أحاول أن أجمع شتات أفكاري ، فأنا في روضة الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب ، وكان هذا اللقاء بداية علاقة استمرت أكثر من عشرين عاماً ، حتى رحيله، وهو الإنسان الوحيد بعد والدي الذي كتبت فيه رثاء ، فأنا لم أكتب رثاء في أحد طوال عمري ، وشعرت بعد رحيل عبد الوهاب أن جزءاً عزيزاً انتزعته الأقدار منا . وتبدأ الرحلة مع الأوراق الخاصة جداً للموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب ، عندما فوجئ شاعرنا فاروق جويدة ، بزوجة الموسيقار الكبير تبلغه أن عبد الوهاب ، طلب منها قبل رحيله أن تعطيه أوراق الخاصة التي كان يكتب فيها خواطره . وكانت أول رحلة في هذه الخواطر ، مع الفن يقول فيها موسيقارنا الكبير : ما أحوج الفنان للمراجعة ، فإن فيها إتقانه وكماله ، ومع ذلك لا أتعظ وأعود للقلق والهيافة ، لا يمكن لفنان أن يراجع نفسه ولا يجد الأفضل ، ولابد أن يعيش الفنان بين الحقيقة والسراب .. وعندما أندمج في عمل فني أحس بأنني أقرب إلى الله من أي وقت ، وربما كان السبب في ذلك أن الفن يخاطب مواقع الطهر في الإنسان ، كالحب والجمال ،الخلق والمثل العليا والضمير ، والوجدان والخير ، والله سبحانه وتعالي خير. فأنا أكثر قرباً منه ، وأنا المس هذه المواقع الطاهرة. ويضيف عبد الوهاب ، متسائلاً لماذا انتهي زمن الأصوات الجميلة؟ ، ذهبت أم كلثوم بأدائها المعجز ، وفريد بلون صوته الفريد ، وعبد الحليم بتأديته الحساسة وشخصيته الذكية ، فما بعد ذلك ؟ فالفن عند بعض الفنانات والفنانين الآن غاية وليس وسيلة ، وعند البعض الآخر وسيلة وليس غاية ، والأولي تضحي بكل شيء في حياتها حتى نفسها في سبيل الحصول على فن جيد ، والفئة الثانية الفن عندها وسيلة، هي تريد الفن وتريد الجاه والسلطان ، وتعلم أن هؤلاء لا يريدون فناناً يعيش في ظلام البيوت ولكنهم يريدون الضوء ، يبهرهم الضوء ، إنهم يذهبون للضوء ليتلألأوا تحته. والفنانون يظهرون فلا يجدوا أقوى من ضوء الفن ، ومثل هؤلاء الفنانين تجدهم يختفوا ثم يظهروا ثم يختفون ثم يظهرون ، إنهم يقومونا بالعمل الفني ليحصلوا به على شحنة من الضوء تدفعهم إلى تحقيق أغراضهم الدنيوية.[c1] رحلتي مع الناس[/c] في هذه الرحلة يتحدث عبد الوهاب عن رحلته مع الناس ، منهم طلعت حرب رائد الصناعة المصرية ، والنقراشي باشا ، أما عن أحمد شوقي أعظم الشعراء فيقول : سألت مرة أمير الشعراء أحمد شوقي : لماذا أنت أعظم شاعر عرفه العرب ؟ فقال : أولاً هي الموهبة ، قلت : ثانياً : قال : لأنني حصلت على شهادة ليسانس الحقوق ، قلت : وما علاقة الحقوق بالشعر ، قال : الشعر موهبة ومنطق والقانون منطق ، ولم أفهم ماقاله شو قي حتى الآن . أما عن سيد درويش فيقول : يخطئ من يتصور أن سيد درويش أغنية ولحن ،إن سيد درويش فكر وتطور وثورة ، فسيد درويش هو الذي جعلني أستمتع عند سماعي الغناء بحسي وعقلي ، بعد أن كنت قبله أستمتع بحسي فقط.ومن أفضال الشيخ سيد درويش على الألحان العربية أنه أدخل الأسلوب التعبيري في ألحان ، ومن أفضاله أيضاً أنه كسر المقامات المتجاوزة في لحنه ، فقبل الشيخ سيد كان الملحن يتحسس المقامات أي يحوم حول مقامات النغمة مقاما مقاما ، خوفاً من الضياع أو من النشاز . وجاء الشيخ سيد وقفز قفزات غير موجودة في أذن المستمع ولا هو مهيأ لها ، وكأنه بذلك يريد أن يلطش “ المستمع ويقول له تنبه وتتبع لما أسمعك إياه “ يظهر هذا جيداً في الآهات الموجودة في دور “ ضيعت مستقبل حياتي” رمز الاستقلال الفني وعن تحيةكاريوكا يقول المستشار عبد الوهاب : تحية كاريوكا ظاهرة من ظواهر الاستقلال الفني ، وتظهر قدرة تحية أنها كانت تستطيع أن تعطيك كل ما عندها من فن وحركة بكل جسمها في مساحة لا تزيد على متر مربع ، لا تحتاج إلى جري حول المكان “رايحة جاية” لتبهرك أبداً ، إبهارها في هذا الجسم الشامخ • ولها فضل آخر هو أنها كونت شخصية الراقصة المصرية ، في وسط رهط من الراقصات الأجنبيات، كاللبنانيـــات أو الأرمن ، كنا نحس في هؤلاء بغياب الراقصة المصرية . وتحية اقتبست منهن الحركات الأوروبية بحذر وذكاء ولم تشأ أن تصدم الناس بحركات تقلل من مصرية الرقص ، الأمر الذي كان الجمهور يفتقده في رقص الأجنبيات ، وقد جعلت تحية للرقص والراقصة احتراماً اجتماعياً لم يكن موجوداً قبلها، وفي رحلته مع المرأة والحب ، يتساءل عبد الوهاب : لماذا تعشق المرأة الفنان ؟ويجيب قائلاً : السبب أولاً أن المرأة تحب اقتناء الشيء الغالي الثمين والفنان شيء غال وثمين والشيء الآخر وهو المهم فيه عنصران ، متناقضان ، فيه الروح بأسمى ما تكون فيها المشاعر من الإحساس والأحلام والخيال. والحب “ الحراق “ . وفي الوقت ذاته فيه المادة الصارخة ، إنه يعيش الروح بأسمي ما فيها ويحلق بها إلى السماء ويعيش المادة بأحط ما فيها على عنصرين قل أن يوجدا في شخص واحد ، والمرأة لا تستغني عن أحدهما ، فالمرأة تحب الحب وتحب العاطفة وتحب الأحلام تحب أيضاً الجنس بشراهة ، إنها الدنيا بروحها السامية وعادتها الهابطة. متعة الروح قبل الجسد يقول عبد الوهاب ، ليست المتعة في الجنس إنما الروح ، في الوجه المعبر عما في الأعماق ، بالعينين بالشفتين ، بالصوت ، بالإحساس ، بالوجدان ، بالإخلاص ، بالعقل ، كل هذا وغيره روح وواجهتها الوجه ، والمتعة ألفة روحية أولاً ، باختصار شديد : قوة الجنس في راحة البال ومن أولى براحة البال مثل المؤمن الذي لا يغضب الله ويعيش مرتاح الضمير ، ولكي يمتع الرجل المرأة جسدياً يجب أن تكون له قدرات خاصة وتحكم في أعصابه لاقوة عضلية فقط ، وعليه أن يكون متيقناً للوصول بالمرأة إلى ذروة متعتها. أما هي فكل ما عليها أن تبسط جسدها ولا تفكر في شيء ، مسترخية ، مستقبلة لمتعة صافية لا تحمل همها ، وأما الرجل فيحمل هم متعتها.. و لقد قال الله تعالى في القرآن الكريم“ نساؤكم حرث لكم “ أي أن المرأة كالأرض تبسط نفسها لمن هو كفء لها ، وعلي الرجل أن يحمل الفأس ويسقيها بالماء ويلقي البذرة ويحرثها ، تعب ومسئولية وعرق وعن رحلته مع السياسية ، فيقول : الاشتراكية أفسدت الفن ، من يوم أن أصبحت السياسة سياسة جماهيرية، وظهرت كلمة اشتراكية فسد الفن . ففي السابق كان الذي يعاون الفن الملوك والأمراء والصفوة ، أي من عندهم حسن استمتاع ، وكان يوجد فن رفيع، فالأغلبية والجماهيرية ، لاتدفع فناً إلى الرقي ، والقرآن الكريم دفع الأكثرية ، فما من آية تشير إلى الأغلبية إلا وكان الناس لا يفقهون. يضيف عبد الوهاب قائلاً : أنشأنا إذاعة صوت العرب لكي نجيب العرب في مصر ، بالكلمة ، بالفن ، بالأدب ، باللغة ، لا بالتشنج والصراخ والحدة أريد أن تتشبه إذاعة صوت العرب بالإذاعة البريطانية التي تعطي ما تريده من أخبار أو أفكار مغلفة بالحنكة والبراعة ، ولا يؤخذ عليها بأن لها موقفاً ..أريد لصوت العرب ألا تكون إذاعة سياسية حادة متشنجة شتامة ، أريد لها التغلغل بالحب وهذا هو الكسب الحقيقي لمصر ولصوت العرب .[c1] كلمات ومواقف في رحلته مع الحياة[/c] يقف الموسيقار الكبير عند كلمات ومواقف فيذكر : الفن والانتماء “ الانتماء للوطن مصدره نواح اجتماعية متعددة من أهمها الفن ، ولقد فقد الشباب الانتماء إلى بلده إلى مصر ومن أسباب ذلك الفن ، فلا يوجد في الغناء مثلاً فن جاء يشبع ويطرب ، ويهز المشاعر ويرتبط به الشباب . وفي الوقت ذاته فإن ظهور ما يسمي بالفن المتطور والذي هو نسخة سخيفة من الفن الأوروبي لم يجد الشباب بداً من اللجوء إليه ، ولكنهم لم يجدوا أنفسهم فيه، والذي حدث أنه لم يجدوا في الأول تعبيراً عن واقعهم ولم يجدوا في الثاني ذاتهم ولهذا ضاع الشباب . وفي ختام رحلته مع الحياة يؤكد الموسيقار عبد الوهاب على حكمة بليغة عميقة وهي “ اتق شر من أحسنت إليه” ، ولكن يمكن لإنسان أن يكون الإحسان له مستمراً ويسئ إلى من يسئ إليه .. أعتقد أنه على الأقل لا يقدم على الإساءة خوفاً من انقطاع الإحسان عنه ، ولكن عندما ينقطع يتذكر الذل وقلة الإحسان وماعاناه نفسياً من الذل وربما النفاق والخضوع من أجل الإحسان عليه من المحسن إليه فينتقم لنفسه بالإساءة إلى من أحسن إليه .. لذلك جاءت الحكمة “ اتق شر من أحسنت إليه بدوام الإحسان إليه .. حكمة بالغة رائعة .