عندما استنفدت واشنطن كل محاولات استخراج غطاء دولي، من الأمم المتحدة، لشرعنة قرارها الإمبراطوري المأخوذ سلفا بغزو العراق، أطلق عدد من مسؤوليها مجموعة من التصريحات النارية التي كانت تدور كلها على فكرة أساسية استعلائية وحيدة، خلاصتها أن كل دولة لم تؤيد قرار الغزو في المحافل الدولية، ستندم على موقفها، وان الأمم المتحدة نفسها إذا بقيت مصرة على معارضة الغزو، ستفقد قيمتها، وتضمحل.صحيح أن الغرور الإمبراطوري كان محركا أساسيا لهذا الموقف الاستعلائي الأمريكي يومها، لكن هذا الموقف كان وراءه يومها محرك آخر هو ثقة كاملة بالنصر في العراق كانت تسيطر على فريق المحافظين الجدد على رأس هرم الإدارة الأمريكية. من هذه الثقة الكاملة بالنصر المؤكد، ولد الاعتقاد الراسخ يومها بأن الكل سيلتحق بالركب الأمريكي، عندما ترفرف أعلام النصر خفاقة عالية.وعلى أساس هذه الثقة أيضاً، تم تخطيط كل خرائط “الشرق الأوسط الجديد” الذي تحول إلى “نشيد وطني” على لسان كل مسؤولي الإدارة الأمريكية، خاصة “البلبل الصداح” لتلك الإدارة كوندوليزا رايس، على أساس أن أمريكا المنتصرة في العراق، سيكون بمقدورها (ويحق لها بصفتها المنتصرة) أن تعيد ترتيب الأوضاع السياسية في البلاد العربية ومحيطها الإقليمي، انطلاقا من العراق، طبعا بعد استتباب كل قواعد النصر الأمريكي المؤزر والمؤكد في ارض الرافدين.ومع إن بوادر النصر الضائع، والهزيمة النكراء، بدأت تلوح في أفق العراق منذ الأشهر الأولى للغزو، فان العناد الإمبراطوري ظل يتصرف في جميع إرجاء المنطقة العربية على أساس أن النصر الأمريكي قد أصبح راسخ الأركان، وما على مبعوثي واشنطن، وحلفائها والمتعاونين معها، سوى قطف الثمار اليانعة.لقد ظل هذا العناد المغرور يبدو قابلا للدفاع عنه أو تبريره، حتى تجربة دفع “إسرائيل” للقيام بدورها في رسم ملامح “الشرق الأوسط الجديد” في لبنان، كما صرحت علنا وبالفم الملآن كوندوليزا رايس في الأيام الأولى للعدوان “الإسرائيلي” على لبنان.ما جرى بعد ذلك معروف، وتطورات تفاقم الخسائر الأمريكية المباشرة وغير المباشرة في العراق معروفة أيضا، الأمر الذي ما كان له أن يمر، بالنسبة لمجتمع سياسي حيوي كالمجتمع الأمريكي، دون طرح توجه سياسي ينقذ أمريكا من الكارثة ويخرجها من الرمال المتحركة، التي لا يفعل الغرور الإمبراطوري إلا زيادة التورط فيها.وكما هي العادة في المجتمعات السياسية الحية، تجسد الصوت الأمريكي المعارض في حدثين سياسيين أمريكيين داخليين بالغي الأهمية:1- تقرير بيكر هاميلتون.2- انتخابات مجلس النواب ومجلس الشيوخ، اللذين تحولت الأغلبية فيهما من الجمهوريين إلى الديمقراطيين.لقد كان العنوان المشترك لهذين الحدثين هو الفشل الأمريكي في العراق، والبحث عن إستراتيجية جديدة للخروج بشرف من الرمال العراقية المتحركة.وبما إن خريطة “الشرق الأوسط الجديد” قد رسمت في دوائر المحافظين الجدد بناء على نصر أمريكي مفترض في العراق، وبما إن هذا النصر المفترض قد تبخر في الهواء نهائياً وعلناً الآن، فمن البديهي أن كل ما بني على هذا النصر المفترض، قد دقت ساعة سحبه من الأسواق: أسواق الدعاية، وأسواق السياسة. ولكن، بما أن الأحداث السياسية تستغرق أشهراً لتظهر، وأشهراً أخرى لتختفي، مع آثارها الجانبية، فإننا نشهد الآن في المنطقة العربية، النزع الأخير “للشرق الأوسط الجديد”، بعد أن كانت رايس تبشرنا في يوليو المنصرم بأننا إنما نشهد مخاض الولادة.ومع أن شعوب المنطقة في كل البلدان التي تشملها الخريطة الجديدة المفترضة، مثل العراق وفلسطين ولبنان والسودان ستعاني أكثر من سواها المعايشة اليومية لمسيرة “النزع الأخير” هذه، التي قد تستغرق أسابيع أو أشهرا، فإن من المفيد في هذا الوقت، مراقبة الخط البياني لخطة انسحاب النفوذ المباشر للمحافظين الجدد الأمريكيين من المنطقة العربية، على لسان الناطق بلسانهم الرئيس الأمريكي جورج بوش، الذي يقتلع الإعلام منه الاعتراف بالحقائق الواقعية للموقف (بعد ان ظل ينكرها سنوات ثلاث ونيف) كما يقتلع طبيب الأسنان الضرس من فم مريضه. لكن المهم أن نلاحظ، أن ما يصر الرئيس بوش على إنكاره اليوم، ما يلبث أن يعترف به غدا، وهكذا دواليك.تبدو مراقبة هذه المسيرة مسلية لمن يراقب من بعيد، أما شعوب البلدان العربية التي تتم على أرضها عملية المد والجزر التاريخية المؤلمة هذه، فليس امامها الا التمسك بوحدتها الوطنية، انتظارا ليوم الفرج، فهي وحدها العنصر الثابت، في دوامة هذه الأمواج العاتية الصاخبة.[c1]نقلا عن صحيفة (الخليج)الاماراتية[/c]
آخر تجارب المحافظين الجدد في منطقتنا
أخبار متعلقة