هل يمكن أن تعبر عن انفصالك التام و«المعرفي» عن فكر آخر من خلال نسبة خلافك معه إلى خانة النصيحة والعتب «والشرهة» حسب الدارجة السعودية التي تعني: غاية العتب المحب؟!أو يكون تعبيرك عن انفصالك واختلافك وتمايزك بـ«بيولوجية فكرية» من خلال خطاب يقوم على مفاهيم وعبارات فاصلة ونهائية في التمايز عنه، وليس من خلال عبارات العتب والتمني؟!مر طيف هذا السؤال في خاطري وأنا أطالع نصيحة النائب السلفي الكويتي وليد الطبطبائي الذي بدا له أن يوجه رسالة إلى «الشيخ» أسامة بن لادن، عبر صحيفة «الوطن» الكويتية (28 سبتمبر الماضي) حشاها بالنصيحة والعتب وتذكير «الشيخ» أسامة، والذي لا يخفي النائب السلفي تقديره لمشواره الجهادي وخدماته السابقة للأمة الإسلامية في أفغانستان:«وما بذلتموه وقتها من مال وجهد وبذلتم أرواحكم رخيصة في سبيل الله عز وجل، نسأل الله ألا يضيع ذلك العمل»، حسب كلام النائب، الشهير بحروبه البرلمانية المظفرة ضد الحفلات الغنائية واختلاط التعليم، وصوفية وزارة الأوقاف.هذه الرسالة /النصيحة، نموذج مثالي حول حديثنا في مقدمة المقال.فمشكلة صاحبنا هنا مع أسامة بن لادن، هو أنه لم يستشر العلماء والدعاة في أعماله، وأن خط القاعدة :«الذي تسيرون عليه أضر بالعمل الإسلامي والدعوة الإسلامية في شتى أنحاء العالم».ونصائح أخرى من هذه «النمونة» مثل أن حرب القاعدة «المطلقة» على الشرطة في العراق أدت إلى استفراد الشيعة بقوات الأمن (هو استخدم تعبير: لون مذهبي واحد)، وأن تهديد زعيم القاعدة للأمريكان سيشجع بوش على إطالة البقاء في العراق... حسب التحليل السياسي للنائب الممثل للحركة السلفية العلمية.وتخلص في النهاية، كقارئ ، إلى أن الاختلاف مع زعيم القاعدة ، حتى وإن سخنت بعض عباراته، ليس إلا خلافا على تقدير المصالح، وهو ليس اختلافا على المبادئ، وليس اختلافا على المستوى القيمي والأخلاقي، بل على المستوى الحركي والمصلحي البحت. ولو أن أعمال القاعدة لم تلحق ضررا بـ«المشروع الإسلامي» الذي تمثله الحركات والتيارات والجمعيات المالية، لما خرجت مثل هذه الرسالة أصلا، ونظائرها من الرسائل.وما دمنا في سيرة النائب السلفي النشيط وليد الطبطبائي، فلا بأس أن نتذكر، على سبيل المثال، أن النائب كان من أكثر المتحمسين للدفاع عن صديقه «الشيخ» حامد العلي، والأخير كتب يوم قتل الزرقاوي مقالا بعنوان :«الله أكبر استشهد الزرقاوي فزغردي يا سماء وابشري بالنصر». وكان العلي قد اتهم بالإفتاء لأعضاء تنظيم أسود الجزيرة الكويتي، القاعدي النهج، وقد قام أفراد هذا التنظيم بعلميات إرهابية في 2005، وكان زعيمهم عامر خليف تلميذا نجيبا للعلي، ثم أفرج لاحقا عن حامد العلي، وحينها هلل الطبطبائي بذلك بعد أن أشاد بالقضاء الكويتي الذي برأ الأمين العام السابق للحركة السلفية حامد العلي.وبصرف النظر عن الأسانيد القانونية للتبرئة، فهذا شغل محامين وحكم قضاة، لكن ما لا يبرأ العلي منه هو الأفكار المتطرفة، وجولة سريعة في موقعه (الانترنتي) كفيلة بالتعرف على أفكار هذا الرجل عن الحلول والطرق التي يجب أن يسلكها المسلمون، وليس هذا مكان التوسع في ذلك. ولكنه مكان التوسع في اصطياد هذا الخلاف المدعى والاعتدال القشري الذي يقال لنا، ويصدقه من يرغب بالتصديق.الفكرة هي، ولنغادر مثال الطبطبائي ورسالته، أن هناك كذبة تسوق للناس بوجود اختلاف جوهري بين بعض الوجوه التي نراها وبين بعض الوجوه التي تتخفى عنا في كهوف تورا بورا. صحيح أن هناك تصادم مصالح بين القاعدة وبين من يمارس العمل السياسي أو النشاط العلني في بعض الدول العربية والإسلامية، تصادم مصالح بسبب «إحراج» القاعدة لبقية العاملين هؤلاء، إذن فهو اختلاف على الحصاد وليس على البذار! أي أن الخلاف اظهر للعلن لما تبين أن النتائج ضارة ببقية الإخوة وكافة أشكال «العمل الإسلامي»، وليس خلافا منذ البدء في لحظة البذار.فمثل هذه النصائح لـ«الأخ»، أو«الشيخ» اسامة بن لادن، هي نصائح ظلت معتقة في دنان الانتظار حتى انكشف الحقل القاعدي عن هشيم تذروه الرياح، ولم تر العين إلا بئرا معطلة وقصرا مشيدا.وهذا بالضبط هو محل الخلاف، ومعقد الاختلاف. ليست المشكلة في القاعدة أنها أضرت بـ«العمل الإسلامي» أو عطلت المشاريع الدعوية، أو أربكت الجهاد في العراق أو فلسطين...الخ هذه المرافعة المكررة منذ بضعة سنوات من قبل نجوم الإسلاميين السياسيين، لا! بل المشكلة، كل المشكلة، مع القاعدة هو في بنية خطابها الفكري، والاشتباك هو مع «خيال» القاعدة، ومدينة القاعدة الفاضلة، التي لا يختلف معهم في الحلم بها من ينصحهم، إنما يختلفون معهم في سبل الوصول إلى هذه المدينة الفاضلة، لذا نجد دوما أن كل نصائح الناصحين وعتب العاتبين «وشرهات الشارهين» لا تؤثر في حجر الفكر القاعدي الصلد، لأنها تلامس سطح الحجر ولا تفتته!من نقطة البدء يكون الخلاف، وبهذه الطريقة يكون الخلاف أقل كلفة، لأنه يوفر الكثير من الجهد، بدل الدخول في التزامات وتنازلات بسبب المزايدة على طهرانية القاعدة ومجاهديها وهجائهم «المحرج» والدائم لبعد المسلمين عن الإسلام. المواجهة الحقة مع القاعدة تكون بتفكيك خطاب التعصب الديني و«أوهام الإسلام السياسي» (هذا عنوان كتاب خطير لعبد الوهاب المؤدب)، لا من خلال التلميس على فرو الوحش، بل بمواجهة هذا الوحش ووضع العين النقدية في عينه الرائبة في نبيذ الغيبوبة والانغلاق.صحيح القول بأن القاعدة والإرهاب باسم الدين هو أمر مكروه وقد تم مواجهة هذا الإرهاب بحزم وتشكل تحالف لمكافحته من قبل الحكومات العربية، رغم الارتياب بالنوايا الأمريكية، حتى ليبيا شاركت في هذه المواجهة بسبب شعورها بجدية الخطر، اقلها على عرش الحكم، فلن نتحدث عن الاكتراث الرسمي بتسبب الثقافة الدينية المتعصبة بإعاقة التحديث، فهذا، أعني التحديث والتنمية، في الغالب، ليس هموم السياسة العربية الرسمية.نحن لا نتحدث عن هذا النمط من الحرب المباشرة، فهذا أمر مفروغ منه، وأصبح من أبجديات القول، خصوصا أنه لا شك أن غالبية المسلمين ترفض الأعمال الإرهابية التي تمارس باسم الدين، ففي النهاية الناس الأسوياء تكره القتل والخراب، ولسنا بحاجة لاستطلاعات أو دراسات لتأكيد هذه المسألة، ومع هذا فقد سبق أن نشرت وسائل الاعلام خبراً يتحدث عن دراسة أجراها أحد المكاتب المتخصصة والتابع لمعهد «بي إي دبليو» في واشنطن، الدراسة أجريت في 16 دولة من مختلف مناطق العالم، وبينت أن نسبة المتعاطفين مع تنظيم القاعدة وزعيمها أسامة بن لادن، تراجعت.غير أننا لو جربنا أن نسأل الجمهور العربي والمسلم سؤالا مغايرا، ليس عن أعمال القاعدة، فالغالبية ضد عملياتها، ماذا لو سألنا الجمهور: هل تعتقد أن الدولة الإسلامية موجودة؟ وهل تعتقد أن النموذج الشرعي«الديني» موجود الآن، وإذا لم يكن موجودا هل تتمنى إيجاده؟مثل هذا السؤل سيكشف كم نحن بارعون في إخفاء المكنوس تحت السجاد بدل إلقائه للخارج!الأمور تبدأ بالسوء حينما يأتي الحديث عن تفكيك بنية التعصب الديني، هذه البنية القائمة على توليفة من الارتياب الوسواسي العربي الرسمي من أي مقاربة نقدية للذات والتاريخ والتراث والعقل السائد، فهي «تلخبط» الأمور، وتعكر السكينة، وسواس فوقي يقتات على وعي شعبي غائب ومتوتر ومحارب بشراسة هو نفسه للتغيير، رغم أنه ـ أعني الجمهور ـ هو من يقع عليه ضرر التعصب والجمود! شيء محير فعلا، وشيء يجعلك تدرك أن الأمر أكبر وأعتى من رسائل مناصحة وقتية، وبنج خطابي يرش هنا أو هناك، لا يلبث أن يزول أثره، بعد هنيهة من الوقت.التغيير يبدأ من دوائر بعيدة عن دائر «القاعدة»، تلك الدائرة الصغيرة والواضحة.التغيير يبدأ من قواعد القاعدة ! قواعد ( القاعدة ) التي انبنت عليها. وهي قواعد عريضة وكثيرة وبارزة لمن يريد أن يرى. فمن يريد أن يرى، ويدفع ثمن الرؤية، فالرؤية مسؤولية في نهاية المطاف... [c1]- كاتب سعودي[/c]
|
فكر
عيب يا«شيخ»
أخبار متعلقة