كان إعلان السوق الاقتصادية المشتركة، وحضور الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، أبرز أحداث قمة الدوحة لدول مجلس التعاون الأسبوع الماضي. أهمية اتفاق دول الخليج العربي على إقامة سوق مشتركة واضحة لأنها تحقق مفهوم المواطنة الاقتصادية لدول المجلس على أرض الواقع. كذلك أهمية حضور رئيس إيراني لأول مرة ومخاطبته للقمة في جلستها الافتتاحية. هذا ما أعلن أنه حصل في القمة. لكن ربما أن ما حصل ولم يُعلن عنه كان أكثر أهمية، أو في أسوأ الأحوال لا يقل أهمية. فحسب بعض المصادر تناولت محادثات القمة المغلقة موضوعاً لا تنقصه الإثارة لو قدر له أن يخرج إلى العلن في شكل بيان، أو فقرة في بيان. الأكيد أنه موضوع أكثر أهمية من حضور الرئيس الإيراني للجلسة الافتتاحية للقمة. أعني بذلك القدرات العسكرية لدول المجلس، وعلاقة ذلك بالأمن الإقليمي لهذه الدول. ومع أنه كان من أبرز ما تم بحثه في الجلسات المغلقة، إلا أن بيان القمة الختامي لم يتطرق إليه، على الأقل ليس بشكل مباشر. كل ما ورد في البيان عن ذلك لم يتجاوز القول إن المجلس "صادق على قرارات الاجتماع الدوري السادس لمجلس الدفاع المشترك". ماذا كانت قرارات مجلس الدفاع المشترك لم يشر البيان إلى ذلك. تجاهل البيان للموضوع لا يعني بالضرورة أن المفاوضات بين القادة لم تتطرق إليه، أو أنه لم يتم التوصل إلى شيء من التفاهمات حوله.ما هو متوفر من معلومات عما جرى داخل الجلسة المغلقة لقمة الدوحة حول القدرات الدفاعية لدول المجلس لا يعطي صورة تفصيلية عن الكيفية التي تم بها تداول هذا الموضوع، ولا عن التصورات المتوقعة لما ينبغي أن تكون عليه القدرات العسكرية لدول المجلس، أو إذا ما كان هناك من خطط مطلوبة تمت المفاضلة بينها كخيارات مطروحة. في الوقت نفسه هناك ما يشير إلى أن هذا الموضوع كان حاضراً ليس فقط في قمة الدوحة، بل في قمم أخرى. نحن نعرف مثلاً أن الهاجس الأمني كان الدافع الأول لإنشاء مجلس التعاون، وبالتالي لابد وأن هذا الهاجس حاضر في كل اجتماعات المجلس على المستوى الوزاري، أو مستوى القمة. ونعرف أيضاً بأن الكويت تقدمت في قمة الرياض العام الماضي بورقة عن الاستراتيجية الأمنية، وأنها كلفت آنذاك بإعداد ما تراه من خيارات أو أفكار حول سبل معالجة اختلال توازن القوة في المنطقة أمنياً وسياسياً. أما قمة الدوحة، فيبدو أنها ذهبت أبعد من ذلك. حيث ذكرت مصادر شاركت في القمة لصحيفة "الحياة" بأن القادة الستة تداولوا في جلسة العمل الأولى "حول موضوع التوازن الإقليمي المطلوب للحد من تهديدات المخاطر الأمنية على ضوء الأفكار والتصورات الأولية التي توصل إليها وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء أجهزة الأمن الوطني بعد اجتماعهم خلال الستة شهور الماضية." وأضافت الصحيفة أنه "كان هناك اتفاق على ضرورة تعزيز القدرات العسكرية الذاتية والمشتركة لدول مجلس التعاون، وتطوير أسلوب عمل قوات درع الجزيرة وفق الاقتراحات التي سبق أن قدمتها السعودية،... وهذا في إطار العمل وفق استراتيجية جديدة للأمن الإقليمي تركز على تعزيز القدرات الأمنية والدفاعية الذاتية، والتخفيف من الاعتماد على دور القوى الكبرى في تحقيق التوازن العسكري والسياسي في المنطقة." تجدر الإشارة إلى أن صحيفة "الحياة" وضعت هذا التصريح بين مزدوجتين، مما يعني أنه نقل حرفي لما قاله المصدر المشارك في القمة.هنا لابد من ملاحظة أن تصريح المصدر الخليجي تضمن ثلاثة تعبيرات جديدة، لم تكن يوماً من مفردات خطاب المجلس. وإذا افترضنا دقة ما نقلته صحيفة "الحياة"، ودقة ما ذكره المصدر لها عما دار في جلسات القمة حول هذا الموضوع، نكون أمام مؤشرات على تغير متوقع في الاستراتيجية الأمنية لدول مجلس التعاون. وبالعودة إلى فكرة التعبيرات الثلاثة الجديدة والمهمة نجد أن التعبير الأول كان اعتراف مجلس التعاون بوجود "خلل في توازن القوة في المنطقة"، وهو اعتراف جديد، لم يكن يتم التطرق له من قبل. ليس واضحاً ما هو المعنى الذي أعطي لهذا التعبير في المداولات المغلقة التي تمت حوله. لكن المعروف أن المصدر الأساسي لاختلال توازن القوة في منطقة الخليج العربي كان ولا يزال أن دول مجلس التعاون، وتحديدا السعودية بإعتبارها الأكبر والأقوى، اختارت أن لا تملك القدرات العسكرية والأمنية التي تسمح لها بموازنة إيران والعراق. وقد استعاضت عن ذلك بمظلة الأمن الأميركي كعامل توازن مع العراق وإيران. كان ذلك حتى قبل الغزو العراقي للكويت عام 1990م. للوهلة الأولى قلب احتلال العراق للكويت موازين القوة في المنطقة بشكل حاد لصالح النظام العراقي، وعلى حساب دول مجلس التعاون وإيران، بل والولايات المتحدة نفسها. لكن سرعان ما انقلب الوضع نتيجة لحرب "عاصفة الصحراء" بقيادة واشنطن، وهي الحرب التي حررت الكويت من الاحتلال. عندها أصبحت أميركا القوة المهيمنة في المنطقة، من خلال تواجدها العسكري المكثف في الخليج لأول مرة في التاريخ. ثم جاء الاحتلال الأميركي للعراق بعد ذلك ليخرج هذا البلد العربي من معادلة توازن القوة في المنطقة جملة وتفصيلاً. وبما أن دول الخليج بقيت ضعيفة عسكرياً وخارج توازنات القوة الإقليمية، أصبحت هذه المعادلة بعد خروج العراق محصورة حالياً بين إيران والولايات المتحدة. بعبارة أخرى، أصبح الطرف العربي في الخليج خارج لعبة توازنات القوة في المنطقة. وهذا يمثل خللاً واضحا يحمل معه مصدر تهديد لأمن واستقرار دول المجلس. وبسبب هذا الخلل تجد هذه الدول نفسها تحت رحمة تطورات الصراع بين إيران والولايات المتحدة. هل هذه هي الصورة التي يشير إليها المصدر في حديثه عن اختلال توازنات القوة في المنطقة؟ إذا كان هذا هو المقصود، وأنه كان موضوعاً لما تم التداول حوله في القمة وقبلها، نكون أمام مؤشر مهم يبرر توقع تغير قادم في رؤية دول مجلس التعاون لمسألة أمنها الإقليمي.التعبير الجديد الثاني في تصريح المصدر هو ما ذكره عن ضرورة "تعزيز القدرات العسكرية الذاتية والمشتركة لدول مجلس التعاون". ليس واضحاً على وجه التحديد المعنى المقصود بـ"تعزيز القدرات العسكرية" هنا. هل المقصود زيادة المخزون من العتاد وأنظمة التسليح؟ أم أن المقصود يتجاوز ذلك إلى زيادة حجم القوات المسلحة، بما يتناسب مع حجم دول المجلس وأهميتها، وحجم احتياجاتها الأمنية، وحجم الخلل الذي تعاني منه معادلة توازن القوة في المنطقة؟ هذه وغيرها أسئلة تبقى من دون إجابة واضحة. لكن أن تبدأ دول المجلس بالتفكير والحديث عن حاجتها لتعزيز قدراتها العسكرية في إطار الاعتراف بخلل في توازنات القوة في منطقة الخليج يعتبر شيئاً جديداً، ومؤشرا على تغير في الرؤية، وربما في السياسات أيضاً.التعبير الجديد الثالث هو قول المصدر في التصريح المذكور وفي سياق حديثه عن أهمية "التخفيف من الاعتماد على دور القوى الكبرى في تحقيق التوازن العسكري والسياسي في المنطقة". يمكن القول بأن هذا التعبير تحديداً هو من أكثر التعابير الثلاثة التي وردت في التصريح جدة وحداثة، بل وأكثرها أهمية. يشير هذا التعبير من ناحية إلى شعور بأن مظلة الأمن الأميركي لم توفر الاستقرار الإقليمي المنشود، بل ربما أصبحت مصدراً لعدم الاستقرار. ففي ضوء خروج العراق من المعادلة الأمنية، والضعف العسكري لدول الخليج، وإصرار إيران على تعزيز ترسانتها العسكرية، بما في ذلك احتمال توجهها نحو امتلاك سلاح نووي، تجد دول المجلس نفسها أمام نتيجة مزدوجة: أولاً أن مظلة الأمن الأميركي عامل أساسي فيما آلت إليه صورة توازنات القوة في المنطقة. ثانياً، أن الضعف العسكري لدول الخليج، واعتمادها المطلق على هذه المظلة، عامل أساسي آخر، وربما ساعد أكثر من غيره، في أن تأخذ التطورات السياسية والأمنية في المنطقة المنحى الذي انتهت إليه. انطلاقاً من ذلك قد يشير هذا التعبير الثالث إلى أن دول مجلس التعاون بصدد مراجعة جادة لهذا العنصر الأساسي من استراتيجيتها الأمنية. وإذا ما حصل هذا، وانتهى إلى تغير ملموس، فإنه يمثل انقلاباً استراتيجياً. السير في هذا الاتجاه يتطلب أموراً كثيرة، أبرزها أن تغير هذه الدول من نظرتها للمؤسسة العسكرية فيها، وللحاجة في الظروف الراهنة إلى تطوير هذه المؤسسة، وتعزيز دورها في الاستراتيجية الأمنية الإقليمية. هل هذا ممكن؟ وما هي مردوداته على دول المجلس؟[c1]* عن/ صحيفة (الاتحاد) الإمارتية [/c]
دول الخليج تعيد النظر في استراتيجيتها الأمنية
أخبار متعلقة