لا شكّ أن الأوضاع على الساحة الفلسطينية، بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لن تكون كما قبلها، لا على صعيد عملية التسوية، ولا بالنسبة الى شكل النظام السياسي، ولا بالنسبة الى العلاقة بين حركتي «فتح» و «حماس».فبعد هذه الحرب الوحشية المدمرة، لم يعد من المقبول فلسطينيا وعربيا، استمرار المفاوضات بالطريقة السابقة، التي حوّلتها إلى مجرد عملية علاقات عامة لا نهاية لها، تستمر إسرائيل تحت غطائها بفرض الأمر الواقع، بالاستيطان وتهويد القدس والجدار الفاصل ومحاصرة غزة. وقد نجمت عن ذلك، حتى الآن، مواجهات عسكرية عنيفة بين الطرفين، منذ اندلاع الانتفاضة الثانية (2000)، التي نجمت عنها معاودة احتلال مناطق السلطة في الضفة، وشن حرب مدمرة ضد غزة. هذا بالنسبة الى خيار السلطة. أما بالنسبة الى حركة «حماس»، فإن الحرب الأخيرة بيّنت الثمن الباهظ الذي يمكن أن تجبيه إسرائيل من الفلسطينيين، في حال استمروا بالمقاومة وفق الطريقة السابقة (بالصواريخ)، من دون توفير غطاء أو ردع عربي لإسرائيل.وعلى صعيد نظامهم السياسي فإن الفلسطينيين يواجهون استحقاق إعادة اللحمة إلى كيانهم، وإعادة بناء نظامهم السياسي، بما في ذلك المنظمة والسلطة، بعيدا عن التجاذبات الفصائلية والتوظيفات الإقليمية، وعلى أسس ديموقراطية تعددية، وعلى قاعدة التمثيل وصناديق الاقتراع. فمن الواضح أن هذه الحرب أنهت تماما احتكار حركة «فتح» للقيادة والشرعية، في السلطة والمنظمة، وأكدت أنها لم تعد وحدها صاحبة القرار في ما يتعلق بالخيارات السياسية الاستراتيجية. كما بينت هذه الحرب أن الانقسام شكل أكبر خدمة لإسرائيل، إذ أضعف الفلسطينيين، وشغلهم عن الصراع ضد عدوهم، وسهّل على إسرائيل الاستفراد بقطاع غزة وحصاره، والتنكيل به.أما بالنسبة الى العلاقة بين حركتي «فتح» و «حماس»، فيمكن القول إن هذه الحرب هي بمثابة معركة «كرامة» ثانية، بالنسبة الى «حماس»، في استعادة تاريخية لمعركة «الكرامة» في الأردن (1968) قبل أربعين عاما، والتي قررت فيها قيادة «فتح» التصدي للهجوم الإسرائيلي. وقد شكلت هذه المعركة تاريخا فاصلا في العمل الفلسطيني، حيث انتصر تيار الكفاح المسلح، وصعدت «فتح» (بقيادة أبو عمار)، إلى سدّة القيادة وإلى رئاسة منظمة التحرير، ولا تزال. ويبدو أن الساحة الفلسطينية كانت بحاجة الى «كرامة» ثانية، أو إلى صدمة كبيرة، بقدر الحرب الوحشية التي شنّتها إسرائيل ضد غزة، لاختبار خيار «حماس»، و «تطويب» دورها في القيادة، ذلك أن الشرعية القيادية في هذه الساحة الشعبوية لا تأتي من صناديق الانتخابات أو من سلامة الخطابات، بقدر ما تأتي من مجال الصراع ضد إسرائيل.مع ذلك يبدو واقع «حماس» الآن غير واقع «فتح» قبل أربعين عاما، فحينها لم يكن ثمة منافس قوي لـ «فتح» على المستوى الجماهيري، وتجربة المقاومة المسلحة في بداياتها، والمعطيات العربية لصالحها، وهي لم تفرض هيمنتها بالقوة العسكرية، كما حصل عندما سيطرت «حماس» على غزة (2007). وهذه التعقيدات تزيد من صعوبة توجه هاتين الحركتين نحو حل معضلة القيادة، أو المشاركة في القيادة، لا سيما في ضوء تباعد الخيارات السياسية، وغياب الثقة بينهما، اذا لم ترافق ذلك ضغوط شعبية وعربية قوية.المشكلة أيضا أن مشروعية سعي «حماس» لتعزيز مكانتها القيادية، لا تزيد عن مشروعية «فتح»، من أوجه عدة، ما يتطلب منهما إبداء مرونة متبادلة لخلق نوع من التوازن والشراكة في النظام الفلسطيني. فقد انتهى عهد الاحتكار والتفرد، وما لم يعد مقبولا من «فتح» لن يكون مقبولاً من «حماس» أيضا. وبديهي أن البديل عن التوافق بين «فتح» و «حماس» على تشكيل حكومة، وإعادة بناء منظمة التحرير، يعني استمرار التنابذ والاتهام والانقسام وربما التقاتل، ما يفيد إسرائيل ويضر بقضية الفلسطينيين.بعد هذه الاستحقاقات الفلسطينية، ثمة سؤال يطرح نفسه على حركة «حماس»، من موقعها في القيادة، فهل ستستأنف هذه الحركة إطلاق الصواريخ من القطاع على المدن الإسرائيلية؟ وما هي استراتيجيتها السياسية والعسكرية للمرحلة المقبلة؟واضح أن «حماس»، وعلى صعيد الصراع مع إسرائيل، ستقف أمام واحد من خيارين، فإما استئناف إطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية المتاخمة لغزة، كونه الشكل الوحيد، أو الغالب، الذي تترجم به مقاومتها لإسرائيل حاليا، أو اعتبار المرحلة القادمة بمثابة هدنة، أو تهدئة طوعية، لاعتبارات تتعلق بإدارة معركة إعمار غزة، وأيضا لترجمة ما تم تحقيقه من صمود، على الصعيد السياسي، لاسيما على صعيد اكتساب الشرعية على مختلف المستويات الدولية والعربية والفلسطينية.وعلى الأرجح فإن «حماس» ستأخذ بالخيار الثاني لالتقاط الأنفاس، ولإدراكها تبعات استئناف إطلاق الصواريخ عليها، وعلى أهالي القطاع، ولخوض معركة الشرعية. وقد أكد على ذلك خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي للحركة (في خطاب ألقاه يوم 21 من الشهر الماضي)، حيث اعتبر أن حركة «حماس» التي اكتسبت شرعيتها من صناديق الاقتراع، اكتسبتها مجددا في النصر الذي حققته بصمودها في غزة.اللافت أن هذا التوجه الى الداخل يذكّر بتداعيات حرب تموز (يوليو) 2006 في لبنان، التي أدت، فيما أدت إليه، إلى تحويل جهد «حزب الله» من التركيز على مقاومة إسرائيل إلى الانخراط أكثر في تعقيدات اللعبة السياسية اللبنانية. وهكذا يبدو أن «حماس» تمر بأعراض «حزب الله» نفسها، من جهة تصريف جلّ طاقتها في الداخل الفلسطيني، على الغالب، بعد أن باتت حدود الصراع مع إسرائيل معروفة ومحسوبة.أما في حال اختارت «حماس» الاستمرار بإطلاق الصورايخ، على قاعدة جعل القطاع منصّة لتحرير فلسطين، على غرار «هانوي» بالنسبة الى فيتنام، أو على طريقة جنوب لبنان، بالنسبة الى «حزب الله». وبغض النظر عن وجاهة مثل هذه الفكرة أو تلك، من عدمها، فهكذا استراتيجية تبدو من دون أفق، ذلك لأن إسرائيل لن تورّط نفسها، على الغالب باحتلال القطاع مجدداً، لأنها لا تريد تحمّل عبئه السياسي والأمني والاقتصادي، بعد أن تحررت من هذا العبء بانسحابها الأحادي منه عام 2005.ولعل البديل بالنسبة الى إسرائيل عن معاودة الاحتلال المباشر بات معروفا، ويتمثل باستمرار الحصار المشدد على القطاع وإغلاق معابره، وزيادة صعوبات العيش على سكانه المليون ونصف مليون شخص، وأيضا استمرار إعمال التدمير والتقتيل فيه، بين فترة وأخرى، على ما جرى في أوائل العام المنصرم، أو على غرار ما جرى في حرب الـ22 يوماً الأخيرة.وبالنسبة الى فكرة جعل القطاع قاعدة للمقاومة (بالمعنى الهجومي وليس الدفاعي)، لتحرير فلسطين، أو لدحر الاحتلال من الضفة، فهي تحمّل القطاع أكثر مما يحتمل، وتدخله في مواجهات تفوق قدرته، لاسيما أن اعتماده على الموارد الخارجية التي تتحكم بها إسرائيل، وموقعه الجغرافي، لا يتيحان له ذلك. فضلاً عن أن هاتين العمليتين تقعان على عاتق الشعب الفلسطيني كله، وليس على القطاع وحده، كما تحتاجان الى وضع عربي مناسب، وظرف دولي مواتٍ.ولعل شرط تحويل القطاع إلى منصّة يحتاج لكبح جماح آلة إسرائيل العسكرية المدمرة، من خلال وجود دولة عربية واحدة، على الاقل، قادرة على ردع إسرائيل عن البطش بالفلسطينيين، وهو غير متوفر. كما أن هذا الأمر يتطلب زمنا آخر، أي زمن التحرير، وليس هذا الزمن. لذا من غير المعقول الذهاب نحو هذا الخيار الذي يبرر لإسرائيل استباحة غزة بين وقت وآخر، تحت هذه الذريعة أو تلك، وتدميرها، ثم نتحدث عن صمود المقاومة! أما الحديث عن أن قدر غزة تحمل الدمار، كما جرى للندن أو ليننغراد في الحرب العالمية الثانية، فهو في غير محله، فهذه المدن كانت تخوض حربا حاسمة ونظامية، وتدافع عن بلد أو شعب بأكمله، في حين يخوض الشعب الفلسطيني مقاومة شعبية ممتدة في الزمان والأشكال، ولا يمكن حسمها بضربة واحدة.والخلاصة أن صمود غزة يتطلب أفقا سياسيا ممكنا، حتى لا يجري تبديده، وحتى لا يتحول القطاع إلى حقل رماية، أو معمل فخّار، لآلة التدمير الإسرائيلية.النتيجة من ذلك أن «حماس» والقوى الفلسطينية الاخرى، معنية بفتح السؤال عن مكانة قطاع غزة في العملية الوطنية، وصوغ الاستراتيجية المناسبة للتعامل مع القطاع. فمع التأكيد على أهمية تدعيم المقاومة لصد أية اعتداءات إسرائيلية مستقبلا، فثمة إمكانية لتحويل القطاع إلى نموذج للدولة المنشودة، أي تحويله الى نموذج في الوحدة الوطنية، وبناء النظام السياسي، وإعلاء شأن القانون، والتنمية والتعليم والخدمات، كي يكون ذخرا للضفة في سعيها لدحر الاحتلال، وبخاصة أن العملية الوطنية الفلسطينية ذات وجهين تحرري وبنائي.[c1]* كاتب فلسطيني[/c]
|
فكر
خيارات «حماس» بعد الحرب: هدنة طوعية أو مقاومة مفتوحة
أخبار متعلقة