منصور مبارك تؤسس أحداث مومباي تقليداً جديداً يقضي بأن كل دولة مرشحة لأن يحدث «حادي عشر من سبتمبر» خاص بها. وقد امتد ذلك التعميد بالدم والبارود ليشمل دولاً عديدة في أكثر من قارة. لكن ما جرى في مومباي كان فريداً من نوعه، ومختلفاً عن إرهاب مماثل له بالأهداف والأدوات. فقد استمرت العمليات الإرهابية في فندقي «تاج محل» و«ون أبوروي»، لما يزيد على الستين ساعة، وهو زمن طويل نسبياً في نوعية العمليات الإرهابية. الأمر الآخر، إن السلطات الهندية لديها قناعة مسبقة وتجارب ماضية ولدت حكما جاهزاً خلاصته أن لسعات الإرهاب التي تتلظى بها إنما مصدرها الباكستان. والبلدان خاضا أكثر من حرب وعلاقتهما يكتنفها على الدوام البرود والعداء، والأخطر من ذلك أنهما يمتلكان صورايخ بعيدة المدى مجهزة برؤوس نووية موجهة تجاه بعضهم، لذلك فإن أي أزمة تندلع بينهما تعتبر تهديدا للسلم العالمي برمته. العداء الهندي الباكستاني ضارب في التاريخ، ويعود إلى سنوات التقسيم وحروب الاستقلال. فالهند ترى في طبيعة الدولة الباكستانية القائمة على أساس ديني تهديداً لفكرة الوطن المتعدد الأديان والقوميات الذي تجسده. ولذلك، فقد دأبت الهند على توجيه الاتهام تلو الآخر لجارتها بتشجيع العنف ورعايته للضغط عليها فيما يتعلق بولاية كشمير، وتجنيد حركات إرهابية مثل «عسكر طيبة» ودعمها لتنفيذ أهداف سياسية. فشخصية من نوع حفيظ محمد، قائد تنظيم «عسكر طيبة»، يحظى بعلاقات وطيدة مع المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية الباكستانية. تذكر تقارير موثوقة أن الحكومة الباكستانية قد أجازت له مؤخراً استيراد سيارة مصفحة للحفاظ على أمنه وسلامته. والحقيقة فإن ثمة هوة واسعة تفصل المؤسسة العسكرية عن الحكومة المدنية في الباكستان فيما خص قضايا التحديات الخارجية والعلاقات مع دول الجوار. ومن نافلة القول إن الصراع مع الهند وقضية كشمير لهما الأولوية لدى المؤسسة العسكرية. وآية ذلك معارضتها لإعلان رئيس الوزارة يوسف رضا جيلاني بإيفاد مدير المخابرات الباكستانية اللواء أحمد شجاعة باشا للهند واستبداله بموظف صغير. فضلاً عن ذلك، اتضح من سلسلة الأحداث التي عصفت بالباكستان مؤخراً أن الحكومة المركزية في إسلام أباد قد ارتخت سيطرتها على شمال البلاد وأخفقت في تفكيك الشبكات والمنظمات الإرهابية والجهادية في البلاد. كل ذلك يجعل الأصابع الهندية تتجه دوماً إلى الباكستان، غير أن تلك ليست سوى جزء من الحقيقة، إذ إن للهند نصيبها من المسؤولية، فهي تضم ما يقارب المائة وخمسين مليون مسلم يعاني السواد الأعظم منهم ظروفاً اقتصادية طاحنة شأنهم في ذلك شأن المعدمين الهندوس، ولم تمسسهم آثار الطفرة الاقتصادية التي شهدتها الهند مؤخراً. وعلى الرغم من أن مشكلة إقليم كشمير يحيط بها تعقيد تاريخي وسياسي وديموغرافي، إلا أن الاضطهاد المنظم الذي يسام به سكانها من المسلمين، قد فاقم من أبعاد الصراع الهندي الباكستاني. فهذا الجرح الملتهب قدم للمنظمات الإرهابية جيلاً جديداً من الجهاديين ينتمون إلى سلالة مختلفة، إذ إنهم من أبناء الطبقة الوسطى ممن نالوا حظهم من التعليم - كأولئك الذين نفذوا عمليات تفجير القطارات مؤخرا - فهؤلاء ليسوا كالإرهابيين التقليديين ممن تخرجوا من المدارس الدينية، قدموا من القرى حيث زرعت برؤوسهم أفكار متطرفة، بل على النقيض من ذلك، فهم شباب استبدّ به الغضب على ما يراه اغتصاباً لحقوقهم واضطهاداً يصب على رؤوس المسلمين في غير بلد، من فلسطين حتى افغانستان، وكشمير في مركز القلب من ذلك. ولو أن الحكومات الهندية المتعاقبة التزمت بالصيغة الكاملة لمبدأ الحكم الذاتي الذي أسبغته على كشمير، أو تنفيذ الوعد الذي قطعه جواهر لال نهرو في الأمم المتحدة بإقامة استفتاء يحدد مصير كشمير، لحقنت دماء كثيرة. ما سبق لا يقترح أعذاراً للإرهاب والعنف. فالهند لم تستهدف لكونها بلدا يضطهد أقلية دينية فيه، بل لكونها أكبر ديمقراطية في العالم تخضّها الآن متغيرات اقتصادية، وتحتضن انفتاحاً ثقافيا، وحرية سياسية يندر أن تتمتع بها دول في محيطها، فالإرهاب يمقت الانفتاح والحرية والديمقراطية، ولكن ما نعيشه الآن ونشهده إرهاب من نوع مختلف، فأحداث مومباي وإن كانت تحمل بصمات تنظيم القاعدة في التكتيك والتخطيط واختيار الأهداف، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أنه تمّ بإشراف مباشر ومنها. وهنا لب إشكالية الإرهاب وجوهره. فالقاعدة ليست كباقي الحركات الإرهابية التي انتعشت في الماضي، فهي كيان جديد، لا تتحرك كتنظيم حديدي محاط بالسرية، تسري فيه التعليمات والأوامر على نحو هرمي، بل هي أشبه ما تكون بـ«فرنشايز» إرهابي، حيث جماعات وأفراد من مختلف أصقاع الأرض تتصل بالقاعدة كي تحصل على التدريب والعتاد، ليصبح بمقدورهم تأسيس فروعهم المحلية والتي بطبيعة الحال ستعكس أهدافهم وأساليبهم أيديولوجية القاعدة، بل إن بعض تلك التنظيمات قد يحاكي تنظيم القاعدة من دون أن يقيم معه أي صلة أو يجتهد في نيل رضاه، ولكنه قد يلجأ إلى اتباع تكتيكات القاعدة وأساليبها. ومن حيث الجوهر، فإن أعضاء هذه التنظيمات سيكونون من المدنيين ويعيشون حياة طبيعية، فهم ليسوا مقاتلين بالمعنى الدقيق للكلمة، ولا يرتدون زيا عسكريا، ولذلك فإن من الصعب محاربتهم بالأساليب العسكرية التقليدية، فهم أشبه ما يكون بالنباتات التي تتمدد أفقيا فوق التراب وتضرب بجذورها في غير مكان، فهي تولد في أكثر من دولة وتترعرع في دول أخرى. إنها أمارة على أن الإرهاب قد دلف أيضا أبواب العولمة. * كاتب كويتي
|
فكر
أحداث مومباي.. وعولمة الإرهاب
أخبار متعلقة