في هذا المقال، طواف بحارات التاريخ، وتجوال في دكاكين عطور التراث، اجمعها في «صرة» موشاة بعبق الماضي، وأهديها للمرأة العربية والمسلمة، بمناسبة يوم المرأة العالمي...قال الأولون: التراث حمال أوجه.في هذا التراث، تراث أكثر من ألف وثلاثمائة، عام شاملا الشعر والحكم وبعض الآراء الفقهية والسياسية، تجد صورا عن المرأة يستحيل أن تساعد الآن على فكرة «حقوق المرأة» الحديثة، بل هي ضدها وعليها، وتثبتها، أي المرأة، ضمن الإطار الاجتماعي القديم: بطنها وعاء وثديها سقاء.ويصبح حدها، كما قال احد الشعراء القدماء منتقدا حرص بعض النساء على تعلم فن الكتابة:[c1]ما للنساء وللكتابة والعمالة والخطابة هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابة ! [/c](بالمناسبة هناك طرفة شهيرة تروى عن رئيس احد البرلمانات العربية انه قال شيئا مشابها لهذا الكلام لإحدى النائبات في المجلس حينما طالبت بحقها في الحديث!) والنساء، مخلوقات لوظيفة محددة، ونحن مجبرون على التعاطي مع هذا الكائن للحاجة، كما قال الشاعر الآخر: [c1]إن النساء شياطين خلقن «لنا» نعوذ بالله من شر الشياطين[/c]ولاحظ استخدام: «لنا»! وهي «شيطانة» في صورة إنسان، ولا يعول عليها في رأي أو شأن جاد من شؤون الحياة، وتجد عشرات العبارات والمأثورات والحكايات التي تعزز، في خلاصتها النهائية، صورة محدودة ودورا فقيرا للمرأة في الحياة، فهي متعة لفراش زوجها، وأم لأطفالها، ومصلية صائمة، وربما جلبت ماء أو حصدت زرعا، وفقط.لكن، مهلا!، فنفس هذا التراث الذي نجد فيه هذه الصور المعيقة لإمكانية أن تجد المرأة لها مكانا معنويا واعترافا ثقافيا بها، هو نفسه الثراث الذي نجد فيه شذرات أخرى لا تمضي في هذا المسار المجحف في حق المرأة.أشعار، وحكم، ومأثورات، وحكايات تقف موقفا ايجابيا، ضمن شروط عصرها.. بل ربما عصرنا أيضا! مع المرأة.وهذا المفسر الكبير، الفخر الرازي ( توفي سنة 606 هجري) وهو احد علماء الشافعية يقول، كما ينقل عنه العلوي: «إن تستر المرأة فيه حرج لأن المرأة لا بد لها من مناولة الأشياء بيدها، والحاجة إلى كشف وجهها في الشهادة والمحاكمة والنكاح». (المستطرف الجديد 384).وهو نص لو قاله احد الكتاب اليوم، بنفس الصراحة، في إحدى الصحف المصرية، دعك من السعودية أو الكويتية، لقامت عليه الدنيا ولم تقعد. وسبب هذه الراحة التي يتحدث بها أمثال الرازي، أن الجو حينها لم يكون مشغولا بثنائيات مدمرة مثل: العلمانية والإسلامية، الأصالة والمعاصرة، الخصوصية والعولمة.... الخ.وهذا الخطيب البغدادي (توفي 436 هجري) ينقل في تاريخه عن الصحابي عبد الله بن عمر أن الرجال والنساء في عهد النبوة كانوا يتوضأون جميعا؛ أي مختلطين.والشيخ الأزهري عبد الحليم أبو شقة يحدثنا في كتابه الكبير (تحرير المرأة في عصر الرسالة) عن صورة امرأة مسلمة ولكنها ليست سلبية أو مسلوبة الإرادة، ولا معزولة عن السياق العام، وجمال وقوة كتابه ومرافعته الطويلة، خصوصا مع العقلية النقلية، انه اشترط على نفسه الاستشهاد بنصوص القرآن والسنة الصحيحة والاجتهادات الفقهية المعروفة، وبعد قراءة كتابه بهدوء، تخرج من كتابه بنتائج مختلفة تماما عن الصورة البائسة التي يريد كثير من الأصوليين، ومعها الثقافة الاجتماعية السائدة في بعض البلدان العربية عن المرأة، وباسم الدين! مثلا، تخرج من طرح الشيخ أبي شقة، بأن اختلاط المرأة بالحياة العامة شيء طبيعي في العهد النبوي، وأنه لم يكن من حجر على المرأة في غشيان الأسواق والشوارع والمنتديات العامة والمشاركة بالرأي، فمن أين أتانا المتوترون بمسلسل الرعب المسمى: الاختلاط! وهنا، وسعوديا أتحدث، كم كان جميلا، على تأخره كثيرا، ما صنعه القائمون على معرض الرياض الدولي الأخير للكتاب، بإلغاء هذا العرف" الدخيل " حقا ! وهو عرف تخصيص يوم لتسوق النساء ويوم لتسوق الرجال، بينما هم مختلطون في المسجد الحرام نفسه منذ ما قبل الإسلام، وجاء الإسلام ولم يغير شيئا، وظل الأمر كذلك، بل اشتهر الشاعر الأموي الشهير عمر بن أبي ربيعة بكثرة ذكره للنساء الجميلات في جنبات الحرم، ولم يعرف أن السلطات أو الفقهاء قرروا الفصل بين النساء والرجال في الحرم من اجل غزليات عمر بن أبي ربيعة، وكانت الحادثة الوحيدة المعروفة هي من فعل والي مكة الظلوم الدموي خالد القسري، وكانا واليا للخليفة الاموي عبد الملك بن مروان، وسبب ذلك كما يذكر المسعودي في تاريخه "مروج الذهب " أن:" أن خالد القسري والي مكة زمن عبد الملك بن مروان سمع منشدا ينشد:[c1]ياحبذا الموسم من موقف وحبـذا الكعبــة من مسجدوحبذا اللائي يزاحمننا عند استلام الحجر الأسود[/c]فقال القسري: أما إنهن لن يزاحمنك أبدا... وفرق بين الرجال والنساء في الطواف!طبعا هذا الإجراء ليس كله لمزيد ورع وتقوى عند هذا الوالي، فهو من أكثر الولاة الأمويين، بالإضافة للحجاج طبعا، الذين ظلموا، وقيل فيه نقد كثير من قبل الفقهاء وعلماء الدين ،لكنه إجراء تعسفي ونفاقي . ومخالف لما كان يجري، منذ عهد الرسول إلى وقت القسري هذا نفسه !هذا الدجل والتمثيل من خالد القسري هذا هو الذي يلوث التطور الطبيعي او يغتال عفوية الأشياء، كما صنع الخليفة العباسي القاهر بالله الذي يذكر عنه المؤرخ مسكوية في كتابه تجارب الأمم انه في سنة 321 للهجرة خرج أمر القاهر بتحريم القيان والخمر وسائر الانبذة، وقبض على من عرف، وتم نفيهم، وكان القاهر-مع ذلك - مولعا بشرب الخمر، ولا يكاد يصحو من السكر، ويسمع الغناء، ويختار من جواري القيان ما يريد.( المتسطرف الجديد15).وعلى عكس ما فعله الوالي القسري، نجد صورة أخرى، في نفس المكان، الحرم المكي، وفي نفس الزمن، العهد الاموي، حيث تحدث قصة اخرى ترويها لنا كتب التاريخ، ومنها شرح نهج البلاغة، ان الفقيه المعروف ابا حازم، سلمة بن دينار، كان يطوف بالكعبة فسمع امرأة حاجة ترفث في كلامها فقال: يا أمة الله، ألست حاجة؟! ألا تتقين الله!؟ فسفرت المرأة عن وجه صبيح، ثم قالت له أنا من اللواتي قال فيهن العرجي (الشاعر): [c1]أماطت كساء الخز عن حر وجهها وردت على الخدين بردا مهلهلا من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلــن البريء المغفـــلا ![/c]عندها قال أبو حازم: فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنا! فبلغ ذلك سعيد بن المسيب (من كبار العلماء في وقته) فقال: رحم الله أبا حازم، لو كان من عباد العراق لقال لها: اغربي يا عدوة الله، ولكنه ظرف نساك الحجاز!هذا الظرف الذي تحدث عنه سعيد بن المسيب، وفعله الفقيه أبو حازم، هو ظرف يفتقده كثير من المتدينين اليوم. ماذا نريد أن نقول من هذا كله؟!لقد آثرت ترك الحديث عن واقع المرأة العربية اليوم، وتقصي حالتها الحقوقية وقياس مدى تقدمها في الحصول على حقوقها، القانونية والاجتماعية والسياسية والإعلامية والتعليمية، فهو حديث طويل، ومهم، وكتب فيه، وسيكتب، متخصصون ومتابعون في ذلك، كما أن المتابع لا يستطيع أن يصدر حكما واحدا على «المرأة العربية» في مسألة نيلها لحقوقها، فهناك تفاصيل واختلافات كثيرة، وتباين في وتائر التقدم والتخلف في هذه المجالات، فمثلا المرأة في مصر، حسبما يرى كثيرون، تخلت عن بعض حقوقها وتراجعت وضعيتها بالقياس للعهد الملكي أو حتى للعهد الناصري...لكننا نجد نماذج أخرى، لمجتمعات ودول عربية، أتت بأشواط كثيرة خلف مصر، اعني دول الخليج تحديدا، لنرى وتائر أخرى للتقدم، بعضها مرضي وبعضها محبط، ولكن في المجمل هناك حركة، وربما لا يوافق البعض إذا ما قلت إنه: رغم حالة التشنج التي تصيب البعض إذا ما تم الحديث عن قضية المرأة في السعودية، وحالة الترهيب التي تمارس على من يتناول قضيتها، فان وضع المرأة هناك يتقدم ولا يتخلف! بالقياس إلى معايير كثيرة، فها هي تعيد طرح نفسها وتقارع من يريد حبسها في الصورة النمطية القديمة، وها نحن نرى نساء سعوديات سيدات أعمال، ونرى مثقفات، وإعلاميات، وغير ذلك، ونرى محاولة حكومية لمجاراة التطور في المجتمع السعودي في موضوع المرأة حول مسائل مثل حماية المرأة من العنف، ومنحها حقها في العمل، صحيح أن بعض الخطوات حوربت وتعثرت مثل توظيف النساء في مجال بيع الملابس النسائية، ولكن هي حالة حراك وليست حالة جمود، ويجب ان نتوقع مقاومة ممن يرون انهم حماة الفضيلة «الموهومة» مستندين إلى إثارة هواجس قابعة في أعماق المجتمع الرجالي حول تقدم المرأة، هذا شيء طبيعي ومخاض متوقع لكن يجب التصميم، والتوعية، وتحرير الدين من التوظيف في قضايا «حمالة أوجه» بطبيعتها.ولعل في الشذرات التراثية السالفة، بعض الدلالة على أننا نحن الذين نحدد: أي تراث نريد، وعليه نقرر أي مستقبل نمشي فيه...مشوار طويل، ومتعب، ولكن لا بد من إنارة الطريق، ولو أزعج وهج الشمع من لا يحبه![c1]كاتب سعودي
|
فكر
هدية تراثية لامرأة عصرية
أخبار متعلقة