مع الأحداث
هناك حقيقة مؤكدة مؤداها أن الإرهاب أصبح ظاهرة عالمية، لأنه انتقل من المجال المحلي والإقليمي، وأصبح إرهابا معولما يوجه ضرباته القاتلة إلى عواصم غربية، متعددة مثل باريس ولندن ومدريد وقبلها واشنطن بطبيعة الحال، التي شهدت الهجوم الإرهابي الشامل في أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001.والواقع أن مواجهة الإرهاب بطريقة متكاملة تواجه مشكلات مختلفة، ولعل أبرزها أن الاكتفاء بالمواجهة القانونية والأمنية له وإغفال المواجهة الثقافية والمعلوماتية، قد لا يكون هو السبيل الأمثل لتحقيق فعالية المواجهة.وإذا ركزنا أولا على المواجهة القانونية، لأدركنا على الفور أنها تحتاج إلى نظرية قانونية متكاملة تحيط بأبعاد الإرهاب ومشكلاته المختلفة.ولعل كتاب الدكتور أحمد فتحي سرور ـ الذي سبق لنا أن أشرنا إليه وعنوانه المواجهة القانونية للإرهاب يعد بأبحاثه العميقة ونظرته الشاملة، نموذجا لهذه النظرية المتكاملة.وقد أدت موضوعية المؤلف إلى أن يعترف في صدر كتابه بصعوبات المواجهة، ذلك أن التصدي القانوني للإرهاب، اقتضى ضرورة تعريف الإرهاب، بحيث يمكن في ضوئه الانطلاق إلى تحديد الأساليب القانونية لمواجهته.ومعني ذلك أنه مطلوب أولا مزيد من الدقة القانونية في تعريف الإرهاب بوصفه ـ كما يقول الدكتور سرور ـ نوعا من العنف يهدف إلى بث الرعب في المجتمع، من أجل الوصول إلى نتيجة سياسية أو إلى عائد إجرامي.ومن ناحية أخري ينبغي على تعريف الإرهاب أن يحرص على التوازن بين الضرورات الأمنية لمواجهته، ومتطلبات حماية حقوق الإنسان في الدولة القانونية.وهناك بعض المشكلات الحساسة في مجال المواجهة القانونية للإرهاب، والتي لن تحلها مجرد الدقة القانونية في التعريف، لأنه في الممارسة كثيرا ما تتوسع الجهات الأمنية في توسيع دائرة الاشتباه بين المتهمين بالإرهاب، أو إطالة فترة اعتقالهم للتأكد من ارتباطهم بالحوادث الإرهابية، مما قد يؤثر على حقوق الإنسان.غير أن المواجهة القانونية هي خطوة أولي هي والمواجهة الأمنية في مكافحة الإرهاب، إلا أن التحليل الثقافي للفكر الديني المتطرف الذي يؤدي عادة إلى ممارسة الإرهاب، لا يقل أهمية بل قد يفوق أحيانا المواجهات القانونية والأمنية.وذلك لأن هذه المواجهات تقوم بعد وقوع الجرائم الإرهابية، في حين أن التحليل الثقافي يحاول البحث عن منابع الفكر المتطرف الكامنة في صميم تربة المجتمع، لكي يقوم بعد ذلك النقاد الثقافيون بممارسة النقد الفقهي والتحليل المعرفي، لبيان بطلان المقدمات التي بني عليها وخطورة النتائج التي تترتب عليها وبالإضافة إلى ذلك فان مهمة التحليل الثقافي رسم خرائط معرفية للتمييز بين الاتجاهات الفكرية المتطرفة المتعددة والمتنوعة وإبراز الفروق النوعية بينها, وكذلك رسم شبكات لتحديد رموزها الفكرية والتي تلعب دور العقول التي ترسم الخطط، بالإضافة إلى قادتها الميدانيين الذين يقومون بتنفيذ الخطط علي أرض الواقع.والحقيقة أن الفكر الديني المتطرف فرع من فروع التطرف الإيديولوجي بوجه عام. وهذا التطرف قد يعبر عن نفسه في صفوف الجماعات اليسارية، كما انه قد يعلن عن ذاته في صفوف الجماعات اليمينية.ولعل جماعة الألوية الحمراء الإيطالية الماركسية التي قامت في السبعينيات بحوادث إرهابية متعددة تعد نموذجا للتطرف اليساري، في حين أن جماعة الكلوكلوكس كلان العنصرية في أمريكا والتي تشكلت أساسا لملاحقة السود تعد مثالا للتطرف اليميني.غير أنه إذا كانت قد انتهت مراحل التطرف اليساري في أوروبا وغيرها من القارات، وتم تفكيك الجماعات الإرهابية بعد أن قبض علي قادتها وقدموا للمحاكمة ووقعت عليهم جزاءات رادعة، فانه يمكن القول إن مرحلة التطرف اليميني وصلت إلى منتهاها، بعد أن نضج المجتمع الأمريكي من خلال سياسات فعالة، أدت إلى القضاء على ظاهرة التمييز العنصري ضد السود، ولعل انتخاب أوباما باعتباره أول رئيس أسود شاهد على ذلك.ولكن التأمل في مشهد الإرهاب العالمي الراهن يقودنا إلى نتيجة مهمة، هي أن الجماعات الإرهابية الإسلامية أصبحت هي البارزة الآن على صعيد الإرهاب. ولعل تنظيم القاعدة الذي يقوده بن لادن والظواهري يعد أبرز تنظيم إرهابي معاصر،لأنه مد خطوط إرهابه إلى باكستان والعراق ودول عربية أخري متعددة، بعد أن ضرب ضربته الكبرى ضد أمريكا في أحداث سبتمبر الشهيرة.وحتى نفهم أصول ومنابع الفكر الديني المتطرف في البلاد الإسلامية، لابد أن نلقي أولا نظرة وجيزة علي تعريف التطرف الإيديولوجي.والواقع هذا النوع من التطرف ظاهرة معقدة، لأنه ينطوي علي عديد من الأبعاد فهو ـ بحسب تعريف معتمد ـ عبارة عن( أنشطة تتمثل في معتقدات واتجاهات ومشاعر وأفعال واستراتيجيات) يتبناها شخص أو جماعة بطريقة بعيدة عن الأوضاع العادية السائدة بين الناس. وهذه الأنشطة تبرز في مواقف محددة باعتبارها شكلا عنيفا من أشكال الصراع بين جماعات متطرفة والسلطة السياسية.وفي مجال تحديد منابع التطرف يرى بعض الباحثين الثقات ان من بينها الحرمان النسبي، بمعني سيادة الفقر، والافتقار إلى الخدمات الصحية والغذاء السليم والتعليم والعمل وكلها تتضافر لكي تشكل مبررات العنف.غير أن هذا التفسير قد لا يكون صادقا، لان تنظيم القاعدة ـ على سبيل المثال ـ يقوده أسامة بن لادن وهو من أكبر الأثرياء، ويساعده في القيادة الظواهري وهو طبيب مصري ينحدر من عائلة مهنية وبورجوازية لم تشهد الفقر في حياتها.ومن هنا لاينبغي اعتماد هذا التفسير الذي قد ينطبق علي بعض الحالات ولكنه من المؤكد لا ينطبق علي عديد من الإرهابيين الذين تبنوا الفكر الديني المتطرف بناء علي اقتناعهم بصحة المسلمات الإيديولوجية التي يصدر عنها والتي هي ضرورة الانقلاب علي النظم السياسية العلمانية, والتي توصف عادة بأنها كافرة لأنها لا تطبق شرع الله، أو الحرب ضد الدول الغربية الصليبية التي تشن ـ في رأيهم ـ حربا شرسة ضد المسلمين.وإذا أضفنا إلى تفسير الحرمان النسبي باعتباره أحد منابع الإرهاب، إنكار النظم السياسية للحاجات الإنسانية الأساسية كالحاجة إلى الأمن والكرامة، أو عدم الاعتراف بهوية الجماعات المختلفة ومنعها من الدعوة إلى مبادئها المتطرفة، بالإضافة إلى الفجوة التي تزيد اتساعا بين ما يعتقد الناس أنهم يستحقونه وما يمكن لهم الحصول عليه, كل هذه العوامل أو بعضها يمكن أن تمثل خميرة للتطرف، وخصوصا حين تسد المسالك المشروعة للتعبير عن احتياجات الناس.ولو رجعنا إلى تعريف التطرف الذي سقناه من قبل , باعتباره يمثل أنشطة عن معتقدات ، واتجاهات ، ومشاعر ، وأفعال ، واستراتيجيات تبناها شخص أو جماعة بطريقة تبعده عن الأوضاع السائدة بين الناس ، فقد نستطيع الاقتراب من جوهر التطرف الديني الذي يقوم عادة علي مجموعة من المعتقدات التي قد تتفاوت في مرونتها أو جمودها, وتختلف في سطحيتها أو عمقها، وتتنوع في آليات عملها.على سبيل المثال قام المفكر المتطرف سيد قطب منظر جماعة الاخوان المسلمين وخصوصا في مرحلته الإيديولوجية الأخيرة التي يعبر عنها كتابة معالم على الطريق على مجموعة معتقدات متكاملة أبرزها الحكم بجاهلية المجتمعات الإسلامية المعاصرة وتكفير قادة الدول الإسلامية ما يمهد الطريق لفكرته المتطرفة الجوهرية وهي أنه لا سبيل لتغيير هذه الأوضاع إلا بالانقلاب على الدولة باصطناع العنف.وبناء على هذه المعتقدات يتم غسل مخ كوادر الجماعات الإرهابية من خلال تنمية اتجاهات بالغة السلبية إزاء مجتمعاتهم ودولهم من ناحية وتقريظ عملية الانقلاب العنيف عليها، حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بحياتهم، لان في ذلك سبيلا إلى الجنة باعتبارهم شهداء.ويتم من خلال برنامج للحشد والتعبئة تغذية مشاعر أعضاء الجماعات الذين تم تجنيدهم بكراهية الواقع الاجتماعي الذين يعيشون فيه، تمهيدا لإقناعهم بإستراتيجية الانقلاب على الأوضاع، وإقناعهم بالقيام بالأفعال الإرهابية المنوط بهم تنفيذها.غير أن السؤال المهم الذي ينبغي إثارته هو ما الذي يؤدي الى ظهور هذه التيارات الفكرية الدينية المتطرفة؟ الإجابة علي هذا السؤال تقتضي تطبيق المنهج التاريخي لدراسة أصول تكوين الدولة العربية الحديثة، والعوامل الخارجية التي أثرت عليها، وخصوصا ظاهرة الاستعمار الغربي، بالإضافة إلى دراسة اتجاهات النخب الوطنية التي قادت شعوبها للاستقلال.ولابد بعد ذلك من دراسة بنية دولة الاستقلال والأسس الفكرية التي قامت عليها، والصراع الإيديولوجي الذي دار في جنباتها وخصوصا في مجال الاستجابة للتحدي الغربي والذي يتمثل في أن الغرب كان يمثل نموذج التقدم، في حين أن المجتمعات العربية والإسلامية كانت مثالا للتخلف. ومن هنا فان سؤال النهضة العربية الأولي وهو لماذا التخلف وكيف يمكن أن نتقدم واختلاف الإسلاميين والليبراليين والاشتراكيين العرب في الرد علي السؤال يمكن أن يكون مدخلا مناسبا لصياغة الإجابة.غير أن السلوك الفعلي لقادة الدول العربية والإسلامية المستقلة ونوع الممارسة الفعلية وعملية الصراع الإيديولوجي التي دارت بين الدولة والأحزاب السياسية من ناحية، وصراع التيارات الإيديولوجية المتنافرة من ناحية أخري, لا تقل أهمية في فهم جذور الفكر الديني المتطرف.ولا يمكن في هذا السياق تجاهل الأحداث السياسية الكبرى في حياة الأمة العربية, وأبرزها علي الإطلاق الهزيمة العربية في حرب فلسطين التي وقعت عام1948 والتي أعقبها إعلان إنشاء دولة إسرائيل ثم أخطر هزيمة مني بها العرب وهي هزيمة يونيو1967.وبالإضافة إلى كل ذلك هناك عوامل لصيقة بطبيعة الثقافة السائدة في المجتمعات العربية، ومن أهمها جمود الفكر الديني التقليدي وعجزه عن التجدد واستناد بعض النظم السياسية العربية إلى الخطاب الديني لتدعيم شرعيتها السياسية المتهاوية، وعجز الليبراليين العرب الذين يؤمنون بالعلمانية وبالديمقراطية عن إنتاج خطاب جماهيري يقنع الكتل العربية بمصداقية مبادئهم، كل هذه عوامل مهمة تضاف إلى قائمة العوامل التي أشرنا إليها.ومعنى ذلك أن لدينا مهمة شاقة لو أردنا تشريح ظاهرة الفكر الديني المتطرف, والتي تتمثل في تحليل كل عامل من العوامل الخارجية والداخلية، لبيان كيف أسهمت في الظاهرة المقلقة التي تعيشها المجتمعات العربية اليوم، والتي يمكن تلخيصها في عبارة واحدة هي تطرف ديني سائد، وغياب لوعي ليبرالي وديمقراطي حقيقي![c1]* عن/ صحيفة (الأهرام) المصرية[/c]