الإرهاب والحرية، مفهومان متنافران ومتضادان، والجدل بينهما تبادلي. إن الذي يربط بين المفهومين، هو أن حيوية أي منهما رهن بضمور الآخر، وهو جدل حسب تعبير علم النفس، يؤدي إلى تعويض، يلجأ فيه المحروم إلى استخدام حيله الدفاعية لتلبية طموحاته وتحقيق توازنه النفسي. وفي هذا السياق، نجد من الأهمية التأكيد على أنه في كل مجالات الحياة، في هذا الكون الرحب الفسيح، هناك غاية من السعي والوجود على هذه الأرض. وفي هذا الجانب، لا تختلف النصوص الواردة في الكتب السماوية، وجعل الله لكل شيء سبباً، وتلك التي تبرزها العلوم الطبيعية أو القوانين الوضعية أو النظريات الاجتماعية ذات العلاقة. إن هناك وظائف للحواس وهناك وظائف وحاجات لكل الأعضاء، وقد ثبت علمياً أن انتفاء الحاجة لأي من الأعضاء أو الغرائز والحواس أو وجود ظروف مستجدة تحول دون قدرتها على ممارسة دورها بشكل طبيعي من شأنه أن يؤدي إما إلى اضمحلالها وضمورها، كما هي الحال مع الزائدة الدودية مثلاً بالإنسان، وكما تقول نظرية النشوء والارتقاء عن اختفاء بعض الأعضاء الوظيفية في الكائن الحي. أما إذا كانت تلك الغرائز والأعضاء والحواس من القوة، بحيث لا يمكن أن تتواءم مع الواقع الجديد، فإنها تضطر إلى أن تنحرف في نشاطاتها عن وظائفها الأصلية، وتوجد مخارج أخرى لها. المهم أنها تواصل أداء الوظائف المنوطة بها. وحين يتعلق الأمر بالغرائز والسلوكيات، يشكل هذا الانحراف خطراً محققاً على المجتمع بأسره، إذ تشمل هذه الحيل السرقة والقتل والنصب والشذوذ، وما إلى ذلك من الظواهر الاجتماعية السلبية. إن واحدة من المسلمات الإنسانية أن الإنسان ولد حراً، بمعنى أنه يملك القدرة على صنع أفعاله، كما يقول المعتزلة. ولذلك فإنه بعد سن النضج، يصبح مسؤولاً أمام المجتمع ومحاسباً عن أفعاله. وقد جاء الإسلام محرضاً إلى جانب الحرية، وكانت صرخة الخليفة العادل عمر بن الخطاب، ولا تزال، صوتاً مدوياً يقض مضاجع الطغاة: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”. لقد كان تعريف الحرية في العصر الحديث، ولايزال موضع جدل وخلاف بين المنظّرين، ولكنها بشكل عام، كما عرفها هارولد لاسكي تعني الحالات الاجتماعية التي يكون الإنسان فيها قادراً على تقرير حوافزه ومطالبه. والحرية، بهذا المفهوم، لا تضع ضوابط على قدرة الإنسان على تحقيق سعادته، في حين أصر جورج هيجل على أن الحرية حتى إن كانت تعني قدرة الإنسان على تحقيق مطالبه وسعادته فإنها يجب أن تعمل ضمن قوانين الحكومة التي تعيش تحت سقفها. الحرية بالجوانب العامة التي ليست موضع خلاف هي الحق في الاعتقاد والتفكير والتعبير ورفض العدوان، وأن تشكل الجمعيات والمؤسسات المدنية التي تكفل التعبير عن جملة هذه الحقوق. والواقع أن قضية الحرية، إلى جانب قضية الخبز، شغلتا الناس في مختلف العصور. وقد كان التاريخ الإنساني في جانب كبير منه سجلاً للصراع من أجل نيلهما، وكانت العلاقة بينهما متداخلة ومترابطة، في الوقت ذاته الذي تبدو فيه منفصلة عن بعضها بعضاً، ذلك لأن شرط الحرية هو القدرة على التقرير والتنفيذ، ولن تكون هذه القدرة متوفرة عند شعب جائع ويفتقد الحقوق الإنسانية الأساسية لمواجهة المتطلبات الحياتية اليومية. ومن هنا جاءت مسألة الربط بين العدالة الاجتماعية وتحقيق الحرية عند كثير من المذاهب السياسية والفلسفية، ومن هنا أيضاً جاء النقد الحاد من بعض المصلحين للنظام الرأسمالي الذي يركز على فكرة الحرية السياسية من دون ربطها بالحاجات الاجتماعية والاقتصادية. إن هذا الفهم يعني أن غياب أحد هذين العنصرين يقتضي بالضرورة غياباً للعنصر الآخر. في بلادنا العربية، أثناء الهيمنة الاستعمارية التقليدية، بدت الحرية وتحقيق العدالة أمراً واحداً، حيث تلازم غيابهما مع الاحتلال وقمع الحريات والسطو على الثروة. ولذلك أصبح خروج المستعمر شرطاً لازماً لوجودهما. لقد غيبت الحرية والعدالة بمفهومهما الشامل والواسع في كل بلدان العالم الثالث، وبضمنها البلدان العربية، التي سقطت بفعل الهجمات الغربية الصليبية، وفرض عليها أن تخضع إنتاجها الزراعي، ليس لغرض تلبية حاجاتها، بل لمواجهة متطلبات الأسواق الأوروبية. والنتيجة من ذلك أن شعوب هذه البلدان عانت في آن واحد من حرمانها من ممارسة حريتها، وجرى تخريب قاعدتها الإنتاجية، وساد الجوع والدمار فيها، فكان أن امتشقت السلاح دفاعاً عن حريتها ووجودها. إن غياب هذه الحقوق شكّل ولا يزال معضلة حقيقية في واقعنا. وفي ظل غياب الحريات وفشل المشروع النهضوي العربي الذي برز منذ بداية القرن الماضي، واستمرار حالة التشظي والتشرذم، ووقوع البلدان العربية مجتمعة في شرنقة التبعية وعجزها الملحوظ عن اللحاق بركب التطور العالمي، وفشلها في مواجهة المشروع الصهيوني، وأمام انعدام القدرة على التعبير عن الرفض والمعارضة بشكل سلمي، كل ذلك أوجد احتقاناً واسعاً وعميقاً في البنيان الاجتماعي العربي، أدى بكثير من العناصر إلى اللجوء إلى إيجاد مخارج لها.. إلى حيل دفاعية تحقق من خلالها توازنها النفسي، فكان الإرهاب هو الظاهرة التي عصفت بالمنطقة بأسرها منذ بداية الثمانينات. وعلى هذا الأساس، فإن ظاهرة الإرهاب التي تلازمت في مجتمعنا العربي مع ضحالة الفكر، هي تعبير واضح عن حالة التردي والسقوط بعد أن بهتت مؤشرات النهوض المتمثلة في الوحدة والحرية والإبداع وتحقيق التنمية، بكل تفرعاتها وتشعباتها. هكذا تلجأ المجتمعات في التاريخ الإنساني بأسره إلى حيلها الدفاعية للتعبير عن عجزها وتحقيق توازنها النفسي. فعندما هزمت أثينا، منبع الفلسفة والفن، في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، تدفقت على حضارة اليونان الأفكار الخرافية وروح الاستسلام، وبدأ انتشار المذاهب الرواقية واللاأدرية والأبيقورية التي لم تكن تعني غير القبول بالهزيمة والاستسلام، وتحقيق التوازن النفسي للشعب المهزوم، بإحلال اللذة والسرور بدلاً من الكفاح. وتكرر بعث هذه الفلسفة في القرن التاسع عشر بعد أن أجهضت الثورة الفرنسية التي رفعت رايات الحرية والإخاء والمساواة، وبعد أن فتك الثوار بعضهم بعضاً. وفي هذا الاتجاه، أشار فرانز فانون في كتابه “معذبو الأرض” إلى أن حالة العنف التي تسود مواسم الفرح وكثير من الطقوس الدينية عند بعض القبائل الإفريقية هي تعبير خارجي عن التأزم النفسي والكبت الذي تجسده سيطرة المستعمر الأوروبي. إن رقصة السيف التي تذهب بالكثير من الضحايا من السكان الأصليين هي تعبير عن رفض غير خلاق للواقع القائم. إنها رفض لعنف المستعمر يعبر عنه بعنف آخر غير موجه توجيهاً سليماً. وفي التاريخ العربي، أمثلة حية متطابقة مع هذا التحليل، ففي مواجهة طغيان الصراعات السياسية التي طبعت حقبة مهمة ومبكرة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، برزت فلسفة المرجئة، قائلة بالجبرية وبتأجيل العقاب. أما فاجعة كربلاء فقد أدت إلى انتشار ظاهرة الحزن والرثاء في الشعر العربي، بحيث طبعت الحياة الأدبية في البيئة التي حدثت فيها حتى يومنا هذا. ولعل مثل هذا القول يصدق أيضاً على الكثير من الممارسات في البيئة الأكثر تخلفاً من الوطن العربي كطقوس الرفاعية في العراق والسيد البدوي في مصر. وكان شيء من هذا القبيل، قد أخذ مكانه في كنيسة الزيتونة في القاهرة عام ،1967 حيث أعلنت أجهزة الإعلام المصري، وفي مقدمتها صحيفة “الأهرام” على أثر نكسة الخامس من يوليو/ حزيران عن ظاهرة بروز السيدة العذراء في تلك الكنيسة، معلنة تضامنها مع شعب مصر في كفاحه من أجل إزالة آثار العدوان، بحسب تصريح وزير الداخلية آنذاك، السيد شعراوي جمعة. هكذا تلجأ المجتمعات الإنسانية، حين تعجز عن مواجهة مصائرها وأقدارها، إلى الحيل الدفاعية لتحقيق توازنها النفسي، وهكذا أيضاً يستمد قطاع واسع من الجيل العربي المسلم، في مختلف البلدان العربية، حيله من ماضيه ليقاوم محاولات التغريب، فيكون الإرهاب واعتماد العنف هما التعبير عن العجز أمام حالة التداعي والانهيار، بعد أن عجزت القيادات السياسية والوطنية التقليدية والأنظمة الشمولية عن تحقيق الحلم اللذيذ في التحرر والانعتاق.إن القضاء على ظاهرة الإرهاب مهمة وطنية وقومية، تقع على عاتق النخب المثقفة بالدرجة الأولى، وطريق البداية في المواجهة معها، هي العودة إلى المعادل الآخر.. تحقيق الحرية، والتسليم بالرأي والرأي الآخر، وفتح آفاق الحوار وأبوابه على مصاريعها، ودفع الخفافيش التي تتستر بالظلام إلى الخروج من مخابئها إلى وضح النهار وضوء الشمس، لصيانة السلم الاجتماعي، وصياغة مشروع عربي حداثي جديد.[c1] صحيفة «الاتحاد» الإماراتية [/c]
|
اتجاهات
فــــي وظائف الحرية
أخبار متعلقة