قضية “ الصراري “ وحلفاء الغفلة (6-7)
في الحلقات الخمس الماضية من هذا المقال أوضحنا بؤس المنهج النقلي الذي يستخدمه حفظة وعبدة النصوص الفقهية القديمة ، ويستندون إليه في تحريم الغناء والموسيقى و انتهاك حقوق المرأة وإهانتها والتمييز ضدها في حياتها ومماتها ، حيث يتمحور هذا المنهج النقلي الببغاوي حول حفظ وعبادة نصوص فقهية ميتة استنادا إلى أحاديث وروايات منسوبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، تم الترويج لها بعد (250) عاماً من وفاته بواسطة ( العنعنة) التي تنتهي إلى عدد من الرواة ، كان بعضهم أطفالا عند وفاة الرسول أو اسلموا قبل عامين من وفاته ، ناهيك عن أن بعضهم - خاصة أولئك الذين نقلت عنهم روايات تهين المرأة وتنتهك حقوقها ومن بينها ما يتعلق بتنصيف ديتها ومنعها من تولي وظائف الولاية العامة - كانوا من الذين طعن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم في روايتهم حول واقعة أم المؤمنين السيدة عائشة والتي برّآها سبحانه تعالى من حديث الإفك !!واللافت للنظر ان ثمة قسوة في الإهانات التي ألحقها بعض موروثنا الفقهي بالمرأة ، وهي قسوة لا يمكن فصلها عن ثقافة القمع التي صبغت بقسوتها بعض فصول تاريخنا ، حيث كان يتم إضفاء الشرعية الدينية على مخرجاتها من خلال الوضّاعين الذين تفننوا في صناعة روايات وآحاديث وصفها الامام الذهبي في كتابه ( ميزان الاعتدال ) بأنها مناكير. فالاوزاعي ــ على سبيل المثال ــ يعد من أشهر واضعي الأحاديث والروايات المهينة لكرامة المرأة . فقد كان يحدث عن الرسول مناكير أى أحاديث ينكرها من يسمعها بحسب قول الامام الذهبى فى ميزان الاعتدال، وكان يفترى أحاديث عن رب العزة ، و بالقدر نفسه كان يفتى للحاكم باستحلال الدماء، كما أفتى للخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بإرتداد غيلان الدمشقى ووجوب قتله ، ثم أفتى للعباسيين باستحلال دماء الأمويين تطبيقا لحديث حد الردة الذي وضعه ورواه للأمويين أثنان فقط هما الأوزاعي وعكرمة مولى ابن عباس ، ثم استخدمه الأمويون في قتل وإضطهاد معارضيهم.. ولذلك عاش الأوزاعي فى كنف مجازر الأمويين ثم العباسيين ضد خصومهم معززا ً مكرما ًً باعتباره من وضع حديث حد الردة الى جانب عكرمة.. بينما لقى خصمه الإمام أبو حنيفة صنوف الاضطهاد من الأمويين ثم من العباسيين حتى مات مسموما .أما عكرمة فقد كان عبداً فارسيا لعبد الله بن عباس الذي سمع ونقل عنه أقواله فى التفسير، وظل عبداً لابن عباس حتى توارثه أولاده ثم باعوه، أو أطلقوا سراحه، وقد اتاح له ذكاؤه وتفرغه فى خدمة ابن عباس أن يحفظ عنه الكثير. وكان العلم هو الطريق الوحيد أمام الموالي ليبرزوا به في مجتمع يسيطر عليه الأشراف العرب ، خصوصاً وان الأمويين كانوا معروفين بالتعصب للعرب ضد الموالي ، وإذا كان العرب قد انشغلوا بالحروب والثورات والسياسة فقد وجد أبناء الموالي فرصة للتفرغ للفقه والتفوق فيه وإثبات أنفسهم من خلاله، وساعدهم على ذلك أنهم أبناء أمم عريقة في العلم والحضارة..وهكذا كان أكثر الفقهاء التابعين من الموالي..وكان منهم عكرمة.إلا أن عكرمة كما يظهر في تاريخه كان حانقاً على الأرستقراطية العربية ومتأثرا بالثقافة الفارسية لجهة الموقف من المرأة قبل الاسلام ، بقدر ما كان يميل إلى رأي الخوارج الذين لم يروا فارقاً بين العرب والموالي، ولم يشترطوا كون الخليفة من قريش حسب الحديث الذى ذاع وانتشر.وبسبب كثرة أكاذيبه على ابن عباس بعد موت ابن عباس فإن علي بن عبد الله بن عباس وضع فى يديه وقدميه قيوداً وحبسه على باب الحش وهي «دورة المياه» بالمعنى الحديث فسئل عن ذلك فقال: « إن هذا الخبيث يكذب على أبي» ..!!. كما قال المحققون إن (مسلم) تجنب الرواية عن عكرمة فروى له بعض الروايات مقروناً بغيره أى لم يرو له منفرداً،.. فيما أعرض مالك عن الرواية عنه إلا فى حديث أو حديثين وقال مطرف: «سمعت مالكاً يكره أن يذكر عكرمة ولا أرى أنه روى عنه »، وقال إبن حنبل أن مالكاً روى عن عكرمة حديثاً واحداً أما البخاري فقد روى عنه وانتقده المحققون على ذلك . وفي الاتجاه ذاته ارتبطت قسوة آراء بن تيمية المناهضة لحقوق المرأة ، بقسوة آرائه تجاه مخالفيه في الرأي ، حيث أفتى بقتل أي مسلم بدعوى أنه منافق يبطن الكفر ويظهر الإسلام، بمعنى إعطاء الحجة لأي فرد كي يقتل من يشاء من المسلمين بهذه التهمة وبدون استتابة استنادا الى قول ابن تيمية في ( الفتاوى الكبرى ): « أما من أظهر الإسلام وأبطن الكفر فهو المنافق الذى يسميه الفقهاء بالزنديق فأجمع الفقهاء على أنه يقتل وإن تاب» أي لا تجديه التوبة ، طالما أن ابن تيمية قد قضى بأن الفقهاء ( أجمعوا) على قتله وإن تاب !!، وهو المنهج ذاته الذي استدل به و سار عليه أحد كبار شيوخ حزب ( الاصلاح) عندما أصدربصوته فتوى دموية تحرض على ارتكاب جرائم حرب وإبادة في صيف عام 1994م ، بزعم ان ( العلماء ــ يقصد الفقهاء ــ أجمعوا على جواز قتل المسلمين المدنيين من النساء والاطفال والرجال والشيوخ الذين يتمترس بهم الكفار الاشتراكيون في عدن والمحافظات الجنوبية حتى لا تعلو شوكة الكفر على شوكة الاسلام ) بحسب ماجاء في الفتوى المسجلة بصوت القيادي (الاصلاحي ) !!!والحال ان النافخين في أبواق النفير المعادي للغناء والموسيقى ولمشاريع تعديل القوانين التي تكرس التمييز ضد المرأة وتنتهك حقوقها وتهين كرامتها ، اوردوا أدلة بائسة من خارج القرآن الكريم ، بل وتتعارض مع آياته المقدسة ومعانيه ومقاصده العظيمة . وجاءت أدلتهم في صيغة وجهات نظر فقهية متخلفة تستند الى أحاديث وروايات مشكوك فيها ، و تعد جزءا من مأساة المسلمين واسباب تخلفهم العقلي وتدهورهم الحضاري ومصائبهم المستمرة والمتلاحقة..ومن المؤلم جدا ان بعض فقهاء أهل الشيعة وبعض فقهاء أهل السنة اختزلوا الاسلام على أيديهم في صورة روايات وأحاديث ما أنزل الله بها من سلطان ، حيث أصبح الاحتكام اليها أكثر من الإحتكام للقرآن الذي نقله الينا النبي وحده .. ولم ينقله الينا بشر إختلفوا وتصارعوا وتناحروا بينهم البين كما هو حال هذه الأحاديث والروايات التي يتبناها بعض اهل الشيعة وبعض أهل السنة من الذين يزعم فقهاؤهم بأنها الحق والحقيقة ، وإن الرأي الآخر المخالف لآرائهم مارق ومشرك ومنكر للسنة أو معاد لآل البيت (!!) وكل حزب بما لديهم فرحون.المدهش حقا ً أنّ فقهاء الحديث يؤكدون على أنّ الأغلبية العظمى من الأحاديث المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلّم ـــ وبضمنها تلك التي تتعلق بتحريم الغناء والموسيقى وتنصيف دية القتيلة ـــ هي أحاديث آحاد ، ويؤكدون أنّها تفيد الظن ولا تفيد الحق .. ومع ذلك فإنّ بعض فقهاء الحديث ورجال الدين الحزبيين من أهل السنة ، وبضمنهم شيوخ وملالي أحزاب ( اللقاء المشترك ) يعتبرون هذه الأحاديث الظنية ركناً من أركان الإسلام وأصلاً معلوماً من الدين .. وهم بهذا يتعارضون صراحةً مع القرآن الذي يحذر من إتباع الظن بقوله تعالى : « إنْ يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى» وكذا بقوله : « وإنّ الظن لا يغني من الحق شيئاً » صدق الله العظيم.مامن شك في أن ثمة من يسعى الى تقديس آراء ووجهات نظر بعض الفقهاء الأسلاف إزاء بعض القضايا الحيوية التي تتعلق بالغناء والموسيقى والمرأة والحرية والرأي المخالف ، وتحريم مناقشتها ، وصولا ً الى رفع سوط التكفير وإنكار السنة في وجه كل من يعارض أفكار وآراء شيوخ وملالي حزب ( الاصلاح ) الذي يقود ويوجه الخطاب السياسي والديني لتكتل قوى المعارضة المنضوية في اطار ( اللقاء المشترك ) لجهة تحريم الغناء والموسيقى واباحة تزويج الأطفال الإناث والفتيات القاصرات وتنصيف دية المرأة ورفض الإعتراف بحقوق النساء السياسية والمدنية والانسانية، والدعوة لمصادرة حق المرأة المتعلمة في ممارسة الوظائف القيادية والإشرافية والسيادية في الدولة ، بحجة أن « الشريعة » لا تجيز الولاية العامة للمرأة ، إلى درجة أن بعض هؤلاء المتشددين يعارضون ترشيح المرأة إلى الهيئات القيادية الحزبية أو عضوية البرلمان بحجة أن العمل الحزبي والعمل البرلماني يندرجان ضمن الولاية العامة التي ليس للمرأة حق فيها ، على نحو ما يفعله التيار الإسلامي في الكويت والتيار السلفي في الجزائر والمغرب العربي والتياران السلفي والجهادي في اليمن والعراق ودول الخليج ، وغيرهم ممن يدعون الى تطبيق شريعة إمارة ( طالبان ) سيئة الصيت قبل سقوطها في أفغانستان .لعل ذلك هو ما دفعني في مقالات سابقة نشرتها في صحيفتي ( الثورة ) و( الوحدة ) بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م ، الى الدفاع عن « طالبان» التي رأيت في أفرادها مجرد ضحايا أبرياء لهذه الافكار المشوّهة ، انطلاقا من قناعتي بأن رفض حركة «طالبان» المهووس للحداثة ، وتمسكها بالجهاز المفاهيمي الطقوسي الكاريكاتوري للعقيدة الدينية ، واخطاءها بحق المرأة ، وجرائمها تجاه اتباع المذاهب الأخرى ، ومراسيمها المتحجرة التي افرطت في التكفير والتحريم ، لم يكن سوى عمل طلاب أوفياء لثقافة تعلموها وتشربوها في معاهد دينية ، ونقلوها من كتب فقهية تراثية ، ولم يزيدوا أكثر من تطبيق ما تعلموه !!وبوسعنا القول أن موقف «طالبان» هو نفسه موقف المجتمع العربي في أوائل القرن العشرين حين وقف ضد المصلحين من القادة السياسيين والمفكرين المستنيرين الذين اتهمهم السلفيون المتشددون بالتغريب لانهم دعوا إلى تعليم المرأة . فقد أنكر الازهر في ذلك الوقت تعليم المرأة في الجامعة ، وذهبت أفواج من رجال الدين العـرب والمسلمـــين إلى المـلك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود عندما كان وليا للعهد في الخمسينات ، مستنكرة فتح مدرسـة ابتدائية للبنات بحجة أن في ذلك فساداً وانحرافاً !؟؟ ومما له دلالة عميقة على ذلك أن كتاب « احياء علوم الدين» للغزالي وكتاب «الكبائر» للذهبي وكتب بن تيمية يتم تداولها على نطاق واسع ، ويتبارى المحسنون في طباعتها وشراء نسخ عديدة من الكميات المطبوعة لصالح الجمعيات الخيرية لوجه الله . وقد وجدت آلاف النسخ من هذه الكتب طريقها الى بلدان أوربية وآسيوية تتمتع المرأة فيها بحقوق مدنية لا يعترف بها الغزالي والذهبي وابن تيمية واتباعهم من حفظة وعبدة أسوأ النصوص التي ورثناها في كتب التراث الفقهي ، وبضمنهم المشاركون في ندوة مركز (الايمان) التي انعقدت بالعاصمة صنعاء في مارس ضد التعديلات القانونية الرامية الى تحقيق المساواة في دية القتيل والقتيلة ، بالاضافة الى ما يكتبه مدرس ( علم الأصول ) الذي يقرفنا ويثير في نفوسنا الغثيان بهذيانه ضد حقوق المرأة في بعض الصحف الموالية لأحزاب ( اللقاء المشترك ) ، مما يعطي فكرة واضحة عن مدى الضرر الذي يلحق بصورة الإسلام حين يتم تسويق هذه الافكار بذريعة حراسة الدين وتطبيق تعاليمه وشرائعه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر !!.لعل ما تقدم يؤشر على أننا أمام معضلة ثقافية بالدرجة الأولى التبست بالدين .. فموقف جزء لا يستهان به من تراثنا الفقهي الموروث عن الغزالي والذهبي وابن تيمية والشاطبي وابن القيم وابن رجب الحنبلي من المرأة والعلوم الطبيعية والعقل والتعددية والحريات الفكرية والسياسية والدينية والرأي الآخر المخالف ، هو موقف من نظام حياة متكامل جرى تقديمه على أنه هو الاسلام الحق .. ولاريب في أن الحرب الضارية التي شنتها هذه الثقافة السلفية الأحادية ضد العقل ، وبضمنها تكفير كل من يجرؤ على تشغيل الوظيفة النقدية للتفكير، واضفاء القداسة على النصوص الفقهية ورفعها إلى مرتبة القرآن والمصادر المقدسة للعقيدة ، لاريب في أن كل ذلك - بالإضافة الى أسباب وعوامل سياسية أخرى في مرحلة الحرب الباردة - ساعد على نشرهذه الافكار المتخلفة ، الأمر الذي يستوجب إعمال العقل في النصوص الفقهية ـــ وهو ما يحاربه التيار السلفي النقلي ـــ لإثبات حقيقة أن جانباً من هذه الثقافة السلفية المنغلقة والمتحجرة يتعارض أساساً مع الدين نفسه .. ومع القرآن في المقدمة ، على نحو ما سنوضحه في الحلقة القادمة والأخيرة من هذا المقال .عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )