حكمت المحكمة بإجماع كبار المشايخ والعلماء في الجامع الأزهر بطرد الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء، وفصله من وظيفته في القضاء، وسحب إجازته العلمية من الأزهر. وقد تم ذلك في الثلث الأول من سنوات القرن الماضي..من هو علي عبد الرازق؟!!.. ولماذا صدر بحقه هذا الحكم؟!! هو مفكر مصري حصل على إجازته العلمية من الأزهر، سافر إلى بريطانيا، والتحق بجامعة أكسفورد لتحضير رسالةٍ في الاقتصاد والعلوم السياسية، وعاد إلى مصر فعُيّن قاضياً بإحدى المحاكم الشرعية فيها.ترى لماذا صدر بحق الشيخ عبد الرازق، ذلك الحكم الذي اعتبره العقاد في مقالة له في صحيفة (البلاغ) تحت عنوان (روح الاستبداد) حكماً باطلاً ومخالفاً للدستور، إذ إن الحكم مؤسس على قانون صدر في أيام الخديوي عباس ولم يطبق من قبل.. وأن هذا الحكم لن يؤثر على طريقة تفكير الشيخ علي عبد الرازق ولن يثنيه عن إذاعة آرائه ونشرها بين الناس.. كما جاء في المقال.وكان سبب صدور ذلك الحكم هو تأليفه كتاب (الإسلام وأصول الحكم)، الذي حاول فيه أن يثبت: « أن الخلافة الإسلامية ليست أصلاً من أصول الإسلام، وأن هذه المسألة دنيوية وسياسية أكثر من كونها مسألة دينية، وهي ليست مع مصلحة الأمة، ولم يرد بيانٌ في القرآن، ولا في الأحاديث النبوية في كيفية تنصيب الخليفة أو تعيينه « .وذهب الكتاب إلى القول بأن: « التاريخ يبين أن الخلافة كانت نكبة على الإسلام وعلى المسلمين، وينبوع شرٍ وفساد..» .وقد استندت المحكمة في حكمها على ما ذُكر آنفاً.وقد كان الشيخ محمد مصطفى المراغي من الداعين إلى قيام خلافةٍ إسلامية، واعتبرها واجباً شرعياً بعد أن سقطت خلافة الدولة العثمانية في تركيا!!.ولما كان هناك اتجاهٌ يدعو إلى تنصيب الملك فؤاد خليفةً للمسلمين، فقد رفض المراغي أن يكون الملك المصري هو ذلك الخليفة!!.. فدفع المراغي ثمن عدم موافقته، إذ إن رأيه هذا كان مناوئاً للقصر، فرفض القصر تعيينه شيخاً للجامع الأزهر.وكان رأي الملك فؤاد ـــ ومن حوله ـــ أن كتاب الشيخ علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) يسد عليه الطريق إلى خلافة الإسلام والمسلمين، واعتبره كتاباً يحمل أهدافاً سياسية مناوئة للقصر، وطلب من عبد العزيز فهمي، باعتباره وزيراً للحقانية، أن يصدر قراراً بفصل القاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الشيخ علي عبد الرازق من منصبه، بحكم أنه تابعٌ لوزير الحقانية!!.. فكان رد عبد العزيز فهمي:بأي حق؟!!.. هل في الكتاب أو في السنة، أو في الدستور، أو في القانون، ما يشير إلى مصادرة حرية الرأي؟!!.. أين إذاً حرية العلم.. وكرامة العلماء؟!!.. لقد استحضرت هذا الكتاب، وقرأته فلم أجد فيه أدنى فكرة يؤخذ عليها مؤلفه.ورفض وزير الحقانية أن يصدر قراراً بفصل علي عبد الرازق بعد أن أعد استقالته!!..وعلى إثر ذلك اتسعت الجبهة المناوئة لتولي الملك فؤاد منصب خليفة الإسلام والمسلمين!!.. وفشل جميع من يناصرونه في مسعاهم لتحقيق هذا الهدف، فتشكلت على إثر ذلك تلك المحكمة التي أصدرت حكمها الآنف الذكر.تصدى الشيخ محمد رشيد رضا في جريدة (اللواء المصري) إلى ما اعتبره خطورةً: « أن يأتي بهذه البدعة قاضٍ شرعيٍ وعالم أزهري « .. واستنفر مشيخة الأزهر للتصدي لهذا الكتاب ولمؤلفه لأنه (هدمٌ لحكم الإسلام وشرعه، وتفريقٌ لجماعته، وفيه إباحةٌ مطلقة لعصيان الله ورسوله في جميع الأحكام الشرعية والسنة النبوية ).لكن الدكتور محمد حسين هيكل ـ صاحب كتاب (حياة محمد) ـ كتب في جريدة (السياسة) يرد على الشيخ رشيد رضا قائلاً: ( كم كنا نود لو أن خصوم الأستاذ علي عبد الرازق في رأيه قد تقدموا لنا بمثل ما تقدم به من تحقيقٍ علمي هادئ لا تغشى عليه الشهوات ولا تتلاعب به المنافع ولا تُسقط حججه الاندفاعات الباطلة ) .وغدت الحالة الفكرية والثقافية، بل والسياسية منقسمة حول كتاب الشيخ علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) إلى فريقين.الأول يطالب بمصادرة الكتاب ومعاقبة مؤلفه!!.. وهناك من اعتبره من زلاّت العلماء فيلتمس للمؤلف العذر ويدلل على ذلك بأنه نظر في المسألة التي عني بها من بعض الوجوه دون بعض، فحفظ شيئاً وغابت عنه أشياء!!.والفريق الثاني ويتزعمه الدكتور محمد حسين هيكل وجماعته ممن يناصرون العلم والعلماء ويؤيدون مبادئ الحرية والديمقراطية.وحين سئل الزعيم سعد زغلول عن رأيه في الكتاب قال: ( لقد قرأته بإمعانٍ، لأعرف مبلغ الحملات عليه من الخطأ والصواب، فعجبت أولاً، كيف يكتب عالم دينٍ بهذا الأسلوب في مثل هذا الموضوع؟!.. ولقد قرأت كثيراً للمستشرقين ولسواهم فما وجدت فيهم من نقد الإسلام بحدةٍ كهذه الحدّة في التعبير على نحو ما كتب الشيخ علي عبد الرازق ) .ومما كتبه الدكتور أحمد أمين في مجلة (الرسالة) عام 1951 أنه استعرض مع الشيخ علي عبد الرازق حال المسلمين وما وصل إليه من جمودٍ فقال له: ( إن دواء ذلك أن ترجع إلى ما نشرته قديماً من أن رسالة الإسلام روحانية، ولنا الحق فيما عدا ذلك من أن نبحث في حياتنا لحل المسائل والمشاكل). ولم يكن السجال حول تلك القضية محصوراً على الساحة المصرية فقط ، بل تجاوزها إلى مناطق أخرى من العالم الإسلامي.. فأمير البيان شكيب أرسلان كتب مقالةً في مجلة ( كوكب الشرق ) يرد فيها على بعض ما كتبه الشيخ علي عبد الرازق في حمّى دفاعه للرد على خصومه، وكان عنوان مقالة أرسلان: ( أيهزأ.. أم أنا لا أفهم العربية؟!!).. جاء فيه: « قرأت في جريدة (السياسة) مقال الشيخ علي عبد الرازق، وأعدت النظر فيه كرّتين، فلم أفهم منه إلا أنه يهزأ بالدين، ويذم في معرض المدح، ويشير من طرفٍ خفيٍ إلى أن القرآن حمل الناس على الضرر، بل على المحال «!!. ورأى البعض أن كتاب (الإسلام وأصول الحكم) لم يقم بتأليفه الشيخ علي عبد الرازق، وإنما هناك من كتبه له، حيث جاء في صفحة (237) من كتاب (حقائق الإسلام وأصول الحكم) للشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية: (أن الشيخ علي عبد الرازق ليس هو مؤلف الكتاب!!.. وليس له فيه إلا وضع اسمه فقط، فهو منسوبٌ إليه ) .وقد تم الرد على تلك الإشارة، وثبت عدم دقتها، فالشيخ علي عبد الرازق كان أزهرياً.. فتح نوافذ عقله، وتتطلع إلى آفاقٍ لم يتعود عليها أمثاله من الطلبة الأزهريين، إلا الندرة من نماذج طه حسين وغيره من المتميزين.وقد تشبع الشيخ عبد الرازق بتعاليم المجدد الإمام الشيخ محمد عبده فأدرك أفكاره الثائرة، وعرف أن هذه الأفكار هي خلاصة ما كان يدعو إليه المجدد الثائر على الجمود، جمال الدين الأفغاني، فمضى يبحث ويُنقّب عن الشرارات التي ألهبت أذهان كل من حاولوا التجديد في قضايا دينهم، ودنياهم.. وتخليص هذا الدين مما علق به من أفكارٍ ترهلت، وحالت بين حقيقته، وبين الممارسة التي تتم باسم الدين على امتداد التاريخ.ترك كتاب الشيخ علي عبد الرازق في نفوس الساعين إلى التجديد ثورةً لم تهدأ حتى الساعة!!.. فهناك من المعاصرين من يرى أن السجال حول كتاب (الإسلام وأصول الحكم): هو عبارة عن مواجهةٍ حادة بين (السلف) الذي يفترض أن عصر السلف كان خيّراً كله، ورسم صوراً مستمدةً من تاريخٍ طويلٍ في تمجيد ذلك العصر، ما عقّد رؤية كثيرٍ من المسلمين لتاريخهم وحاضرهم، وأوقع كثيراً منهم في مصيدة الإيمان بتراجع الزمان وفساده المتسارع، ودفع البعض منهم إلى اليأس من المستقبل، وصوّر لهم أن الحضارة توشك أن تطوي أعلامها وأن الستار يوشك أن يُسدل على الحياة كلها، وأنه لم يبق أمام المؤمنين إلا انتظار قيام الساعة.. وأن كل ما نقوم به في حياتنا الراهنة من أعمال، لا بد أن ينصبّ بجملته من أجل الحصول على الثواب الأخروي!!..إذاً فدعوة الشيخ علي عبد الرازق في مطلع سنوات القرن الماضي لم تكن وليدة فراغ، ولكنها إحدى الإرهاصات التي تدفع بالتطور الإنساني ضمن دائرة العقيدة الإسلامية حسب اجتهاده، لولا أن البعض قد اعتبرها تضمنت أفكاراً مستفزةً للموروث السائد!!.. فالقارئ لكتاب (الإسلام وأصول الحكم) يستخلص منه: أن الخلافة صورةٌ من صور الحكم تجتمع فيها السلطة والسياسة في يد (حاكم فرد) وهو صاحب الرأي النهائي في كل ما يتعلق بسياسة الرعية.. وإن كان تبرير ذلك مستنداً إلى وجود شورى يرى البعض من سياق الأحداث في التاريخ أنها غير مجدية أو فاعلة، ويرى كذلك ـ أي القارئ ـ أن أي حاكم ـ غير النبي ـ إنما هو بشر يصيب ويخطئ، فكيف تترك مقاليد الناس كلها بين يديه على هذا النحو، وإن كان هناك من يعلل حكم هذا البشر بالاستناد إلى صحبة رسول الله، ولكن ذلك لا يصل بهؤلاء البشر إلى حد العصمة، فالنبي وحده معصوم عن الناس.. ولهذا قال الإمام الشيخ محمد عبده: ( إن تصرف الواحد في المجموع ممنوع ) .وإذا كان ذلك كذلك فبقي أن نفاضل بين حكم الأقلية وحكم الأكثرية.. وهنا ترتفع الأصوات قائلةً: إن الإسلام لا يرى أن رأي الكثرة وحدها دليلٌ على الحق، خاصةً أنه ورد في القرآن : ( ما وجدنا لأكثرهم من عهدٍ) ( الأعراف ــ 102). ويقول كذلك: ( لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ) ( المائدة آية (100).وهذا كله لا حجة فيه ولا دليل، إذ إن المفاضلة هنا ليست بين طيبٍ وخبيث، إنما هي بين اجتهادٍ تذهب إليه الأقلية في قضيةٍ سياسية واجتماعية مما يجوز فيه ويجب الاجتهاد، كاختيار حاكم، أو الموافقة على قرارٍ سياسي أو اقتصادي.. واجتهاد آخر تذهب إليه الأكثرية، ولذلك يقول البعض: إذا كانت الكثرة ليست دليلاً على الحق والصواب، فهل تكون القلة دليلاً عليه؟!!لذلك كان من رأي الشيخ علي عبد الرازق الأخذ برأي الأغلبية فيما لا تقوم فيه الحجة القاطعة برأي الخبراء والعلماء هو السبيل الذي لا سبيل غيره لتقرير مصائر الأمة في إدارة دفة الأمور، وذلك لأسبابٍ متنوعة لا يمكن حصرها في خصومةٍ مع الحاضر والمستقبل، وننحاز لفكر (السلف) وما تركوه على أساس أنه ( ملزمٌ ) بحكم قدمه واستقراره، ويرى أن من الخطأ أن يعزى هذا الموقف إلى الاعتقاد الديني بإلزام (النصوص الفقهية ) إذا كان هذا الموقف ـ في أكثر صوره يتجاوز النصوص ليدخل في دائرة الالتزام بالماضي، وآراء الرجال وكل ما تركوه من فكر قابل للنقاش والنقد والمغايرة !!.. كما أن الالتزام بتراث الأقدمين يوشك ـ في التاريخ الإنساني ـ أن يكون ديناً مستقلاً سجله علماء الاجتماع كمرحلةٍ من مراحل التطور الاجتماعي، كما سجّلته الكتب السماوية باعتباره موقفاً « غير مقبول» من وجهة نظر دينية، وصفه القرآن الكريم وصفاً بسيطاً وحقيقياً حيث جاء فيه: «بل نتبع ما ألفينا عليه آباؤنا».وهذا ما أوجد حالة الانشطار عند بعض المسلمين، حيث ولّد في نفوسهم الشك والحذر من كل محاولات الاستفادة من التعامل مع (غير المسلمين) والأخذ بأفكارهم، ما دامت هذه الأفكار - على حد زعمهم - قد ولدت ونمت خارج إطار الإسلام وفي غير داره!!.. ووجهت أصابع الاتهام للمسلمين الذين ينادون بالتعامل الحضاري مع (غير المسلمين) بأنهم يفرطون في تمييز الإسلام ويعرضونه للضياع.. مع أن كل الفرق الإسلامية وفي كل بقاع الأرض غير قادرة على عزل نفسها من التعامل المباشر مع هؤلاء ـ غير المسلمين ـ عبر المبتكرات والمخترعات وكافة وسائل حياة الرفاهية التي تكتنف حياتهم وهي من نتاج هؤلاء!!..ورغم الضجة الكبرى التي أحدثها نشر كتاب (الإسلام وأصول الحكم) فإنه لم يُصادر، وقد صدرت منه طبعةٌ جديدة أخيراً قامت بنشرها دار نشرٍ تشرف عليها الدولة. أما المؤلف الشيخ علي عبد الرازق ففي مسيرة حياته ما يشير إلى أنه قد نجح في عضوية مجلس النواب، ثم صار عضواً في مجلس الشيوخ المصري.. وكان له في كلا المجلسين مواقف إسلامية جريئة رشّحته لكي يكون وزيراً للأوقاف مرتين، ووزيراً للمعارف بالنيابة، وأن يحصل على الباشوية وأن يدخل مجمع اللغة العربية عضواً له نشاطٌ فاعل حتى رحل إلى رحاب ربه عام 1966.ولقد صدق في تكريم الرجل الدكتور ابراهيم بيومي مدكور ـ رئيس المجمع اللغوي ـ يوم تأبينه عندما قال: (نودع رجلاً استطاع أن يقول كلمة الحق برغم البطش والاستبداد.. وها هو ذا الأزهر الذي حكمت محكمته بسحب العالمية عنه وطرده من وظيفته كقاضٍ شرعي يودعه اليوم في تكريمٍ وتبجيل.. وها هو التاريخ يصحح ما يفسده أحياناً ). [c1]* كاتب كويتي[/c]
|
فكر
الشيخ علي عبدالرازق ثورة لم تهدأ بعد!!
أخبار متعلقة