أبو الطيب المتنبي
عمر عبد ربه السبعقيل عن أبي الطيب المتنبي أحمد بن الحسين أن والي حمص سجنه في أواخر عام 321هـ بدعوى إدعائه النبوة وهو بعد في ريعان الشباب في بادية السماوة في الشام، أما مولده فكان في الكوفة في عام 303هـ واهتم بدراسة الأدب والشعر تحصيل العلوم فيها حتى عام 320هـ .. وهناك من قال أن أبا الطيب أعلن عن نسبه للعلويين في الشام عام 321هـ وأنه فوق ذلك كان يكثر من ذكر الأنبياء في شعره كقوله الشهير:" يا مقامي بأرض نخلة إلا[c1] *** [/c]كمقام المسيح بين اليهود "ولا أخال هذا الادعاء صحيحاً في الواقع إلا إذا كتب الشاعر بعض أبيات فيها من فوران الشباب وتبجحه ما يوحي بادعاء النبوة، وإن كنت متفقاً مع الشاعر رهين المحبسين أبي العلاء المعري في كتابه " معجز أحمد " الذي رأى أن المتنبي ( أبا الطيب) لقب بهذا من النبوة وهي المكان المرتفع من الأرض، كناية عن رفعته في الشعر..عموماً قيل أن أحد الأمراء توسط للشاعر أبي الطيب أحمد بن الحسين عند والي حمص فأطلق سراحه لزلة لسانه في عام 323هـ، وبقي في الشام حتى عام 325هـ، فحن إلى الكوفة وشد رحاله لها ومكث فيها عام أو بعض عام ثم عاد كرة أخرى إلى الشام في عام 326هـ واستقربه المقام هنالك مدة عشر أعوام ونيف..والحقيقة أن الشاعر أبا الطيب المتنبي كان منذ باكورة أعماله شاعر البطولات والطموحات الكبيرة والاعتداد بالنفس وهو القائل : لا بقومي شرفت بل شرفوا بي[c1] *** [/c]وبنفسي فخرت لا بجدودي " وهذا البيت تأكيد آخر بأنه لم يدعي أنه من العلويين.. وقد قيل أن شعر المتنبي مرآة نفسه.. فقد عاش أبو الطيب المتنبي طفولته في زمن مضطرب في نهاية الخلافة العباسية، وقد صلب الحلاج بعد أن عذب بسبب اعتقاده الصوفي عندما كان أبو الطيب أحمد بن الحسين طفلاً في السادسة من العمر، وعاش المتنبي فترة انهيار الحضارة العربية الإسلامية.فعلى رغم تعفف الشاعر أبو الطيب المتنبي عن اللهو والمجون ومعاقرة النساء إلا أنه ترك أبياتاً جميلة كقوله في صرعى الحب : إن القتيل مضرجاً بدموعه[c1] *** [/c]مثل القتيل مضرجاً بدمائه "ففي كتاب ( مع المتنبي ) لعميد الأدب العربي طه حسين رأى أن أبا الطيب المتنبي مصاب بمرض نفسي وقد قال عنه بأنه مكتئب ضحك مرة واحدة فقط في حياته حين قال عن رجلين قتلا جرذاً :لقد أصبح الجرد المستغير[c1] *** [/c]أسير المنايا صريع العطبرماه الكناني والعامري[c1] *** [/c]وتلاه للوجه فعل العرب وقيل أيضاً أن عباس محمود العقاد وعلي آدم قد اتفقا على رأي طه حسين في المتنبي ووصما مرضه " بداء العظمة " .أليس هو القائل :وإني لمن قوم كأن نفوسهم[c1] *** [/c]بها أنف أن تسكن اللحم والعظما "والقائل :" وما الدهر إلا من رواة قصائدي[c1] *** [/c]إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا "لقد استصفى سيف الدولة الحمداني أبا الطيب المتنبي قرابة عشر سنوات منذ عام 337هـ حتى عام 346هـ، فغرد المتنبي وأبدع فصب عصارة أدبه وعلمه في قصائده لسيف الدولة والذي لم ينس أن يفرد جزءاً من القصائد لنفسه الطموحة بيد أن رثاءه لخولة شقيقة سيف الدولة الحمداني، مع ذكر حسن مبسمها ربما كان رثاء غير مقبول لبنات الملوك، كما أن الوشاة والحاسدين قد أضرموا النار في قلب سيف الدولة الحمداني حتى فصلوا حلقة الوصل بينهما فثارت ثائرة المتنبي لاسيما عندما آثر الحمداني الصمت للاهانة التي تعرض لها الشاعر أبو الطيب في مجلسه فقال في حضرته القصيدة الشهيرة :وأحر قلباه ممن قلبه شبم[c1] *** [/c]ومن بجسمي وحالي عنده سقموجاهل مده في جهله ضحكي[c1] *** [/c]حتى انته يد فراسة وفمإذا رأيت نيوب الليث بارزة[c1] *** [/c]فلا تظن أن الليث يبتسم **الخيل والليل والبيداء تعرفني[c1] *** [/c]والسيف والرمح والقرطاس والقلم **يا من يعز علينا أن نفارقهم [c1] *** [/c]وجداننا كل شيء بعدكم عدم فهو على حاله هذه المتعبة استقدمه كافور الاخشيدي والي مصر من سنة 346هـ حتى سنة 350هـ ليحظى بمدحه، بيد أن أبا الطيب المتنبي اختلف كثيراً مع كافور وخاف على نفسه منه بعد أن أدرك ما كان كافور يضمر له واستغل ليلة عيد الأضحى ليهرب من مصر وينجو من واليها كافور، وقد قال في ذلك شعراً :"عيد بأي حال عدت يا عيد[c1] *** [/c]بما مضى أم لأمر فيك تجديدأما الأحبة فالبيداء دونهم[c1] *** [/c]يا ليت دونك بيد دونها بيد "وقد اتسم شعر أبي الطيب بالمعاني والألفاظ الجزلة، ويحتاج فهم بعضه إلى دربة وقراءة في أمهات الكتب الأدبية واللغوية، وخبرة في أساليب الصياغة..وقد ذهب أبو الطيب المتنبي بعدها إلى عضد الدولة في شيراز بفارس بعد أن مر على الكوفة وبغداد في عام 351هـ.. وظل هناك حتى عام 354هـ رغم حذره وكرهه الشديد لأهل فارس وبني بويه، فهو يقول في أحد قصائده :" مغاني الشعب طيباً بالمغاني[c1] *** [/c]بمنزلة الربيع من الزمانولكن الفتى العربي فيها[c1] *** [/c]غريب الوجه واليد واللسانملاعب جنة لو سار فيها [c1] *** [/c]سليمان لسار بترجمان " وقد استأذن أبو الطيب المتنبي عضد الدولة البويهي لزيارة الكوفة، وكان القدر له هناك بالمرصاد، حين قتل في الطريق إلى الكوفة عند دير العاقول على يد فاتك بن أبي جهل الأسدي وجماعته وهم أقارب الضبة بن يزيد الأسدي الذي هجاءه أبو الطيب ذات يوم بقوله :" ما أنصف القوم ضبة[c1] *** [/c]وأمه الطرطبة "وقتل مع أبي الطيب المتنبي ابنه الوحيد محسد وغلامه مفلح ومن معه من جماعته وكان ذلك في نهاية رمضان من عام 354هـ.لقد امتاز شعر أبي الطيب المتنبي بما عبر عن ما يختلج في نفس الإنسان العربي من أنف واعتزاز، وحزن واكتئاب، كما أن بعض شعره جرى مجرى الأمثال لما فيه من بلاغة وحكم وفهم ومحاكاة للطبيعة الإنسانية وحسبنا أن نقتبس من ديوانه هذه الأقوال :ما كل ما يتمناه المرء يدركه[c1] *** [/c] تجري الرياح بما لا تشتهي السفن وذو العقل يشقى في النعيم بعقله[c1] *** [/c] اخو الجهالة في الشقاوة ينعم لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى[c1] *** [/c]حتى يراق على جوانبه الدم أعز مكان في الدنا سرج سابح[c1] *** [/c] وخير جليس في الزمان كتاب من يهن يسهل الهوان عليه[c1] *** [/c] ما لجرح بميت إلام الرأي قبل شجاعة الشجعان[c1] *** [/c] هو أولاً وهي المحل الثاني " إن المتنبي لم يأمن شر الزمان، فكانت شقاوة حياته ولذتها في تنقله وأسفاره بين الكوفة والشام مروراً بشيراز، فإذا لم يفرح الزمان المتنبي ويضحكه، فإن قصائده وحكمه التترى قد أتحفتنا وأضحكتنا على ما سطرت أنامله من مدح وهجاء وفخر وسخرية على غدر الزمان وعلى رجالات الدولة وحكام ذلك الزمان، ولا تفتأ حكمه تجد أصداء قوية في الواقع المعاش، وتحرك فينا الشعور بالنخوة العربية. فإن كانت حياته قد تم تدوينها من أشعاره، فإن في الشعر ما قد تحكمه المبالغة، ولما لا تكون المبالغة هي الحقيقة أو جزء عظيم منها..