منبر التراث
محمد زكريا[c1]الإسقاط التاريخي [/c]المعروف عن إخواننا المصريين خفة الدم ، والنكات اللاذعة التي يطلقونها تعبيرا عن قضية ( ما ) . والحقيقة أنه من يرجع إلى اللغة المصرية القديمة ، يجد في ورق البردي أو على جدران المعابد الفرعونية النكات التي كان يطلقها المصريون القدامى على بعض حكامهم القساة . وكانت ميزة تلك النكت أنها كانت مغلفة بالتورية أي المقصود هو المعنى البعيد ، حتى لا يقعون تحت بطش هؤلاء الحكام الظالمين أو بمعنى آخر أن تلك النكت التي كانت تنطلق من أفواه الناس كانت تأخذ شكل إسقاط تاريخي . [c1] النكتة السياسية [/c]والحقيقة أن سبب كتابتي عن النكتة أو النكات المصرية هي انعقاد ندوة علمية مؤخرا في كلية الآداب قسم التاريخ في جامعة القاهرة حول النكتة أو النكت السياسية المصرية . ولقد طرح أحد الباحثين المصريين شخصية مشهورة تبوأت مساحة كبيرة من النكت أو النكتة المصرية اللاذعة والساخرة وهي شخصية بهاء الدين قراقوش . ومن المعروف تاريخيا أن بهاء الدين قراقوش هذا كان أحد قادة صلاح الدين الأيوبي في مصر , وكانت مهمته الحفاظ على الشئون الداخلية في مصر . ويبدو أن قراقوش هذا كان شخصية صارمة من طبعه . وكان حاد المزاج ، وكان يصدر قرارات حازمة أقرب منها إلى القسوة . وكان من البديهي أن تلك القسوة لن يستطيع المصريين تقبلها . وذلك بسبب طبيعتهم المحبة للمرح ، والرحمة والتآلف البعيدة كل البعد عن القسوة والغلظة اللتين كان يتبعهما قراقوش في معاملتهم .[c1]التنفيس عن الغضب [/c]وكيفما كان الأمر ، فقد ساد بين المصريين التذمر ، والسخط بين فئات المجتمع المصري وخاصة بين العامة من الناس إزاء قرارات حكم قراقوش التعسفية والقاسية . ولم يجد العامة من المصريين للتعبير والتنفيس عن غضبهم وسخطهم لقرارات حكم قراقوش سوى النكت أو النكتة . وصارت عبارة " حكم قراقوش " حتى هذه اللحظة تعني التعسف ، والجور. [c1] جسور مقطوعة [/c]وفي الواقع لقد كتب الأستاذ الدكتور شوقي ضيف كتابا رائعا وممتعا حول النكت أو النكتة المصرية وكيف أنها كانت بمثابة متنفسا للناس من ناحية ونقدا لاذعا للحكام الذين يجانبون طريق العدل والرحمة بين رعاياهم من ناحية ثانية . ويشرح الدكتور شوقي ضيف بأن النكت أو النكتة المصرية ما هي في حقيقتها إلا أحدى الأدوات الذي يمكن أن يستخدمها الباحث في دراسة فترة معنية من فترات تاريخ المصريين ، فكثرة النكات تعنى أن هناك خلل ( ما ) في الحكم في الحاكم أو أن هناك جسور مقطوعة بين الحاكم والمحكوم . ويعقب الدكتور ضيف بأن النكتة أو النكت تعد أخطر سلاح ضد الحكام الجبابرة والطغاة . [c1] النكتة نبض المواطن [/c]وإذا عدنا إلى تاريخ مصر الفاطمي ، في عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله المقتول في سنة ( 411 هـ / 1020 م ) ـــ والتي دبرت قتله أخته ست الملك ــ . ويصف دكتور أحمد شلبي شخصيته في كتابه ( موسوعة التاريخ الإسلامي) ، إذ يقول: " نحن الآن أمام شخصية غامضة هي شخصية الحاكم بأمر الله ، شخصية كثرت عنها الأبحاث كثرة بالغة ، اشترك فيها المستشرقون والشرقيون ، ولا يزال الباحثون حتى اليوم يكتبون عنه دراسات مقتضبة أو مستفيضة ، ومع هذا فلا يزال الحاكم بأمر الله غامضا حتى ليبدو أنه انطوى ومعه كثير من الأسرار والأخبار " .وكان من البديهي أن تلك الشخصية الغامضة والمضطربة الأهواء ، أن تتصدر النكت أو النكتة المصرية . فلم يعد الباحث أو الباحثين يدرسون التاريخ فحسب ، بل هناك عوامل مساعدة لدراسة التاريخ منها الروايات الشعبية ، والمسكوكات ، والحفريات ، وأخيرا النكتة أو النكت . ويقول أحد المصريين الباحثين أن النكت أو النكتة كانت وما زالت أمضى سلاح للمعذبين في الأرض من ناحية وصارت تعبر عن نبض المواطن تعبيرا صادقا عما يجيش في نفسه من ناحية أخرى .