أضواء
كان المفكر الفرنسي “مونتسكيو”، يولي الطبيعة الجغرافية وما يتعلق بها من شروط وظروف مُناخية، أهمية خاصة في حياة المجتمعات، وذلك إلى درجة ربما اقتربت من نمط ما من أنماط الحتمية الطبيعية. وكذلك، كان العلامة ابن خلدون ينحو بعض هذا النحو، ومعه آخرون من الفكر العربي والفكر العالمي. ووصل الأمر لدى هؤلاء أنهم فتحوا مجالاً علمياً للتحدث عن “ثوابت طبيعية جغرافية” في حياة البلدان المختلفة، أما مصداقية ذلك فنواجهها حتى اليوم، مثلاً في “ثنائية الشمال والجنوب، والحضَر والمدَر، والماء والصحراء».وإذا كانت نظرية الطبيعة الجغرافية الحتمية صحيحة بقدرٍ ما وباعتبارٍ ما، إلا أنها -من ناحية أخرى- خاطئة وعاجزة عن تفسير تحولات حضارية عظمى من نمط تلك التي تطرأ على البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها. وقد اتضحت مصداقية ذلك، حين راحت حكومات ودول تتدخل في الجغرافيا الصعبة الوعرة في بلدانهم، بهدف إعادة بنيتها ضمن استراتيجية أنسنتها وترويضها. كان ذلك وما زال، حين نشأت مشاريع التوطين البشري في المحيطات والجبال وغيرها، وأقرب الأمثلة إلى ذلك تلك الجهود التي بُذلت في عهد الاتحاد السوفييتي السابق باتجاه أنسنة مناطق في سيبيريا، الشهيرة بانخفاض درجة أو درجات حرارتها إلى حدود يستحيل العيش البشري فيها. أما المثل الأكثر قرباً إلى عهدنا الراهن، فيتمثل في المشاريع الكبرى، التي قامت بإنجازها بلدان في الخليج العربي والجزيرة العربية على طريق التحضير والتطوير والتحديث، أي تحويل الطبيعة الصحراوية القاسية وما يلحق بها، إلى واحات وحقول إنسانية مزدهرة، بغض النظر عن أن وتائر التوافق بين النهوض العمراني وبين ما يستتبعه من نهوض في منظومات القيم العلمية والجمالية والثقافية العامة ما تزال تتطلب جهوداً أخرى حثيثة باتجاه تأصيلها وتعميقها وتحديثها.ويهمنا في هذا السياق أمر ذو أهمية خاصة تنعكس سماته وعقابيله على وتائر التوافق المذكورة، وهو الصعوبات البشرية التي تقف في وجه ذلك، وهي صعوبات تتحدر -في قسم منها- من منظومات القيم المتعلقة بالموقف من العمل الاجتماعي الاقتصادي، وما يتصل به من مهن وحرف. فهذا موقف مشوبٌ بكثير أو بقليل من الازدراء أو -على الأقل- بالتثاقل حياله. وكان من بعض نتائج ذلك أن تبلور مطلب في سوق العمل، يتحدد في إنتاج دعوة لآخرين من بلدان أخرى، مثل الفلبين، كي يقوموا بالأعمال التي يربأ المواطنون عن القيام بها. وبغض النظر عن الخلفيات القابعة وراء ذلك -وبعضه يتحدر من تراث الصحراء- فإن هذا الموقف يُحدث شرخاً في نظام العمل كما في الحياة المجتمعية العامة في البلدان الخليجية المعنية، إضافة إلى إمكانية اختراق شخصية المواطن الخليجي العربي بتحويلها إلى ثنائية حادة بين العمل والنظر.مع ذلك كله، تبقى الفكرة المركزية والخطيرة في ذلك، وهي أن التّمكين للعمالات الأجنبية للقدوم إلى البلد الخليجي العربي عبْر تقديم التسهيلات بحجّة أن القادمين سيسهمون في بناء البلد، قد يُفضي إلى ما حذّر منه ونبّه إليه مسؤول بحريني قبل ما يزيد على الأسبوعين، حين قال بوضوح: إن العمالة الوافدة في بلدان الخليج العربي تعدّ الآن سبعة عشر مليوناً من الأفراد، وسيصبح هذا العدد بعد عشر سنين ثلاثين مليوناً. وتابع المسؤول معلناً أن تلك المعطيات المحتملة سيترتب عليها إعادة النظر -وباسم القانون وحقوق الإنسان- في النظام الديموغرافي (السكاني) والسياسي والثقافي والقانوني القائم في البلد الخليجي العربي، الذي يتعرض لذلك.على ذلك النحو المُفعم بالتوقعات الخطيرة، تجد البلدان الخليجية العربية نفسها أمام مخاطر القضْم والتقسيم والتجزئة؛ مما قد يكوّن حلقة جديدة في المشروع العولمي القائم على تفتيت وتقسيم ما هو قائم عربياً بقدر أو بآخر. وسينضاف حينذاك إلى الإسكندرونة وعربستان، مناطق جديدة تُنتزع من وطنها الأم، الوطن العربي. إن المشروع العربي في النهضة والتنوير لا يقوم على نهضة الوطن وتنويره فحسب، وإنما كذلك على الحفاظ عليه كلاً وجزءاً.* عن / صحيفة (الاتحاد) الإماراتية