من نافل القول أن مهمة بناء الإنسان الجديد تعد من أبرز الأهداف المحورية في البرنامج الانتخابي لفخامة الرئيس علي عبدالله صالح باتجاه مواصلة عملية بناء اليمن الجديد والدولة الوطنية الحديثة ، الأمر الذي يستوجب وضع مهمة صياغة وعي الناس وبالذات الشباب في صدارة الرؤية الإستراتيجية السياسية والثقافية والإعلامية التي يتوجب على الدولة صياغتها وبلورتها . وهو ما يستلزم استخدام وسائل بناءة تؤهل البيئة السياسية لتجاوز الرواسب الموروثة عن عهود التخلف ، وتجفيف منابع التعاطي التكتيكي مع المشاريع الصغيرة، ومنع توظيف النعرات والعصبيات المناطقية والمذهبية والجهوية من أجل تصفية حساباتها السياسية مع السلطة والمؤتمر الشعبي العام وحكومته، بهدف الوصول إلى الحكم، بصرف النظر عن نوع الوسائل التكتيكية المستخدمة لبلوغ هذا الهدف، بما فيها التحالفات الخارجية أو الداخلية. ما من شك في أن الحزب الحاكم وهو يواجه تحديات ومخاطر المشهد السياسي الراهن مُطالبٌ بتجنب مخاطر اللجوء إلى وسائل تكتيكية يستخدم من خلالها نقيض مشروعه الوطني الديمقراطي لخوض معارك مع القوى المعارضة له بالنيابة عنه، من أجل إضعاف المعارضة والبقاء في السلطة، على نحو ما تفعله أحزاب ((اللقاء المشترك)) في حراكها السياسي الجديد حيث تبرر لنفسها التعاطي مع مشاريع صغيرة كوسائل تكتيكية لخدمة أهدافها الإستراتيجية المتمثلة بإضعاف الحزب الحاكم والوصول إلى السلطة. إنّ أخطر ما يمكن أن ينشأ عن تأخر الحزب الحاكم في صياغة رؤية استراتيجية جديدة تؤهله لمواجهة التحديات الراهنة، هو الوقوع في مأزق المعارضة الذي أفرزته مراهناتها على إمكانية خوض معارك حاسمة مع السلطة من خلال بدائل متخلفة ومشاريع ميتة بقصد إرباك الخصم وإضعافه وسيكون خطأً فادحاً قيام الحزب الحاكم بالسير على نفس المنوال من خلال المراهنة على إمكانية خلط الأوراق واستخدام بدائل متخلفة لمواجهة أحزاب ((المعارضة))، وانتزاع بعض المساحات التي تتحرك فيها وتسليمها لبدائل أخرى متخلفة ، بدلاً من استيعاب هذه المساحات والتمدد فيها لصالح النهج السياسي والبرنامج الانتخابي للحزب الحاكم. لا يجوز تجاهل حقيقة أنّ الوضع السياسي الراهن في البلاد مرشح للدخول في أزمات جديدة بفعل تراكم عدد من السلبيات والإشكاليات والأخطاء التي من شأن استمرارها والتأخر عن معالجتها إضعاف قدرة الدولة والمجتمع السياسي على مواجهة هذه الأزمات والتحديات وفي مقدمتها حرب صعدة وآثار حرب 1994م ومفاعيل تداعيات الحراك السياسي في المحافظات الجنوبية بأبعاده المثيرة للقلق تحت مسمى ((القضية الجنوبية)).. وهي عناصر محورية في الإستراتيجية الهجومية الراهنة لأحزاب ((اللقاء المشترك)) والخطاب السياسي التعبوي لماكنتها الدعائية. وقد حرص كاتب هذه السطور في مقالات سابقة على عرض وتحليل مضمون وأبعاد الخطاب السياسي والإعلامي لأحزاب المعارضة المنضوية في إطار ((اللقاء المشترك)) باعتبارها القوة المحركة للنشاط السياسي المعارض في ظل النظام الديمقراطي التعددي، ومقاربة هذا الخطاب بالممارسة العملية لهذا التكتل المُعارض الذي يتصدره ((حزب التجمع اليمني للإصلاح والحزب الاشتراكي اليمني)). ولما كان المشهد السياسي الراهن يتسمُ بتحدياتٍ ومخاطر جدية تهدد وحدة الجمهورية اليمنية ونظامها السياسي الديمقراطي وثوابتها الوطنية فقد خلصنا في تلك المقالات إلى التأكيد على ضرورة عدم الفصل بين الخطاب السياسي والإعلامي لأحزاب ((اللقاء المشترك)) وبين الحراك السياسي الميداني لهذين الحزبين اللذين يسعيان إلى تأزيم الحياة السياسية بعد أن كانا فاعلين رئيسيين في جميع الأزمات السياسية التي شهدتها البلاد أثناء مشاركتهما في السلطة ، إلى جانب المؤتمر الشعبي العام منذ المرحلة الانتقالية 1990 ـ 1993م، مروراً بالائتلاف الثلاثي الذي ضم التجمع اليمني للإصلاح إلى جانب المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني 1993 ـ 1994م، وانتهاءً بالائتلاف الثنائي بين المؤتمر والإصلاح 1994 ــ 1997م، على إثر خروج الحزب الاشتراكي اليمني من السلطة بعد حرب صيف 1994م وفشل مشروع الانفصال، حيث استمر هذا الائتلاف الذي لم يخل هو الآخر من الأزمات حتى الانتخابات البرلمانية لعام 1997م والتي أسفرت عن فوز المؤتمرالشعبي العام بأغلبية مريحة، منحته الحق الدستوري في تشكيل حكومة منفردةٍ ، لتطبيق برنامجه الانتخابي الذي حاز على ثقة غالبية الناخبين . ما أدى إلى خروج حزب ((الإصلاح)) من السلطة إلى المعارضة ، وانضمامه إلى الحزب الاشتراكي وبعض أحزاب المعارضة في إطار ((اللقاء المشترك)). على خلفية دور ((الإصلاح)) و((الاشتراكي)) في صناعة الأزمات السياسية أثناء مشاركتهما في السلطة، واصل ((اللقاء المشترك)) تحت قيادة هذين الحزبين نهجهما السابق من خلال صياغة خطاب سياسي وإعلامي يتسم بالمجابهة والمكايدة، والاشتغال على صناعة الأزمات وتأجيج الفتن وتشويه الحقائق، واستغلال مصاعب النمو وتأثير اختلالات الوضع الاقتصادي العالمي على الأوضاع الاقتصادية الداخلية، وتوظيفها سياسياً بهدف افتعال مصاعب إضافية تدفع البلاد أثمانها من رصيد حاضرها ومستقبلها. ويمكن القول إنّ أحزاب ((اللقاء المشترك)) وجهت بنهجها القائم على تأزيم الحياة السياسية والدفع بها نحو المجابهة ، ضربة لقواعد العملية الديمقراطية التي تضمن لأحزاب الأقلية المعارضة حقوقها السياسية في المشاركة باتخاذ القرارات والسياسات التي تتعلق بالمصالح العليا والبلاد، سواء من خلال دورها في هيئات السلطة المنتخبة ، وحقها في معارضة الحكومة وسياساتها عبر الصحافة الحرة وغيرها من وسائل التعبير ، بما في ذلك المشاركة في اتخاذ القرارات ورسم السياسات من موقعها في المعارضة، أو من خلال الحوار مع الحزب الذي يقود السلطة، ناهيك عن مبادرات فخامة رئيس الجمهورية رئيس المؤتمر الشعبي العام التي دعا فيها هذه الأحزاب للجلوس على طاولة الحوار ، بهدف مناقشة مختلف القضايا ، انطلاقاً من قناعةٍ صادقةٍ وعقل مفتوح يساعدان على البحث عن الحلول والمعالجات، وبعيداً عن المطامع الحزبية والفئوية والمناطقية والشخصية الضيقة، وبما يخدم المصالح الوطنية العليا أولاً وأخيرا. والحال أن أحزاب ((المشترك)) دأبت على الهروب من خيار الحوار إلى خيار المكايدة والمجابهة والمتاجرة بالشعارات والإفراط في تشويه الحقائق ، واختارت خيار اللجوء إلى الشارع مدفوعة بأوهام القدرة على انتاج نسخة يمنية لثورة برتقالية تؤدي الى اسقاط النظام السياسي عبر الشوارع، وهو خيار يعكسُ منطقاً سياسياً شمولياً ومتطرفاً، ويفقد أصحابه القدرة على استيعاب المتغيرات والمشاركة في صناعتها. يتحمل الخطاب السياسي والإعلامي الذي صاغه ((اللقاء المشترك)) مسؤولية كبيرة ليس فقط عن المخاطر التي قد تنجم عن نهج المجابهة الذي يشكل المحتوى الرئيسي لهذا الخطاب المدمر، بل أنّه يتحمِّل أيضاً المسؤولية عن المأزق الحاد الذي ستجد هذه الأحزاب نفسها فيه، منذ فشل ((اللقاء المشترك)) في الانتخابات البرلمانية لعام 2003م، والانتخابات الرئاسية والمحلية لعام 2006م، حيث عجزت هذه الأحزاب عن استيعاب معايير الديمقراطية التعددية والتكيف والتعايش مع نتائج الانتخابات واستخلاص الدروس منها، وهو ما يفسر عدم قبول هذه الأحزاب بحق المؤتمر الشعبي العام في تنفيذ برنامجه الانتخابي الذي حصد أغلبية أصوات الناخبين ، ونزوعها نحو الانقلاب على الديمقراطية من خلال المراهنة على امكانية تحريض الشارع ضد نظام الحكم ، وتشويه الحقائق وإحياء النزعات المناطقية ورفع الشعارات الانفصالية ، والمراهنة على إعادة إنتاج الأزمات السياسية كوسيلةٍ لتعطيل المؤسسات الدستورية المنتخبة. يقينا ان الخطاب السياسي والإعلامي لأحزاب ((المشترك)) يتسم بطابع براغماتي انتهازي كيدي من خلال التركيز على تشويه صورة العملية الديمقراطية والنظام السياسي ومؤسساته، وهو ما يُفسِّر سعي هذه الأحزاب من خلال هذا الخطاب على الانخراط في برامج نشر الديمقراطية التي تموِّلها وتسوِّقها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي ، بواسطة منظمات غير حكومية تسيطر عليها إدارات موالية للإستراتيجية الصهيونية في الشرق الأوسط، وتوظف هذه البرامج لإجهاض التحولات الديمقراطية الجارية في العالم العربي. وبناءً على ذلك يمكن مقاربة الآثار السلبية لهذا الخيار المدمر بالأهداف الإستراتيجية، لبرامج نشر الديمقراطية التي تموِّل وتوجه من الخارج، فيما تتولى أحزاب ((المشترك)) تنفيذها في الداخل، حيث تتميَّز هذه الإستراتيجية بتسويق سياسة إحراق المراحل التي تؤدي إلى ما تسمى ((الفوضى الخلاقة)) وتحول في نهاية المطاف دون بناء بيئة سياسية وثقافية وإعلامية على أساس معطيات تراكمية تهيئ لانتقال آمن وناضج من مرحلة الديمقراطية الناشئة ، إلى مرحلة لاحقة تتسم بمزيدٍ من الديمقراطية القابلة للاستمرار والنمو، الأمر الذي من شأنه وضع المعارضات العربية في حالة صدام دائم مع عملية إعادة بناء الدولة والمجتمع السياسي على أُسسٍ ديمقراطية، وما يترتب على ذلك من زعزعة للاستقرار السياسي والسلم الأهلي وكبح آليات التطور الديمقراطي التراكمي في العالم العربي، بحيث تبدو إسرائيل في صورة الدولة الديمقراطية الوحيدة في منطقة غير مؤهلة لاستيعاب قيم الحرية والديمقراطية والمساواة في المواطنة وحقوق الإنسان.في هذا السياق تساعد القراءة الدقيقة لأبعاد المشهد السياسي الراهن على إدراك حقيقة أن أهم ما يميز الحراك السياسي لأحزاب (( اللقاء المشترك )) هو الافراط في المراهنة على خيار الثورة الشعبية السلمية بواسطة تشغيل مفاعيل البدائل المتخلفة والمشاريع الميتة في الشارع، والخلط بين الحرية والفوضى بواسطة الماكنة الإعلامية المعارضة ، وهو ما يتجلى في مراهناتها على إثارة تداعيات حرب صعدة وآثار حرب 1994 ومخاطر تنظيم القاعدة في اليمن على نحو يدفع بتدويل هذه القضايا الثلاث ، وهو ما يستدعي القراءة الموضوعية لهذه القضايا الثلاث ، وتحليل مواقف أحزاب اللقاء المشترك منها ، وهو ما سنحرص على تناوله في مقال لاحق بإذن الله . لا ريب في أن ثمة علامات بارزة في مسار الديمقراطية الناشئة في بلادنا وهي الميل نحو مزيد من حرية التفكير وحرية التعبير وعلنية المناقشات ، بيد ان الحرية والعلنية غير معصومتين على الدوام من الإنحراف نحو الفوضوية ، الأمر الذي يتطلب اسلوبا ً واقعيا ً في التعامل مع المنابع الفكرية والاجتماعية للميول الفوضوية في المجتمع بصرف النظر عن عدم تجانسها .من الخطأ الإعتقاد بأن الجانب الأكثر جاذبية في الفوضوية هو نزعتها المتمردة على الأوضاع والوقائع السلبية ، بل ان الجانب الأكثر جاذبية فيها هو ثوريتها المتسمة بالجموح الفوضوي تارةً، ونفاد الصبر ضد كل شيء تارة ً أخرى .وهنا تبرز اهمية الديمقراطية في التعامل مع الجانب الأول بوصفه احتياطيا ً مباشرا ً لآيديولوجيا القفز على الواقع ، وما يترتب عنها من انحرافات انتهازية ، ومع الجانب الثاني بوصفه خطرا ً مباشرا ً على التطور الموضوعي للديمقراطية ، وتهديدا ً بالعودة الى الشمولية والاستبداد . وبوسع التحليل النقدي للانحرافات الإنتهازية أن يقودنا الى إستنتاج هام ، وهو ان بروز تلك الانحرافات ارتبط على الدوام بمصادرة الديمقراطية وتضييق قنواتها وتعطيل أطرها، بقدر ما ارتبط النضال ضد تلك الانحرافات بممارسة الديمقراطية وإشاعتها في المجتمع.من نافل القول ان إرساء دعائم المناقشات الحرة والعلنية بين مختلف الأفكار والآراء ، يعد ــ من الناحية العملية ــ نقداً مباشرا ً للأخطاء التي ارتكبت في الماضي، أثناء هيمنة الثقافة السياسية الشمولية ونزعات التفكيرالدوغمائي التي ارتبط وجودها بغياب الديمقراطية . والثابت ان تنوع الآراء والأفكار والخيارات في مجرى الممارسة السياسية لا يـضعف وحدة المجتمع ، بل إنه يساعد على توسيع نطاق الاشتغال على إعادة بناء السياسة وتطويرها ، بدلا من حصرها في نخب فوقية تحتكر الممارسة السياسية بصورة مطلقة ، وتحترف الاشتغال على صناعة الأزمات .[c1]* عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]
|
فكر
مأزق الاشتغال على صناعة الأزمات
أخبار متعلقة