رسالة دكتوراه :
[c1]* العولمة الراهنة هي محصلة لمشروع الحداثة وهي محصلة للعقلانية والعلم التجريبي الحديث* ثقافة مابعد الحداثة هي الإطار الفلسفي الأكثر تعبيراً عن عالمنا الراهن وعصر العولمةالاستنتاجات العامة للبحث :" الجزء الاخير" [/c]ثالثاً : في ضوء هذه المعطيات والاستنتاجات التي توصلت اليها الدراسة فإن الاجابة عن تلك الاشكالية المتعلقة بالسؤال : هل العولمة نتاج للحداثة ام لما بعد الحداثة؟ام هي نتاج للحداثة وما بعد الحداثة في ان معاً ؟ فإنه لامفر من القول على ضوء مناقشتنا لهذه الاشكالية:1- ان الحداثة قد شكلت محطة مهمة في اطار التحولات الفكرية للعولمة ، فالحداثة بلورت منذ البداية اطراً كونية، او عولمة تبدو اليوم مشتركة بين مختلف الثقافات الانسانية ، واصبح من الجائز القول : ان العولمة الراهنة، بهذا المعنى او ذاك ، هي محصلة لمشروع الحداثة ، هي محصلة للعقلانية وللعلم التجريبي الحديث من حيث هو الاساس المعرفي الذي قامت عليه المعرفة المعاصرة ، التي تحاول البعض من تياراتها اليوم ، الارتداد عليه من خلال وعبر التشكيك بتلك الاسس الفكرية والفلسفية التي قامت عليها حضارة العصر الراهن.2- العولمة هي محصلة لنزوع الحداثة الراسمالية نحو الكونية من خلال الانتشار والتوسع وتجاوز كل اشكال الحواجز والحدود، التي تحد من حركتها الباحثة عن المزيد من الثروة والاسواق، وقد تبين لنا - في سياقات مختلفة من الباب الاول من الدراسة - ان الحداثة كانت قبل كل شيء عملية دينامية مستمرة من التوحيد والقولبة الكلية، استطاعت بالطرق المشروعة وغير المشروعة، بالطرق السلمية والحرب الاستعمارية المسلحة في تقريب الامم والثقافات ، وافرزت كل الادوات التقنية والمؤسساتية والفلسفية لتعزيز مفهوم المواطنة العالمية ، التي دعا اليها فلاسفة الحداثة منذ مراحلها المبكرة ، فضلاً عن دورهم الذي مارسوه في سياق تبرير الاستعمار الاوربي بزعم نشر المدنية ، وتعميم قيم الحرية والديمقراطية في اوساط ما اسموه الشعوب غير المتحضرة.رابعاً : اذا كانت الحداثة قد شكلت محطة اساسية في سياق التحولات الفكرية للعولمة، فإن مابعد الحداثة على ضوء العديد من معطيات الباب الثاني من الدراسة، تشكل هي الاخرى، محطة جديدة متقدمة في سياق هذه التحولات ، وبالامكان القول على ضوء المعطيات المختلفة التي ناقشناها في هذا السياق من البحث:1- ان العولمة الراهنة هي التجسيد المباشر لمجمل التطورات التاريخية العامة التي شهدها العالم منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وماتزال مجرياتها وتداعياتها مستمرة حتى اللحظة وبالتالي هي مرتبطة بمرحلة مابعد الحداثة وثقافتها الجديدة التي تحاول تأطيرها على نطاق العالم فثقافة مابعد الحداثة هي الاطار الفلسفي الاكثر تعبيراً عن هذه اللحظة التاريخية الجديدة التي تشكل عالمنا الراهن الذي يطلق عليه عصر العولمة نهاية القرن العشرين التي شكلت ثقافة مابعد الحداثة تعبيراً معرفياً للكثير من توجهاتها وتجلياتها المتعددة، بأنها تتسم ضمن ماتتسم به ، ازالة الحدود الجغرافية التي شيدتها الحداثة وارتبطت بها وكانت احد سماتها الكبرى، كما ان عالم العولمة الراهن يختلف عن عالم الحداثة ، فهو يستند الى وعي جديد بعالمية العالم، لان العالم عنده اصبح اكثر ترابطاً من اي وقت اخر، لكنه ايضاً عالم مفتوح عالم يجمع بين الوحدة والتنوع، عالم العولمة الراهن على عكس عالم العولمة المرتبطة بالحداثة ، تقلصت فيه المسافات واصبح عالم بلا حدود، في حين ان عالم الحداثة هو العالم القائم على الحدود الصارمة التي تفصل بين الدول، كما تفصل بين الافراد والثقافات ، وكل ذلك يعني ان عالم العولمة الراهن هو اقرب مايكون الى عالم مابعد الحداثة، التي تشكلت تحت تأثير نتائج الثورة العلمية والتكنولوجية في مجال الاتصال والمعلوماتية التي نجم عنها تغييرات شتى في بنية النظام الراسمالي العالمي، وقاده الى عصر العولمة الراهنة.2- لقد شكلت فلسفة مابعد الحداثة، وفقاً لذلك، اساساً معرفياً مهماً للعولمة الراهنة ذلك ان التحولات الاقتصادية والسياسية، التي قادت العالم مع نهاية القرن العشرين الى ظاهرة التوحد والتداخل بين الاقتصاد والسياسة والاجتماع، قد صاحبتها تحولات ثقافية لاتقل عنها اهمية، بل ان التحولات الجديدة التي شهدها الفضاء الثقافي قد شكل الاساس المعرفي لكل مايجري اليوم من تغيرات في مختلف المفاهيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفلسفية، ونعتقد ان التأثيرات التي تركتها ازمة الحداثة الاوربية بوجهيها الليبرالي الراسمالي والراديكالي الشيوعي اظهرت الى الوجود اشكالاً جديدة من الخطاب الفلسفي والاجتماعي اخذت - كما بينا- تتبلور في سياق البحث في ازمة مشروع الحداثة من ناحية، ووصف الواقع الجديد الذي اخذ في التشكل في سياق هذه التغيرات الجديدة، وظهرت الكثير من المصطلحات التي حاولت ان تقدم وصفاً لطبيعة المرحلة الراهنة، ومنها مصطلح مابعد الحداثة، الى جانب مصطلحات اخرى، كالمجتمع مابعد الصناعي ومصطلح القرية الكونية، ومجتمع المعلومات العالمي، وثقافة الاستهلاك،...الخ- غير ان حركة مابعد الحداثة كانت وما تزال الاتجاه الاقوى والاكثر حضوراً وتأثيراً في الاوساط الفكرية والفلسفية منذ سبعينيات القرن الماضي، والشيء المهم في ذلك، ان مابعد الحداثة قد شكلت اساساًقويا ودعما مهما للفلسفة الليبرالية الجديدة التي تشكل تقريباً نظرية العولمة بمضمونها السياسي والايديولوجي، اذ ان فلسفة مابعد الحداثة شكلت بصورة مباشرة وغير مباشرة -منذ البداية- نقداً عنيفاً ضد مشروع الحداثة ومفاهيمه وحكاياته الكبرى، فعملت من خلال ذلك على تقويض الاسس الفكرية والفلسفية والايديولوجية للشمولية ومن ثمة تقويضاً للأنظمة القائمة على اساسها ، وهو مايعني ، كما بينت الدراسة ان هناك رابطاً مشتركاً قد جمع بين العولمة ومابعد الحداثة.3- وبقدر ماهنالك من رابط مشترك يجمع بين العولمة ومابعد الحداثة في جوانب معنية بقدر ما هنالك ايضاً من نقاط اختلاف جعلت من خطاب مابعد الحداثة يتقاطع مع العولمة وخطابها الفكري، حيث لاحظنا في سياق معطيات فصول الباب الثاني من الدراسة ان فلسفة التفكيك عند جاك دريدا قد شكلت في جوهرها نقداً مهماً للعولمة الراسمالية، وقدم من خلال نقده للعولمة وخطابها السياسي والفلسفي النيوليبرالي رؤى فكرية وفلسفية تتنافى في جوهرها مع توجهات فلسفة العولمة ورهاناتها الاستراتيجية، ولاحظنا ان المنهج التفكيكي عند دريدا، قاد الى تبنيه مواقف سياسية وفلسفية مناهضة لتوجهات الخطاب النيوليبرالي الجديد، ولبعض القضايا المطروحة من قبل فلسفة مابعد الحداثة نفسها، وكانت هذه القضايا والافكار التي طرحها دريدا منسجمة مع استراتيجية التفكيك، الرافضة لكل خطاب قائم على التمركز على ذات اوسلطة او مركز خارجي فكانت بالنسبة له هذه العولمة التي اعترف بوجودها كظاهرة تعكس مجمل التطورات التكنولوجية والاقتصادية والثقافية الجديدة، هي مفهوم انساني يتجاوز مفهوم الدولة القومية وبالتالي فهي عولمة بلا مركز وهذا ماتكشف عنه بوضوح فكرة الدولية الجديدة، التي يقترحها دريدا من اجل مجابهة تناقضات وجروح العولمة ، والتي هي الاخرى " دولية" بلا مركز، فهي، كما وصفها دريدا، رباط في غير زمنه ، ليس لها قانون، ولالقب ولا اسم، ... وانها خارج الوصل، ومن غير تنسيق ، ومن غير حزب ومن غير وطن ، ومن غير امة قومية، ومن غير مواطنية ومن غير انتماء مشترك الى حزب..".ولايختلف الامر كثيراً مع ليوتار، فعلى الرغم من ان فلسفته قامت على نقد مشروع الحداثة والتشكيك بحكاياته الكبرى، والانظمة الشمولية القائمة على اساسها، وبالرغم مما قدمته هذه الفلسفة، بصورة مباشرة وغير مباشرة، من دعم لتوجهات فلسفة الليبرالية الجديدة والعولمة وما اوحت به من افكار استند اليها خطابها الجديد، مثل نهاية التاريخ عند فوكوياما، الا انه في المقابل وعلى ضوء عرض ومناقشة بعض اوجه فلسفة ليوتار وفهمه لحالة المعرفة في الوضع الراهن الذي اطلق عليه وصل" الوضع مابعد الحداثي" يتبين بجلاء ان فلسفة ليوتار قد شكلت هي الاخرى، بعداً نقدياً مهماً للمشروع الراسمالي الذي قاد الى عولمة العصر الراهن فضلاً عن انه بلور الاسس التي تقوم عليها مختلف الاتجاهات الفلسفية التي تصنف تحت مفهوم مابعد الحداثة ، الساعية على القطيعة مع مرجعية الحداثة، ومقولات التنوير وبلورة اطار قيمي ومفاهيمي جديد يتناسب مع الوضع مابعد الحداثي ، الذي تحدث عنه ليوتار ، فلسفياً واجتماعياً وتقنياً ، حيث غدت المجتمعات الراسمالية المتطورة بوجه خاص والبشرية عموماً ، موحدة بتقنيات ثورة المعلومات والاتصال الجديدة.خامساً : ان هذه الاستنتاجات العامة التي تمت الاشارة اليها ، بالاضافة الى العديد من الآراء والملاحظات والاستنتاجات الاخرى التي تم الكشف عنها من خلال تلك المناهج المستخدمة في سياق البحث والتحليل والدراسة لتلك المشكلات المرتبطة بموضوع الدراسة، تكشف جميعها ليس فقط عن اهمية دراسة اشكالية التحولات الفكرية للعولمة وحسب بل ايضاً عن مجموعة من الملاحظات الاستنتاجية الاخرى ومنها:1- ان العولمة الراهنة التي ارتبطت من حيث النشأة والتطور والمآل بالرأسمالية كنظام اجتماعي تاريخي منذ الحداثة المبكرة، وبالتالي وعلى ضوء العديد من المعطيات الوضع العالمي الراهن، فإن العولمة التي تعد تجسيداً لآخر ما وصلت اليها الرأسمالية العالمية، بقدر ماتنطوي على مجموعة من الفرص الايجابية للمجتمعات والشعوب تنطوي ايضاً على مجموعة من السلبيات الاخطار على الانسان والطبيعة ككل، ذلك ان العولمة تقوم على نقطة جوهرية في مسارها الراهن ، وهو منطق ورهانات الراسمالية وشركاتها العملاقة التي تتحكم راهناً بكافة مسارات العولمة، الامر الذي يعني ان فصول التاريخ لاتزال مفتوحة لتسجيل وقائع جديدة لعلمية الصراع الاجتماعي ، بعد ان اصبح في ظل العولمة الغني المطلق متجاوراً مع الفقر المطلق على المستوى العالمي.2- ان العودة لدراسات التحولات الفكرية للعولمة ، يعني العودة لتاريخ الظاهرة ومعرفة تلك الاسباب والبواعث التاريخية، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفلسفية ، هذه العودة التي يجري اهمالها او تجاهلها من قبل معظم الدراسات التي حاولت الاقتراب من دراسة ظاهرة العولمة الراهنة او المشكلات التي تطرحها امام الفكر الفلسفي والاجتماعي الراهن ، ناهيك ان العديد من ممثلي خطاب العولمة الراهنة والتيارات الفكرية الجديدة المصاحبة لها يسعون بأشكال مختلفة على التشكيك في جدوى العودة الى الماضي، من خلال القول بأن التاريخ قد وصل الى نقطة اكتماله النهائية ، او ان التاريخ لايعبر عن الحقيقة ، والهدف من كل ذلك واحد ، هو تكريس خطاب محبط يولد اليأس والاستسلام لايحفز العقل البشري في البحث عن اية بدائل جديدة لمواجهات مشكلات الحاضر والمستقبل وبالتالي التسليم بواقع الحال كما هو عليه.3- لقد تبين لنا في سياق معطيات الدراسة انه مع التحولات الجديدة التي شهدتها المجتمعات المعاصرة عن طريق استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات ذات التقنية عالية التطور، وما وفرته من فرص وامكانات هائلة امام البشرية وما مثلته من تحول فكري جديد للعولمة فضلاً عن انها مارست تأثيراً مهماً وحيوياً في قيام اتجاهات فلسفية جديدة، ومنها فلسفة مابعد الحداثة ومحققة بذلك ماكان قد ذهب إليه البعض" من ان ثورة تقنيات المعلومات والاتصالات الجديدة سوف تقدم للقوى العقلية ماسبق ان قدمته الآلات الى القوى العضلية " (1) ، واعتقد الناس في كل مكان ان ثورة المعلومات والاتصالات الجديدة سوف تقدم فرصاً وامكانات هائلة امامهم، وانها سوف تحقق خطوة نوعية مهمة نحو التقدم وهذا اعتقاد صحيح ولاشك فيه البتة ، لكن هناك ايضاً مالم يعتقد به الناس ولم يدر في خلدهم وهو ان خضوع هذه العملية لمنطق السوق سوف يجعل التأثير في الرأي العام العالمي ينحصر في ايدي القلة من المتحكمين بهذه الصناعة الجديدة، والشيء الذي تبين لنا بوضوح من خلال التحليل لهذه الاشكالية هو ان تلك التخمة الاتصالية والمعلوماتية لم تعد تعني بالضرورة اعلاماً موضوعياً وديمقراطياً بل حمل معه اشكال جديدة من الزيف والتضليل الايديولوجي، وغياب للحقيقة وتكريس لبعض مقولات ومفاهيم مابعد الحداثة حول طبيعة الوضع الراهن بوصفه وضعاً عصياً على التحديد، وضعاً اصبح العالم فيه خاضعاً لنزوات الراسمال العالمي والشركات المتعدده الجنسيات.انه عصر العولمة التي يمكن ان نعرفها الآن: بأنها ظاهرة تبلورت من حيث النشأة والتطور في سياق الحداثة الراسمالية، وعبرت عن مشروعها بكل تجلياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفلسفية والتقنية ... الخ ، حملت مابين ثناياها طموح الفلاسفة في بناء كيان عالمي واحد، ومواطنة عالمية واحدة، استمدت قوتها بالمزيد من جني الارباح والمزيد من السيطرة والتوسع عبر الحدود ، كان افقها على الدوام هو افق الراسمالية، وهو تحقيق الدمج الكامل بين الاقتصاديات والمجتمعات العالمية في ظل اسلوب الانتاج الراسمالي، ولان افق العولمة يتجه نحو هذا الدمج الشامل والناجز للعالم فقد تجاوزت الحداثة ومشروعها ورات في مابعد الحداثة فلسفة تعبر عن رهاناتها واستراتيجياتها الجديدة في المرحلة الراهنة من تطورها التاريخي فهي تحاول اليوم ان تقود دينامية التطور التاريخي الى مرحلة جديدة من مراحل التطور البشري تنقله من شكل قديم الي شكل جديد من اشكال الائتلاف البشري يقوم على روابط جديدة ومفاهيم جديدة وعلاقات جديدة تتجاوز روابط الدم، والدين واللغة والثقافة الواحدة، ومفاهيم القبيلة والعشيرة والشعب والامة القومية.. الخ وهذا الشكل الذي قد يصبح هو السائد في المستقبل يقوم على اساس ائتلاف المجتمعات العالمية كلها في كيان عالمي واحدة.