عبدالمجيد صالح فضل مثلت ثورة 23 يوليو 1952م وزعيمها الراحل الرئيس جمال عبدالناصر في بعدها القومي نقطة تحول في وجدان ومشاعر الشعوب العربية التي كانت ترزح تحت وطأة الاحتلال الأجنبي وأنظمة ملكية إقطاعية متخلفة لأهم لها سوى حماية سلطاتها ومصالحها وتنمية ثرواتها على حساب كرامة وعزة شعوبها التي كانت تواقة للتحرر والانعتاق من براثن جلاديها, هكذا حال اليمن التي كانت واقعة تحت حكم كهنوتي أمامي متخلف وسلطة استعمارية غاصبة وسلاطين لايملكون سلطة الحكم على دويلاتها التي وصلت إلى 22 سلطنة ومشيخة, كان الاحتراب والاقتتال هي السمة السائدة لتلك المرحلة نتيجة للسياسة الاستعمارية القائمة على مبدأ فرق تسد والعصا والجزرة, وكانت منطقة يافع واحدة من المناطق التي عانت كثيراً من هذه الموروثات الاجتماعية ومن العتمة والحروب, بالإضافة إلى تعرض بعض قراها لهجمات عسكرية منظمة لم يكن أخرها ضربها بالطائرات الهوكرهنتر, نتيجة لمواقف أبنائها الوطنية ورفضهم للسياسات الاستعمارية في المنطقة.كان الوالد الشيخ ناصر عبد احمد الميسري, واحد من قلائل الرجال الذي أعلن رفضه الرضوخ لسياسة الاستقواء التي تمارسها بريطانيا تجاه المواطنين العزل والمناطق الامنه وكانت له زوامل وأشعار تحريضية الهبت الحماس أثناء تداولها في تلك المرحلة بالإضافة إلى الدور التثويري الذي لعبته إذاعة صوت العرب المصرية التي حقنت الشباب المشرئب بجرعات من الحماس ودفعه إلى التفكير بإيجاد السبل والآليات لحشد الجهود للتخلص من هذا الوضع المأساوي..وجاءت فكرة إنشاء (جبهة الإصلاح اليافعية) في ابريل عام 1963م ثمرة الحوار التي قادته الطلائع المثقفة في منطقة يافع وتشكلت قيادة الجبهة من نخبة من المناضلين: سالم عبدالله عبدربه- غرامه سالم المنصوري- محمد ناصر عبده جابر- محمد عبدالرب بن جبر والمطري وحسين عبدالحبيب ومصطفى وغيرهم, تلك كانت بداية نبوغ شخصية الفقيد محمد ناصر جابر القيادية التي قادته للالتحاق بتنظيم اوسع واشمل, وليسجل اسمه في صفحة التاريخ كواحد من مؤسسي الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل التي تكونت من عدد من التنظيمات والفصائل الثورية- ومنها جبهة الإصلاح اليافعية- في صنعاء أغسطس 1963م والتي تحولت إلى هيئة ابناء يافع الإصلاحية (شعبة في تنظيم الجبهة القومية) وكان الفقيد (جابر) هو المنسق العام لها في يافع, وهذه كانت المرحلة الأولى في حياة الفقيد.بعد انطلاقة ثورة 14 أكتوبر 1963م من على قمم جبال ردفان الشماء بقيادة البطل الشهيد راجح بن غالب لبوزة, كان الفقيد (جابر) من أوائل من لبى نداء الواجب وعمل على إمدادات الثورة بالسلاح وترحيل المناضلين إلى جبهة ردفان واستقبال الأسر المشردة من القرى المضررة من هجمات جيش الاحتلال وطيرانه وإيوائهم وتقديم المساعدات الإنسانية لهم.كما كان للفقيد جابر شرف الالتحاق بالقطاع الفدائي _وخاصة بعد انتهائه دورة عسكرية تدريبية في تعز- في جبهة عدن وشارك في عدد من العمليات العسكرية على دوريات الاحتلال.ومع اشتداد لهيب الثورة في قلب المستعمرة (عدن) وقرب موعد رحيل المستعمر اسند للفقيد محمد ناصر جابر مهمة إخماد نيران الفتن والحروب القبلية المستعمرة في مناطق يافع, وكان له الدور البارز في مساندة جهود الأخ/ المناضل فضل محسن عبدالله في ابرام صلح عام وإيقاف كافة الفتن بل ودفن الثارات القبلية إلى الأبد, وهو ماساعد على تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة قبل سقوطها بيد الجبهة القومية أواخر يوليو 1967م وهذا ماكان ليتحقق لولا تلك الجهود المضنية التي بذلها الفقيد جابر ورفاقه وتنقلهم بين المناطق والقرى سيراً على الإقدام رغم وعورة الجبال إلا أنهم حرصوا على الوصول إلى كل المكاتب القبلية واللقاء بمواطنيها, وهذا ماجعل الفقيد يتمتع بشعبية واسعة وثقل اجتماعي أهله لان يكون ضمن القيادة المحلية إلى جانب الأستاذ/ يحيى عبدالله قحطان وعبداللاه عبدالله وحسين عبدالحبيب والتي تولت تطبيع الأوضاع وبناء مؤسسات الدولة وقيادة الفعالية الشعبية والجماهيرية لإنجاز جملة من المشاريع الخدمية في المنطقة التي كانت تفتقر إلى كل شيء المدارس والطرقات ومستشفيات وغيرها وشكلت المنطقة أنموذج فيما كان يعرف بالمبادرات الجماهيرية, ومازالت إنجازاتها ماثلة للعيان.. صقلت هذه المرحلة الثانية من حياة الفقيد تجربته وأكسبته مهارات قيادية ونضوج متفرد وهي سمتان تحلى بهما الفقيد طيلة حياته.وفي النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي اسندت للفقيد مهمة إدارة أمن المعلا م/الاولى (عدن) وعرفه الناس في هذه المرحلة قيادياً محنكاً ومتمرساً, وشخصية اجتماعية حضيت باحترام وتقدير كل زملائه في الجهاز الأمني, لنزاهته واستقامته وعفة نفسه وترفعه عن الصغائر وتمثلة للقيم الثورية النبيلة التي امن بها وجسدها في سلوكه, وماكادت فترة السبعينيات تنتهي حتى تم ترقيته إلى مدير عام أمن العاصمة (عدن) وهو مركز أمني رفيع استحقه الفقيد جابر عن جدارة واستحقاق ومع مطلع الثمانينات تولى الفقيد منصب نائب وزير الداخلية ثم نائباً أول لوزير الداخلية حتى يناير عام 1986م.ظل الفقيد وفياً للمبادئ التي أمن بها, وأمتلك رؤية ووعي مكناه من التعاطي مع المتغيرات بحدس القائد المجرب وظل ذلك المناضل الجسور في قلب الأحداث ومنعطفاتها لم يغره المنصب ولم ياسره بريق السلطة ولمعانها, لم يجني ثروة أو يحقق مكاسب شخصية بل على العكس دفع الثمن باهضاً نظير ثباته ومواقفه الشجاعة في نقد الأخطاء والسلبيات ورفضه كل الممارسات الخاطئة والسلوك النزق والاصطفافات المناطقية التي الحقت ضرراُ فادحاً بالوحدة الوطنية.هذه هي شذرات من تاريخ هذه الهامة الوطنية التي عرفتها وعايشتها عن قرب طيلة ثلاثين عاماً.كان الفقيد (جابر) بمثابة الأب والأخ الأكبر والصديق الحميم والمعلم المتمكن,والناصح الوفي عرفته دمث الأخلاق رقيق المشاعر كريم الطباع ودوداً في علاقاته واسع الثقافة والإطلاع, استطاع طيلة حياته ان ينسج شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية والصداقات الحميمة على مستوى الساحة اليمنية, لم يكن يميز في علاقاته على أساس الجاه أو المنطقة بل كانت نظرته ابعد واشمل.رحم الله ذلك الراحل الكبير والوطني الغيور والوحدوي الجسور وهو من أولئك الذي قال عنهم تعالى جلت قدرته: (من المؤمنين رجالاً صدقوا ماعاهدوا الله فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومابدلوا تبديلا) صدق الله العظيم.تغمد الله الفقيد محمد ناصر جابر بواسع رحمته واسكنه مع الصديقين والصالحين جنات النعيم والهم أهله وذويه الصبر والسلوان إنا لله وإنا إليه راجعون.
|
تقرير
جابر.. حياة إنسان.. وتاريخ أمة
أخبار متعلقة