ابتداء، إن الوسطية هي توجّه ومزاج فكري، بل انها أسلوب لحل النزاعات واحتواء التطرفات المدمرة، علاوة على كونها مصلحة اجتماعية واقتصادية وسياسية.كيف تكون الوسطية مزاجاً فكرياً، وأسلوباً، ومصلحة في آن ؟معروف منذ القرن الثامن عشر، وبدرجة اشد منذ القرن التاسع عشر، ان انكلترا انتقلت في السياسة من الحكم المطلق الى الحكم الديموقراطي، ومن الاقتصاد الحرفي الى الاقتصاد الحديث، بأسلوب متدرج، اكتنفته التسويات، والمساومات لإيجاد حلول وسط بين ثلاث قوى وأقطاب، هي: العرش، والنبلاء، وبورجوازية المدن. وان فرنسا انتقلت هذا الانتقال نفسه بأعنف صورة، وفي شكل قطعي ومباشر. وكان الاستقرار الانكليزي يقف في تضاد صارخ مع الاضطراب الفرنسي الذي استمر حتى القرن العشرين.وقد خلص المفكرون، من الدراسات المقارنة، الى ان طريق التسويات، طريق التدرج، هو طريق الوسطية، الذي يرسي التغير الاجتماعي والسياسي على قاعدة راسخة، بفضل التدرج نفسه. فالعجلة في التغيير لن توصل الى أي هدف.اكتسبت الوسطية تعبيرات شتى باختلاف العصور والبلدان.ففي أوروبا القرن الثامن عشر، كانت تعني التسويات والتدرجات في الانتقال السياسي والاقتصادي والاجتماعي الى العصر الحديث القائم على الحريات السياسية، وحرية السوق، وإلغاء الامتيازات القائمة على النَسَب، وإعلان المساواة القانونية والسياسية لكل المواطنين. وفي أوروبا أوائل القرن العشرين اكتسبت الوسطية معنى الطريق الثالث بين البنية السياسية الأحادية والاقتصاد المركزي، من جهة، واقتصاد السوق المنفلت من جهة أخرى. وكانت التيارات الديموقراطية الاجتماعية هي التعبير عن هذه التسويات، على رغم تشوهها بفعل الحرب البادرة. أما الوسطية الأوروبية اليوم، فهي طريق ثالث بين اقتصاد السوق النيوليبرالي، واقتصاد السوق المقترن بالرفاه الاجتماعي. وتتجلى الوسطية أيضاً في نشوء مدارس فكرية تعنى بحل النزاعات conflict resolution، ومدارس تُعنى بتطوير المجتمع المدني في شكل منظمات طوعية تتولى بعض وظائف الدولة، أي الاتجاه نحو لا مركزية السلطة.[c1]الوسطية في المنطقة[/c]عاشت دول المنطقة منذ الخمسينات على الأقل، في ظل دول شديدة المركزية، تعتمد نظام الحزب الواحد (الحديث)، او نظام الأسرة (التقليدي)، وتعتمد اقتصاداًَ أوامرياً command economy، وواحدية ايديولوجية وثقافية قسرية، سواء حديثة (القومية الاشتراكية، الاشتراكية) أم كانت لأيديولوجيا تقليدية (الدين، المذهب) أم مزيجاً من الاثنين حيث تختلط النزعة الجمهورية بالفكر الديني، وتضفي على النظام السياسي طابعاً مزدوجاً (إيران).واليوم هناك معنى للإصلاح في اتجاهات عدة.1 - فك نظم الحزب الواحد، وإدخال التعددية السياسية القائمة على نظام انتخابي تداولي. (اميركي – اوروبي).2 - فك الاقتصاد الأوامري المركزي، وإدخال إصلاحات السوق (بضغط من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي).3 - فك النظام الأيديولوجي الأحادي، وادخال التعددية الفكرية والثقافية.4 - تشجيع بذور احترام الحريات المدنية، والفردية، وحقوق الانسان، وادخال معايير الشفافية.5 - فرض احتكار الدولة لوسائل العنف المشروع، بحل الميليشيات، وتوجيه القوى السياسية المسلحة الى العمل السياسي المؤسساتي السلمي. (حماس (فلسطين) حزب الله (لبنان) وميليشيات (العراق)).6 - السعي لحل النزاعات في المنطقة بالطرق التفاوضية السلمية.هذه التحولات تجرى في ظل شروط جديدة، أبرزها انتهاء الحرب الباردة، وتعاظم نفوذ العالم الليبرالي الذي تتصدره الولايات المتحدة، وتدعمه (في مجال الدمقرطة وحل النزاعات) أوروبا الغربية واليابان، من دون أن تعترض عليه روسيا والصين اعتراضاً جدياً مؤثراً (حتى الآن) .ولكن هذه التحولات تجرى ايضاً في شروط انهيار الأيديولوجيات القديمة الجامعة (القومية العربية، الماركسية، القومية الاشتراكية)، وصعود الإسلام السياسي، المسلح، أو المحافظ، أو المعتدل.ويشكل صعود الإسلام السياسي استمراراً سياسياً وأيديولوجيا لنظام الحزب الواحد الآفل، ونظام الأحادية الايديولوجية، مقروناً بروح محافظة في المجال الاجتماعي والثقافي (القيم، السلوك). كما ان صعود الإسلام السياسي في بعض البلدان أدى الى بروز أزمة هوية وطنية بسبب الانقسام المذهبي (شيعة – سنّة) أو الديني (مسلمون – مسيحيون). والأمثلة وفيرة: لبنان والعراق، والبحرين تقدم أمثلة على الحالة الأولى، وتقدم مصر والسودان (والى حد ما العراق) أمثلة على الحالة الثانية.ان استمرار النظم التسلطية المركزية لم يعد ممكناً. وهي الآن مشوهة: فسياسياً هي تسلطية (لا ديموقراطية) واقتصادياً هي تمضي باتجاه الانفتاح الاقتصادي الليبرالي، من دون شبكات ضمان للفئات الدنيا، متكاثرة العدد وتحتفظ بالكثير من السمات القديمة.في المقابل فإن البدائل الدينية، تتسم بسمات متطرفة هي الأخرى. وعليه فان الوسطية، هي توجه عام يمكن ان يساعد على تجاوز هذا الانسداد. كيف يمكن ان تتجلى الوسطية؟في السياسة عموماً انها تعني الخروج من النظام الأحادي، الاحتكاري التسلطي، نحو نظام تعددي، تمثيلي، يأخذ في الاعتبار التنوع الثقافي.وفي المشاركة، ان تنوع المجتمع يقتضي مشاركة الجميع كمواطنين في كل المجالات. نعني انه يرسي فكرة المواطنة على الأسس التالي: فتح المشاركة السياسية المتوازنة والمشاركة الاقتصادية والمشاركة الإدارية (جهاز الدولة الإداري) والمشاركة المؤسساتية (أجهزة العنف الشرعي) والمشاركة الثقافية (التعليم، المدارس، وسائل الإعلام، وصناعة الثقافية).ان النظام السياسي الاكثري (حكم الأكثرية البرلمانية) معمول به في الدول ذات التجانس القومي والثقافي، أما الدول المتنوعة فتميل الى النظام التوافقي. (هناك نظريات عدة حول تطبيقات هذا النظام يمكن الإفادة منها لابتداع شيء خاص بالعراق).[c1]النظام الاقتصادي هو المهم[/c]أثبت النظام الاقتصادي المركزي فشله، فهو يلغي أساس الديموقراطية (تجديد الحكومة ومحاسبتها) ويمنح للبيروقراطية سلطة مطلقة،(دولة الموظفين)، ويخفي بين طياته انعدام الكفاءة، والنهب، وغياب الشفافية، والهدر. وان خدماته الاجتماعية المجانية (الجانب الإيجابي الوحيد فيه) تصل الى نقطة الانهيار (كما حصل في مصر والسودان، والعراق أيام الحرب مع إيران والحصار). اما النظام الليبرالي المنفلت فلا يشكل البديل الوحيد للاقتصاد المركزي.ان اقتصاد السوق ضرورة كقاعدة للديموقراطية (النظام السياسي) ولكن وجود الخدمات الاجتماعية (دولة الرفاه) ضرورة لتوسيع المشاركة الاقتصادية، فهي تجنب الاستقطاب المدمر للثروة والفقر، السبب الأساس لكل انهيار أو غياب للاستقرار.ان توسع الطبقات الوسطى (في فترة معينة) كان دليلاً على الازدهار، لكن توسع الفئات الهامشية والدنيا (وهو السمة الحالية) هو دالة على الانهيار. ان 30 في المئة من العراقيين يعيشون دون خط الفقر.ان اقتران السوق بالضوابط وبالخدمات الاجتماعية العقلانية، هو الاتجاه الوسطي، في هذا المجال. والمطلوب فصل الاقتصاد عن السياسة، ومعالجة اختلالات اقتصاد السوق بضوابط الرعاية الاجتماعية.ـــــــــــــــ[c1]كاتب عراقي
|
فكر
الوسطية وما يعيقها في المنطقة العربية ... وفي العالم
أخبار متعلقة