أضواء
خلط نمارسه ليل نهار بين الاعتقاد والظن، فنحن نستعمل كلمة الاعتقاد بمعنى الظن، والعكس صحيح. فقد نقول: “أعتقد أن الوضع اللبناني في طريقه للمصالحة والاستقرار”. وهذه الجملة تعني “أظن” وليس الاعتقاد المشتق من العقيدة، فالاعتقاد أقوى بل أرسخ من الظن، فالإيمان بالله يتطلب الاعتقاد به، وكفرٌ- برأي الدين- أن يقول الواحد “أظن أن الله موجود”. فالمؤمن يقول: “أعتقد بالله اعتقاداً راسخاً”، أي أن الواحد يؤمن بالله إيماناً راسخاً لاظن ولاشك فيه. والحق أن هذا الخلط يبدو عالمياً، ففعلا believe بالإنجليزية وبالفرنسية croire يُستعملان بمعنى الاعتقاد والظن.والظن مرتبط بالشك، والشك منهج فلسفي فكري يعتمد على التشكيك في كل شيء، كما يقوم الظن على الاحتمالات، فالواحد يظن بحدوث شيءٍ مَّا أو بالتنبؤ بمستقبل باهر لشخصٍ مَّا، فبركات الشريف قال ظانّاً الخير بابنه مالك الخير:“ما أظن عود الورد يثمر بتنباك”.الاعتقاد بالفكرة السياسية يقود إلى الجمود، والاعتقاد بالقائد الأوحد أو المرجع السياسي، الذي “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه” يخلف الديكتاتوريات، ويقود إلى الجمود الفكري. الظن في السياسة أفضل من الاعتقاد بها، وربط الاعتقاد بالدين أفضل من سحب معناه على السياسة، فالسياسة فيها “أبيض وأسود ورمادي”، والاعتقاد لا رمادي ولا أخضر ولا أحمر ولا أصفر فيه- يا أسود، يا أبيض- كما يقول عادل إمام في مسرحية “شاهد ما شفش حاجه”. ولكن “إن بعض الظن إثم”، فمن يظن أن أجندة حسن نصرالله لبنانية وطنية محضة، يكونْ آثماً- بظني، ومن يعتقد أن باقي قادة لبنان السياسيين مخلصون لأوطانهم، فهو مخطئ- باعتقادي. إذا كان بعض الظن إثماً، فإن بعض الاعتقاد جريمة.في الخليج سادت كلمة “هقى”، بمعنى ظن، وقد غنّى محمد عبده منتصف السبعينات لدايم السيف (الأمير خالد الفيصل): “ما هقيت إن البراقع يفتنني، لين شفت ظبا النفود مبرقعاتي”. وجاءت كلمة “هقى” في القواميس بمعنى هذى، فيقال: “فلان هقى بفلان”، أي هذى به، والعلاقة بين الهذيان والظن والاعتقاد واضحة، فبعض الظن هذيان، وبعض الاعتقاد وهم، فإن تعتقد بإنسان معصوم من الخطأ، فهذا هذيان يقارب الجنون الذي مارسه من اعتقد أن صدام حسين قائد “ضرورة”. ويبدو أن “الهقوة” أخذت معنى آخر جديداً بمعنى “الرجاء”، فيُقال في لغة أهل الخليج: “عسى فلان عند الهقوة”، أي عسى أن يكون مثلما هو مأمول منه، وهذه الأيام تدور “الهقاوي” -أي الظنون- حول مدى نجاح جولة الرئيس السوري بشار الأسد الخليجية. معيار نجاح جولة الرئيس الأسد هو مدى الانفراج في العلاقة السعودية-المصرية من جهة والسورية من جهة أخرى والتي تدهورت خلال الشهور الماضية. أظن أن حلحلة للخلاف قادمة، ولا أعتقد أنها مؤكدة.أنا شخصياً أشك بانفراج طويل المدى للأزمة اللبنانية، والشك أقوى من الظن، والاعتقاد أقوى من كليهما، وشكي سببه أن قادة لبنان “ما هم على الهقوة”- أي ليسوا عند حسن الظن، ومن فجر فيهم الأزمة، لا زال يدير الحل.العام الماضي، كنت أعتقد أن ترشيح الحزب “الديمقراطي” الأميركي لأوباما للرئاسة مستحيل، ثم بدأت أظنه ممكناً مع تقدمه في ولايات مختلفة، أما وقد رشح رسمياً، “فهقوتي” أنه سيفوز على منافسه “الجمهوري” ماكين.كثير من مشاكلنا السياسية، وبقاء فكرنا السياسي مراوحاً هو أننا “نعتقد”، ولا “نظن”، والذين اعتقدوا فشلوا، ومن ظنوا تركوا مساحة للتفكير والتراجع والمراجعة. الظن في السياسة أفضل من الاعتقاد بها، فالظن يترك قناة للمناورة، والاعتقاد الجازم يقود إلى الحماقة المؤكدة.[c1]- عن / صحيفة “الاتحاد” الإماراتية[/c]