بعد التوصل إلى اتفاقات أوسلو ومدريد والتوقيع عليها رسميا في 13 سبتمبر 1993م برعاية الولايات المتحدة الأمريكية في البيت الأبيض بواشنطن انقسم المجتمع الإسرائيلي إلى تيارين , احدهما كان مؤيدا لتلك الاتفاقات والآخر رفضها وحرض ضدها على نحو ما شرحناه في الحلقة الماضية .. وكان معارضو هذا الاتفاق يراهنون على الانتخابات المبكرة لانتخاب رئيس وزراء جديد بعد اغتيال إسحاق رابين الذي وقع مع ياسر عرفات على تلك الاتفاقات حيث تنافس مرشح حزب الليكود بنيامين نتنياهو ومرشح حزب العمل شيمون بيريز وكان الفرق بينهما لصالح بيريز في مرحلة استطلاع الرأي لكن العملية الانتحارية التي نفذتها (حماس) في احد الميادين العامة في تل أبيب قبل اسبوعين من الانتخابات خدمت بنيامين نتنياهو المعارض اللّدود لاتفاق اوسلو والذي كسب تلك الانتخابات بفارق بسيط .توقفت عملية السلام طوال فترة حكم نتنياهو , وتوقفت معها العمليات الانتحارية (!!؟) ووصل الوضع إلى مرحلة انسداد تام انتهت بوصول إيهود باراك مرشح حزب العمل الى سدة الحكومة بأغلبية بسيطة اضطرته إلى التحالف مع بعض الأحزاب الدينية الرافضة لاتفاقات أوسلو ومدريد وبدأ باراك خطوات عرجاء لإحياء العملية السلمية وسط ضغوط مؤثرة داخل حكومته الائتلافية مارستها الأحزاب الدينية المتطرفة التي طالما هددت بانسحابها من الحكومة .بعد ذلك عادت من جديد العمليات الانتحارية واتخذت من الميادين العامة ومراكز التسوق أهدافا ً لها ، وتبعا ً لذلك جاءت سياسة باراك مرتبكة ومتناقضة حيث كان يتحدث عن السلام في خطابه السياسي ويمارس غطرسة القوة وإرهاب الدولة عمليا ً بحجة الرد على العمليات الانتحارية الى جانب حرصه على اتهام السلطة الوطنية والرئيس عرفات تحديدا ً بدعمها والوقوف وراءها .فشل باراك في الجمع بين سياسة العصا والجزرة .. وتزايدت المطالبة باستقالته قبل أنتهاء فترته الدستورية , وفعل ذلك أيضا بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية في أواخر عهد الرئيس كلينتون .. ثم جاء بعده ايريل شارون الذي انتهج ـ طوال حياته السياسية والعسكرية ـ سياسة معادية للسلام تنفيذا لبرنامجه الانتخابي الذي تعهد فيه بتعطيل اتفاقات أوسلو ومدريد وتقويض السلطة الوطنية الفلسطينية التي كان شارون يصفها بأنها ( أسوأ) مخرجات تلك الاتفاقات .منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية أدرك شارون إن إعلان الحرب على الفلسطينيين وسلطتهم الوطنية هي الوسيلة الوحيدة لتنفيذ أهداف برنامجه الانتخابي .. وهكذا جاءت حربه الجديدة ضد الشعب الفلسطيني على نحو أبشع من الحرب التي قادها ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان عام 1981م وكانت مذابحه ومجازره الجماعية التي ارتكبها على مرأى ومسمع من العالم بأسره في أراضي السلطة الوطنية أفظع وأوسع من المجازر التي ارتكبها بحق الفلسطينيين في لبنان عندما كان وزيرا للدفاع .لم يخف شارون طوال حياته وأثناء وجوده في رئاسة الحكومة الإسرائيلية رفضه لاتفاقات أوسلو ومدريد ولذلك فقد سعى دائما إلى ضرب هذه الاتفاقات تجسيدا لرغبته في تدمير السلطة الوطنية وقطع الطريق أمام مفاوضات الحل النهائي المعنية بإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة ، فيما كان يرد فورا على أي عملية انتحارية تقوم بها المنظمات الفلسطينية التي ترفض اتفاقات أوسلو أيضا مثل (حماس) و (الجهاد) بشكل أعنف وأقسى من تلك العمليات ، باتجاه تدمير البنية التحتية للسلطة الفلسطينية مثل المطارات وأجهزة الأمن والشرطة والمؤسسات الإعلامية والإدارية .وعندما اضطرت السلطة الوطنية خلال الحرب التي شنها شارون ضدها إلى إنقاذ ما تبقى من بنيتها الأساسية التي حطمتها الآلة العسكرية الاسرائلية , وحماية مواطنيها من المجازر الدموية اليومية فقد كانت تتوجه بالنداءات إلى المجتمع الدولي كي يتدخل بممارسة الضغوط على حكام تل أبيب لإيقاف حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني وإجبار حكومة تل أبيب على استئناف العملية السلمية .. بيد أن شارون لم يكن يتردد في المناورة من خلال إملاء شروط تعجيزية لا تستهدف وقف الحرب بل توليد حرب أهلية داخلية بين السلطة الوطنية والفصائل التي ترفض اتفاقات أوسلو ومدريد وصولا إلى استكمال تقويض السلطة الوطنية التي تعتبر إحدى أهم نتائج هذه الاتفاقات بأيدي الفلسطينيين أنفسهم !!لا ريب في أن السفاح شارون نجح في تحقيق جزء كبير من أجندة حربه العدوانية المسعورة ضد الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية الصامدة ـ خلال فترة وجوده على رأس الحكومة الاسرائيلية ـ حتى أصبحت دائرة الخيارات السلمية أمام السلطة تضيق أكثر فأكثر ولم يبق أمامها سوى خيار تقديم المزيد من التنازلات بدون أفق واضح ، فيما يزداد حجم الفواتير المتراكمة التي ينبغي على الفلسطينيين تسديدها في الظروف الصعبة السابقة والراهنة واللاحقة .وزاد من خطورة الوضع المتأزم على الدوام في الساحة الفلسطينية ، انحياز الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مطلق إلى جانب حكومة شارون التي تفرض حصارا خانقا على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مكتبه بمدينة رام الله حيث انضمت الإدارة الأمريكية إلى حكومة شارون في مطالبة الرئيس الفلسطيني الراحل أثناء حصاره بتنفيذ شروط تعجيزية لم يستطع الأمريكيون أنفسهم تحقيقها , فقد أصر الرئيس جورج بوش في جميع تصريحاته خلال الشهور الأخيرة من حياة القائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات على مطالبة السلطة الوطنية الفلسطينية بالقضاء على الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط .. ولا نعرف هل كان الرئيس الأمريكي يدرك إن هذه المنطقة المعنية بمطالبه التعجيزية تتسع لتشمل دولاً عديدة ، وان مهمة مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط لا تستطيع الولايات المتحدة نفسها القيام بها بدون تعاون فعال مع دول المنطقة والمجتمع الدولي بأسره !!لم يعد أمام الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية في هذه الظروف العصيبة غير خيار واحد يتمثل في الحفاظ على وحدته الوطنية , وتفويت الفرصة على المخططات الاسرائلية التي تستهدف إشعال حرب أهلية داخلية بين الفلسطينيين تكون بديلا عن حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضدهم إن اضطرت إسرائيل إلى إيقافها مكرهة ً بضغط من الرأي العام الدولي .. ولا ريب في أن هذا الخيار الذي لا رجعة عنه ، سيفرض على ا لشعب الفلسطيني بمختلف قواه السياسية ضرورة إعادة تقويم الوضع السياسي الإقليمي والدولي , والاتفاق على إستراتيجية واضحة وأهداف محددة ووسائل فعالة لتحقيقها بما في ذلك صياغة برنامج سياسي واقعي جديد , يمتلك القدرة على إقناع العالم بان حكام تل أبيب هم الذين يرفضون السلام والتعايش مع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية بأسرها وليس العكس .على النقيض من فشل معارضي اتفاقات أوسلو ومدريد على الجانب الإسرائيلي في تحقيق أهدافهم ويمكن القول أن معارضيي تلك الاتفاقات على الجانب الفلسطيني ، أدركوا حقيقة أن تصفية السلطة الوطنية تعني حرمان الشعب الفلسطيني من أهم مكسب حققه في مجرى كفاحه التحرري منذ اندلاع ثورته المسلحة في أوائل الستينات .. فالسلطة الوطنية بقدر ما تشكل مرحلة انتقالية تمهد لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس ، بقدر ما نرمز أيضا ً الى الهوية الوطنية الفلسطينية التي يسعى اليمين الصهيوني إلى طمسها .كما أدرك هؤلاء إن إصرار اليمين الإسرائيلي المتطرف على إسقاط مشروع بناء السلطة الوطنية الفلسطينية يستهدف في نهاية المطاف ضرب الوحدة الوطنية وتصفية المكتسبات التي حققها الشعب الفلسطيني منذ قيام ثورته الشعبية المسلحة في مطلع يناير 1966 وصولا ً الى الانفراد بمنظمات المقاومة لقمعها تحت يافطة محاربة الإرهاب والعودة بالقضية الفلسطينية إلى ما قبل العملية السلمية التي أطلقتها اتفاقيات أوسلو ومدريد .لا ريب في أن المتطرفين في إسرائيل أدركوا جيدا إن الاعتراف بالسلطة الفلسطينية يعني اعترافا بالهوية الوطنية الفلسطينية .. بمعنى الاعتراف بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره وبناء دولته الوطنية المستقلة وهو ما دأب مؤسسو وحكام دولة إسرائيل على رفضه بشكل مطلق حتى أجبرتهم المقاومة المسلحة التي خاضها الشعب الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية على التفاوض المباشر مع الجانب الفلسطيني والتوصل إلى اتفاقات أوسلو ومدريد التي لم ينحصر تأثيرها فقط على اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير وإقرارها بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حقه في إقامة دولته الوطنية المستقلة بل إنها أجبرت ـ أيضا ـ الولايات المتحدة الأمريكية على شطب اسم المنظمة من قوائم الإرهاب والاعتراف بها كحركة تحرر وطني واستقبال الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في البيت الأبيض لا بوصفه إرهابيا كما كانت الإدارة الأمريكية تصفه سابقا بل بوصفه مقاتلا من اجل الحرية .! باستثناء رفض اليمين الصهيوني والأحزاب الدينية المتطرفة في إسرائيل اتفاقات أوسلو لأسباب معروفة فان الانتقادات التي يوجهها بعض الفصائل الفلسطينية لهذا الاتفاق لا تصمد أمام التحليل الموضوعي .. فقد وفر قيام السلطة الوطنية بموجب هذه الاتفاقات مجالا خصبا لانتقال قيادات كافة الفصائل الفلسطينية بدون استثناء إلى داخل الأراضي الفلسطينية بعد أن ضاقت بهم ساحات النضال في العالم العربي عقب إخراج المقاومة الفلسطينية بالقوة من الأردن ولبنان وإغلاق سوريا أراضيها أمام أي شكل من أشكال المقاومة المشروعة ضد الاحتلال (!!!) .. ولم يعد أمام الفصائل الفلسطينية أي خيارات ممكنة سوى التمتع بمكاتب إعلامية وسياسية محدودة التأثير في بعض العواصم العربية .تمكنت الفصائل الفلسطينية بفضل قيام السلطة الوطنية التي تحققت كنتاج لاتفاقات أوسلو ومدريد من تعزيز وتفعيل حضورها السياسي والتنظيمي والجماهيري على الأرض وتقوية صلاتها بالجماهير وتطوير أساليب عملها اليومي على نحو مسبوق ، وبناء تجربة ديمقراطية تعددية تمكنت حركة (( حماس )) من خلالها وتحت سقفها وبفعل آلياتها من الوصول الى سدة الحكومة الفلسطينية ، على الرغم من أن هذه الحركة كانت شريكا لحزب الليكود الاسرائيلي وحلفائه من قوى اليمين الاسرائيلي المتطرف في معارضة اتفاق اوسلو ، ورفض المشاركة في مشروع بناء السلطة الفلسطينية أثناء حياة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي دخل بدوره في شراكة مع حزب العمل الاسرائيلي وحلفائه في حوارات وتفاهمات واتفاقات مدريد واوسلو وواشنطن .كما أتاحت السلطة الوطنية إمكانيات واسعة لتوسيع قاعدة التضامن والتأييد لحقوق الشعب الفلسطيني على المستوى العالي حيث نجحت السلطة في إقامة علاقات سياسية واقتصادية واسعة مع مختلف دول العالم وفي مقدمتها دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين واليابان وغيرها من بلدان العالم بالإضافة إلى اعتراف جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي بالسلطة الوطنية كنواة لدولة فلسطين المستقلة ودخول الدعم العربي والدولي للقضية الفلسطينية طورا جديدا بوصوله إلى عمق الأراضي الفلسطينية .[c1]* عن/ صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]
|
فكر
طريق مزروع بالأشواك أفرز مشهداً متأزماً (2-3)
أخبار متعلقة