نحو تطوير آليات العملية الانتخابية (2 - 2)
سبق لنا القول في الحلقة السابقة من هذا المقال إنّ التجربة الديمقراطية في اليمن ليست وحدها التي تتعرض نتائج انتخاباتها للاتهامات القاسية بالتزوير من قبل أحزاب المعارضة، فهذه الظاهرة تكاد أن تتكرر في أكثر من بلدٍ عربي، إن لم تكن ظاهرة عامة في كل البلدان حديثة الانتقال إلى الديمقراطية.وإذا أخذنا مصر - على سبيل المثال - يمكن القول إنّه باستثناء الانتخابات البرلمانية في الدورتين الأخيرتين اللتين أشرف عليهما القضاء المصري، كان الخاسرون في جميع الانتخابات السابقة يتهمون السلطة والجهاز التنفيذي الذي يتولى تنظيم الانتخابات بالتزوير!حدث هذا في مصرَ التي تمتلك تجرِبة ديمقراطية وتعددية حزبية ذات جذور تاريخية بعيدة منذ دستور عام 1924م، قبل ثورة 23 يوليو 1952 التي ألغت الأحزاب، وأقامت نظام الحزب الواحد، ثمّ عادت بعد ذلك في أواخر السبعينيات إلى نظام التعددية الحزبية وحرية إصدار الصحف الحزبية والمستقلة، والاعتراف بحق التنافس الحزبي والفردي على عضوية السلطة التشريعية والمجالس البلدية من خلال انتخابات عامة، والحق الدستوري بوجود كتل علنية للمعارضة داخل البرلمان وخارجه.. وهو ما يجعل التجرِبة المصرية أكثر قرباً إلى التجرِبة الديمقراطية في اليمن، حيث لا تسلم نتائج الانتخابات في مصرَ من تهمة التزوير التي توجهها أحزاب المعارضة للجهاز المعني بالانتخابات، رغم البون الشاسع بين خبرة كل من مصرَ واليمن في مجال تقاليد العمل الحزبي ومستوى الثقافة السياسية، ودرجة تطور الاقتصاد والدولة والمجتمع.لابد من الإشارة إلى أننا لسنا بصدد إجراء مقارنة بين مصاعب العملية الديمقراطية في التجرِبتين المصرية واليمنية، واستخلاص نقاط التشابه والاختلاف بينهما.. بيد أنّ تجرِبة الانتخابات افي الدورتين الأخيرتين التين شهدتهما مصرَ تستدعي التوقف أمامها بالدرس والتأمل.لم يكن أحد في السلطة أو المعارضة على موعدٍ مع النتيجة التي توصل إليها مع القضاء مواطن مصري مستقل عام 2001، بعد أن خسر معركته الانتخابية أمام إحدى مرشحات الحزب الوطني الحاكم التي فازت بمقعد دائرتها الانتخابية في أحد الأحياء الشعبية بجنوب شرق مدينة القاهرة، أثناء انتخابات مجلس الشعب السابق.لم يقبل ذلك المواطن الخاسر بالنتيجة التي أعلنتها اللجنة العليا للانتخابات برئاسة وزير الداخلية، وهي عبارة عن جهاز تنفيذي متخصص بمهام الإدارة والإشراف والرقابة على الانتخابات، ويتبع وزارة الداخلية.نعم لم يقتنع ذلك المواطن بخسارته، فقرر اللجوء إلى القضاء حيث خسر الجولة الأولى في المرحلة الابتدائية من التقاضي، كما خسرها مجدداً في مرحلة الاستئناف.لكن اليأس لم يوهن هزيمته، ولم ينل من إصراره على استنفاد كافة الوسائل القانونية للطعن بتلك النتيجة، فتقدم إلى المحكمة الدستورية العليا حيث قال محاميه في مرافعته أمامها إنه لا يطعن في نزاهة اللجنة العليا للانتخابات وعلى رأسها وزير الداخلية، بقدر ما يطعن في عدم التزامها بنص القانون الذي يكلف اللجنة باستخدام مختلف الوسائل والآليات الضرورية لضمان نزاهة الانتخابات، ومن بينها إشراف القضاء ورقابة ممثلي الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في مصرَ، ومندوبي المرشحين على عمليات الفرز وإعلان النتائج.وبدوره دافع المحامي العام عن موقف اللجنة العليا للانتخابات موضحاً أنّ عدم استعانتها بالقضاء للإشراف على عمليات الفرز وإعلان النتائج يعود إلى أنّ عدد اللجان الانتخابية في عموم جمهورية مصر العربية يوازي ثلاثة أضعاف عدد القضاة العاملين في السلك القضائي، الأمر الذي جعل الجهاز المختص بالانتخابات عاجزاً عن الاستعانة بالسلطة القضائية حيث أنّ من شأن ذلك أن يوفر لثلث الدوائر الانتخابية إشرافاً قضائياً، ويحرم الثلثين الباقيين منه، وما يترتب عن ذلك من عدم تحقيق العدالة!لعب الموقف التبريري للمحامي العام دوراً حاسماً في إقناع المحكمة الدستورية بغياب شرط الإشراف القضائي على عمليات الفرز ليس فقط في الدائرة الانتخابية للمدعي في القضية المنظورة أمامها.. بل وفي كل الدوائر الانتخابية للجمهورية.. وبناء على هذا الاقتناع أصدرت المحكمة واحداً من أهم الأحكام القضائية في تاريخ القضاء المصري، قضى بعدم شرعية مجلس الشعب، وعدم شرعية جميع أعضائه الذين اكتسبوا عضويته عبر انتخابات افتقدت شرطاً قانونياً يتمثل بضرورة إشراف القضاء على عمليات الفرز وإعلان النتائج.وطلبت المحكمة الدستورية من رئيس الجمهورية تنفيذ صلاحياته الدستورية بحل مجلس الشعب في عام 2001، والدعوة لانتخابات جديدة خلال المدة الزمنية التي حددها الدستور، وتأمين الإشراف القضائي الكامل في جميع الدوائر عن طريق إجراء الانتخابات على ثلاث مراحل، خلال فترة لا تتجاوز شهراً، على أن يتم إعلان نتائج كل مرحلة فور الانتهاء منها.أصيبت دوائر السلطة والمعارضة والمجتمع عموماً بذهول شديد أمام هذا الحكم غير المتوقع.. وأعلن رئيس الجمهورية السيد حسني مبارك احترامه الكامل لأحكام القضاء وحرصه على استقلاله، وأصدر بعد ثلاثة أيام من تسلمه نسخة الحكم الأصلية قراراً جمهورياً قضى بحل مجلس الشعب، ودعوة المواطنين لإجراء انتخابات عامة جديدة خلال ستين يوماً.. ثم كلف وزارة الداخلية وجهازها المختص بتنفيذ كل ما ورد في الحكم القضائي.كان هذا الحكم مفاجئاً لكل الأوساط السياسية في مصرَ، خصوصاً أحزاب المعارضة التي لم يسبق لها أن لاحظت هذا الخلل في العملية الانتخابية، حيث كانت تكتفي عادة بتوجيه اتهامات عمومية توصم الانتخابات بعدم النزاهة، وتتهم الحزب الحاكم بالإصرار على احتكار السلطة وتهميش المعارضة!لكن المفاجأة الكبرى في هذا الحكم القضائي لم تنحصر في تسليطه الضوء على هذا الخلل المنسي في العملية الانتخابية، بل كشفت خللا ًً آخر أكثر خطورة، لا يتعلق هذه المرة بالانتخابات العامة، بل بالحياة الداخلية للأحزاب السياسية.. ابتداءً بحزب السلطة، وانتهاء بأحزاب المعارضة، التي تشمل مختلف التيارات القومية واليسارية واليمينية والإسلامية.لم تتوقف أصداء وآثار الحكم القضائي بعدم شرعية مجلس الشعب المصري الذي تم حله عام 2001 عند هذا الحد.. بل أنّها ساهمت في إحداث حراك سياسي في المجتمع خلال فترة الإعداد للانتخابات اللاحقة، التي قام بتنظيمها وإدارتها الجهاز التنفيذي المختص.. وهو الجهاز نفسه الذي أعد لجميع الانتخابات السابقة، مستخدماً الآليات المعتادة نفسها، بالإضافة إلى آلية الإشراف القضائي التي جرى تطبيقها لأول مرة.. بل أنّ وزير الداخلية ذهب إلى القول حفاظاً على كرامة المشتغلين في هذا الجهاز بفروعه المختلفة في جميع المحافظات، أنّه لم يحدث أي تغيير في العناصر البشرية والمادية والإجرائية والتنظيمية المستخدمة في الانتخابات السابقة، باستثناء إضافة عنصر جديد واحد هو الإشراف القضائي على عمليات الفرز وإعلان النتائج!مثلما كان الحكم القضائي بعدم شرعية مجلس الشعب المصري عام 2001 مفاجئاً للسلطة والمعارضة، فقد أدى تطبيق هذا الحكم إلى أن تسفر الانتخابات العامة الجديدة عن نتائج مدهشة، نزلت كالصاعقة على رؤوس ساسة الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة بكل تياراتها واتجاهاتها.. وطرحت على ساحة العمل السياسي حقائق جديدة تستلزم إعادة قراءة المشهد السياسي والفكري الذي اتضح أنّه لا يُعاني من اختلالات عارضة، تستدعي معالجات دستورية وقانونية إجرائية.. بل يعيش أزمة بنيوية عميقة، تؤشر على وصول البنى التنظيمية والفكرية التقليدية، والنخب السياسية القديمة ومشاريعها البالية، إلى مأزق موضوعي تجسد فيه سقوط عملية الوصاية النخبوية على الحرية والحقيقة والعدالة، وعجز الفكر الأحادي الاستبعادي الشمولي عن مواجهة تحديات المستقبل الذي يحتاج إلى اكتشافات لا شعارات، وإفلاس النخب القديمة التي لازالت تطرح أفكارها الشائخة في صيغة غايات نهائية أو حقائق مطلقة غير خاضعة للنقد أو النقاش، بل للشرح والتفسير، شأنها في ذلك شأن وصفة ((نهاية التاريخ))، المتهافتة التي أصدرها فرنسيس فوكو ياما، بقصد إحلال أيديولوجيا قديمة جامدة يتوهم أنّها انتصرت كغاية نهائية محل العقل الحي والمعرفة المتجددة.[c1]سقوط النخب القديمة[/c]كانت الانتخابات العامة الأخيرة، بعد إشراف القضاء على اللجنة العليا للانتخابات في مصر مؤشراً على ولادة مرحلة جديدة في مسار التطور الديمقراطي للنظام السياسي والحياة السياسية في مصرَ عموماً.. حيث كشفت نتائجها عدداً من الحقائق، أبرزها أنّ الخطر على الديمقراطية لا يأتي من المعارضة كما يقول خطاب السلطة.. ولا يأتي من السلطة بحسب خطاب المعارضة!ولئن كان الطرفان شريكين في صنع أزمات الديمقراطية، فإنّ الخروج منها لا يتحقق بواسطة طرائق التفكير والعمل القديمة التي تسببت في صنع تلك الأزمات.. تلك الطرائق التي تكرس في اللاوعي إدعاء ملفقاً باحتكار الحقيقة، وتعجز في ميدان الواقع عن إنتاج المعرفة به، وتصادر في نهاية المطاف مبادرات الأفراد بفرض وصايتها على الحرية.والثابت إنّ السياسة حين تعجز عن التغيير في السلطة والمعارضة، تصبح عبئاً على الحياة.. ولذلك فإنّ القطيعة مع هذه السياسة تغدو أحد الشروط الأساسية لإحداث التغيير المنشود.وعليه يمكن القول إنّ رفض الناخبين المصريين في الانتخابات التي جرت تحت إشراف القضاء لرموز الممارسة السياسية التي أثبتت عجزها عن تجديد السلطة وتغيير المعارضة معاً، هو رفض بامتياز للسياسة نفسها بصرف النظر عن الاختلاف في مواقع اللاعبين.ما من شك في أن التوجه لتطوير آليات العملية الانتخابية يعد واحدا من أبرز محاور المبادرة الرئاسية الخاصة بتعديل الدستور، على نحو يحقق مزيدا ًمن قوة الدفع لعملية إصلاح النظام السياسي والحياة السياسية حيث اقترحت المبادرة الرئاسية تشكيل لجنة عليا للانتخابات تتكون من القضاة بعيدا عن أي تأثير للأحزاب السياسية. بيد أن الجديد في إشراف القضاء على الانتخابات هو أنّه سيأتي مكملاً للمناخ الذي سينتج عن تطبيق الإصلاحات الواردة في المبادرة الرئاسية، وهو مُناخ ثوري ينطوي على إرادة متفائلة بإمكانية التغيير.. إرادة تستمد حضورها القوي من حاجة الديمقراطية للخلاص من أزماتها.. وحاجة السلطة لتجاوز ركودها.. وحاجة المعارضة لمعالجة تناقضاتها ومعافاة كساحها.. وفوق ذلك كله، حاجة المجتمع لمشروع مستقبلي جديد لا يعيد إنتاج المشاريع البالية التي ترفض الاعتراف باستحالة عودة عصر القوميات الأوروبية، ولا زالت تتمسك بأوهام إحياء نظام الخلافة العثمانية أو الإمامة المتوكلية، وتتوهم بإمكانية انبعاث الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية العالمية.. ولم تدرك بعد أنّ عالم اليوم ليس عالم الأمس.. وأنّ عالم الغد لا يمكن أن يكون نسخة مكررة لعالم مضى وانقضى.قياساً على ذلك، يمكن القول إنّ مصاعب ومشاكل الديمقراطية في بلادنا لا يمكن معالجتها بمجرد إدخال تعديلات على قانون الانتخابات ترضي جميع الأطراف، بقدر ما تتوقف على ضرورة الاعتراف بتقصير الأحزاب السياسية سواء في السلطة و المعارضة عن إخضاع خطابها السياسي وطرائق تفكيرها وعملها للنقد والتقويم، وصولاً إلى تحويل وظائف كل من السلطة والمعارضة إلى تنويعات متفاعلة ومتكاملة في سياق مشروع وطني ديمقراطي كبير.ولا أبالغ حين أقول إنّ نزاهة الانتخابات لا تتحقق من خلال ضمان مشاركة أو عدم مشاركة الأحزاب السياسية في قيادة الجهاز التنفيذي المختص بمهام الإعداد والإدارة والإشراف على الانتخابات، بل من خلال رقابة وطنية فعالة على العملية الانتخابية تمارسها منظمات المجتمع المدني في بيئة سياسية واجتماعية مفعمة بالحيوية، متعافية من الإحباط، مصممة على التغيير، وواثقة من سيادة قوة القانون، بصرف النظر عن الجهاز الذي يقوم بتنظيم الانتخابات.ومن نافل القول إن معالجة الاختلالات في أي عملية انتخابية، لا يمكن تحقيقها بواسطة التوازنات السياسية في قيادة هذه العملية، لأنّ الخطر على الديمقراطية يأتي دائماً من التوازنات التي لا تخلو من مساومات تتحول فيما بعد إلى ألغام قابلة للانفجار عند ظهور أي خلل غير محسوب.صحيح أنّ الاختلالات التي ترافق عمل ونشاط الجهاز المختص بتنظيم وإدارة الانتخابات تلحق تشوهات في وسائل ووظائف العملية الانتخابية.. بيد أنّ هذه الاختلالات تغدو ثانوية إذ تتحول من اختلالات في الوسائل والوظائف إلى تشوهات في مخرجاتها التي تحسب بصورة سلبية على كل اللاعبين بدون استثناء والمقصود هنا الأحزاب السياسية.إنّ المطلوب في وضع كهذا هو تشخيص أثار هذه المخرجات على البيئة السياسية والاجتماعية للديمقراطية بهدف معافاتها ليس فقط من جرثومة المرض.. بل ومن المرضى الذين أصيبوا بها!!هذا التشخيص ضروري جداً لمعرفة نوع ودائرة انتشار هذا المرض، وهو ما يستلزم إخضاع المريض للكشف والمراقبة على يد فريق من الأصحاء المتمثلين بالحيوية والقدرة على الإنجاز.