دلال البزري*:بذل "حزب الله" جهوداً اعلامية، "ذكية"، كالعادة، خصوصا آلته التلفزيونية قناة "المنار"، في تغطيته لغزوة السراي الحكومي الكبير، المسماة: "نظاهرة وإعتصام". تلاعب بالحقائق بتدبّر وإحتراف، وسهّلت صفته "الالهية" تمرير الاباطيل أيما تمرير. لكن كل هذه الجهود الجبارة لم تحلْ دون تحول غزوته الى حدث سيميائي، أو دلالي، بامتياز. تتسرّب منه الاشارات ذات المعاني بعفوية: تنضح بنفسها، ولا تبالي بالحيلة و"التكتّم" عن "تفاصيل" خطة الغزوة السرية (بسرية عملية "الوعد الصادق" يا ترى؟ نفس درجة هولها؟ لا يستطيع المرء ان ينجّم. وحدها الاشارات تنبىء وتلاحظ وتشحذ المخيّلة).)غضب ( جماهير غزوة "حزب الله"، كان غضبا مبرمجا، مؤطراً، اقرب الى الآلة. "عناصر غير منضبطة" تضبطها "لجان الانضباط" (رزق الله على ايام عرفات!). فالنشوة، لا الغضب، هي الطاغية لديها. نشوة "نصر الهي"، أو قلْ غروره. غرور مستجد، يحجبه قليلا الاستضعاف والتهميش التاريخيان، ولكنهما يسفران ايضا عن زيف البراءة. إستفزاز وبذاءة وألفاظ نابية و"تزريك". أغْرتْ "قيادات" الغزوة بالمزيد. فكانت مجزرة للألفاظ والآداب؛ خذْ مثلا تهكّم نصر الله على دموع السنيورة، والمكرّر عبر مكّبرات الصوت.السذاجة ايضا بدتْ مبرمجة. الذين سألتهم قناة "المنار" عن مقصدهم من الاشتراك في هذا الاعتصام الجليل، اجابوا بأن اسقاط الحكومة هدفهم. وان تحقيق هذا الهدف سوف يحل كل مشكالهم. لا فساد، لابطالة، لا اميركا ولا اسرائيل... جماهير موعودة بما لا يقل عن الجنة نعيما ورفاهاً.جمهور "مليوني"... او هكذا ارادت له قناته "المنار" الذاهبة بعيدا في حفلة "التزريك" بالأرقام: نحن ألاكثر... والجهود من اجل ذلك هي الاضخم. من يتذكر احتلال السفارة الاميركية في طهران عام 1979 على يد طلاب "الحرس الثوري" الايراني؟ الذي يتذكر هذه الموقعة، يمكنه المقارنة: غزوة السفارة الاميركية في طهران، تُعاد مشهديتها بعد ثلاثة عقود: غزوة "حزب الله" ضد السراي الحكومي الكبير، ضد "حكومة جيفري فيلتمان" (السفير الاميركي في لبنان). الفارق ان الحرس الثوري الذي قاد الاولى كان في قلب السلطة. اما الثانية، الغزوة اللبنانية، فقائدها زعيم ميليشيا فئوية مسلحة. هل تكرار التجربة "النموذجية"، يفضي الى ما افضت اليه؟ العلم عند الفخَّين اللذين نصبَهما "حزب الله" لنفسه: فإذا تراجع مات، واذا تقدم مات وأمات.جماهير "مكلّفة شرعاً" بتحركها (بالاذن من الشاعر اللبناني يوسف بزي). وذات لون مذهبي واحد؛ ايضا هنا بذلت القناة المساندة، "المنار"، جهودا ملحوظة من اجل نفي صفة الفئوية والمذهبية عن الغزوة كلها. ولكن الشاشة لم تستطع اخفاء الالفاظ والطقوس والعبارات والهندام والخلفيات الجغرافية، والخطب المسجلة للأمين العام والتصفيق الهادر له، مقابل التصفيق الفاتر للحلفاء...جماهير معبّأة منذ شهرين، منذ اول رمضان عندما وعد نصر الله بعد الشهر الكريم بأخذ ثأره من حكومة "العمالة" و"المنتج الاسرائيلي". اعلن حينها عن "هدنة"، ومن بعدها معركة. ضد من؟ ليس ضد اسرائيل التي قتلت ودمرت وشردت. فاسرائيل غائبة تماما عن الغزوة. ولا تُذكر الا لتعزيز القناعات: فالابتهاج تعالى من بين الجمهور، عندما علم بأن اسرائيل تؤيد بقاء السنيورة. انه نصر مبين ان تثبت عمالة الحكومة بلسان العدو. وذلك عملا بقاعدة تفكير عربية شديدة الرسوخ تقول بأن تأييد العدو لخصمك الوطني دليل خيانته. لا لم توجه السيوف ضد اسرائيل، بل ضد رئيس الحكومة، فؤاد السنيورة، الذي انقذ "حزب الله" من الهلاك بالاتفاقات الدولية الممكنة، وقد كابدَ الأمرّين من اجلها. ضد حكومة اميركا وضد اسرائيل في لبنان. حكومة المشروع الاميركي الصهيوني: هل من منحى مذهبي اكثر من ذلك؟ وفي مناخ يعلم به "حزب الله" اكثر من غيره؟ بل هو جزء اساسي من مكوناته؟ثم بعد ذلك تتعجب قناة "المنار" من الذين شعروا بانهم مستفزون. برمجة السذاجة عندها تفضي الى افتعال التناسي بان لا شيء يثير عصبيات الطوائف المختلفة في لبنان اكثر من تناول رموزها وزعمائها، ومن الموقع الطائفي المقابل. هذا واضح من كم الشتائم التي نالت من الخصوم، وبأي عنف وغيرة يُخرس الجمهور نفسه كل من يخدش مقام امينه العام المعصوم.ومن علامات السخرية، مصادرة "حزب الله" في غزوته هذه، لكل الرموز الوطنية اللبنانية. النشيد، الاعلام، مكان التظاهر او الاعتصام، وتسمية الجبهة اخيرا بـ"جبهة وطنية لبنانية". بعد هذه المصادرة، على اللبنانيين إعادة إختراع رموز جديدة لم يلعب بها حلفاء ايران وسورية لعبة النار والجحيم.وهناك ايضا ما يثير الضجر؛ تلك التنظيرات السهلة، المكررة والمُعاد نسخها من تجارب فاشلة؛ وخاصة لدى انصار "حزب الله"، القوميين منهم واليساريين خصوصاً، حول إندراج عمل "الحزب" وانتصاراته وغزواته ضمن معركة "معارضة السلطات القائمة" وما صارت تثيره من حماس جماهيري... فضلا عن المعركة بين "عرب المقاومة" و"عرب الاعتدال" بين "عرب السلطة" و"عرب الشعب"؛ إلتباسات الواقع العربي وفساده الفكري يسمحان بتمرير مفاضلة شعبوية كهذه، وتحويل التعزية الرخيصة بـ"الـنظام العربي" الى منهج للنظر.مفارقة من بين المفارقات. الجنرال ميشال عون كان الخطيب الاول للغزوة. تصور لحظة: الجنرال عون، القائد السابق للجيش اللبناني، والمرشح الرسمي لتحالف طهران-دمشق الى أعلى مؤسسة رسمية في الدولة، رئاسة الجمهورية، صار الآن يسير تحت قيادة ومبادرة "حزب الله" وميليشياه المسلحة و خططه السرية. ان يتحول قائد مؤسسة رسمية جامعة الى حصان من احصنة ميليشيا مسلحة، أميراً من امرائها الواعدين... فهذا ما يدعو الى التوقف. وهذه حالة عربية عامة، مؤشر من مؤشرات انفكاك مؤسسات الدولة، وتفوّق الميليشيات الاهلية المسلحة الفئوية عليها.يستطيع "حزب الله" ان يتلاعب بالحقائق بالقدر الذي تتيحه البيئة اللبنانية الملأى بالالتباسات والالغام، يستطيع ان يقنع جمهوره، المؤمن بقائده ايمان "البسيط" بـ "المعصوم": بأنه مع المحاكمة الدولية لقتلة رفيق الحريري. وانه مع "الوحدة الوطنية". ومع نبذ الطائفية والمذهبية. لكن الشيء الذي لا يقوى على تلفيقه طويلا هو انه بصدد اسقاط حكومة بلاده، منعاً لإنفضاح او سقوط سلطة دولة اولى (سورية)؛ ودعما لسلطة دولة ثانية في طموحاتها الاقليمية (ايران)؛ وكل ذلك طبعا تحت الشعار المعروف: "مجابهة المشروع الاميركي". واما الشيء الذي لا يستطيع ان يتهرب منه "الحزب" على الاطلاق، فهو ان غزوته تهدف، بصورة رئيسية، الى احتفاظه بسلاحه. لو سألته عن البند المتعلق بالسلاح في ا5لقرارات الدولية التي وقع عليها، سوف لن يتلاعب هنا: انه ضدها. ومن شروط احتفاظه بسلاحه، "صمود" دمشق وطهران في لعبة تقاسم النفوذ الاقليمي او تعزيزه."اجندة" الحزب سرية، كما قال نصر الله. سوف تكون مليئة بالمفاجآت. ولو كان الامر لا ينطوي على مأساة كاملة للبلد، لكان مدعاة للتشويق والاثارة. شيء من جيمس بوند، العائد مظفرا الى الشاشة الفضية. فعلا: من يستطيع ان يحزر خطوات الحزب القادمة؟ هل في جعبته التالية او الراهنة تحرير مزارع شبعا والسجناء، كما وعد وبـ"صدق"؟ او نية سرية، مثلا، لحفظ لبنان وأهله وعمرانه وأرواح أبنائه ومصالحهم؟ أو برنامج متكامل، بصفته القيادة الأنتي امبريالية الأنتي صهيونية للبلاد، حول سبُل ٍالتمكّن من اشعال النار مجدداً؟ان كان "حزب الله" يصدق ف5علا بأنه انتصر، و"الهياً"، فعليه ان يحترز. فالنصر الالهي إن اتى، فلا يأتي مرتين متتاليتين. والحال ان الحزب تصرف في غزوته الاخيرة كمن يبدّد النصر الاول؛ فصار مثل بطل قصة رواها الشاعر السوري ممدوح عدوان عن شقيقين قرر احدهما الدخول في خلوة للتعبد. فوصل ايمانه الى درجة استطاع فيها ان يملأ سلّة من القش بالماء دون ان يتسرّب منها. وعند وصوله الى تلك المرحلة الايمانية نزل الى المدينة لكي يطلع اخاه الذي يمتلك محلا لبيع الاحتياجات اليومية للناس على ما توصل اليه. فاستبقاه اخوه مكانه في المحل بعدما علق له سلّة القش في مكان مرتفع من دكانه، وأوكل اليه مهمات البيع والشراء والتعامل مع الناس، ريثما يخبر زوجته بحضور اخيه لتولِم له. وبينما كان الشقيق المؤمن يتابع اعمال اخيه في البيع والشراء، كان الماء يتسرّب من سلة القش الى ان فرغت (من مقال لحكم البابا: أكثر عشر ملاحظات تلفزيونية على غزوة حزب الله البيروتية!!).[c1][email protected]* كاتبة عراقية[/c]
|
فكر
ماذا يبقى من "النصر الإلهي" بعد غزوة السراي الحكومي الكبير؟
أخبار متعلقة